ثانياً: الوضع الإقليمي
-1 الأزمة الأميركية- الإيرانية
كان الحدث الأبرز الذي طفا أخيراً على سطح الأحداث في الشرق الأوسط، الصراع الراهن الذي أخذ يتحرك على صفيحٍ حامٍ بين الولايات المتحدة وإيران. إذ بعد انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي، ومع تسارع وتصاعد العقوبات الأميركية والعمل على منع إيران من تصدير نفطها. راحت تنعكس مفاعيل هذه الأمور بسرعة وقوة على الاقتصاد الإيراني. فانخفضت قيمة العملة انخفاضاً خطيراً، وتصاعد التضخم بنسب عالية، وتدهور المستوى المعاشي للشعب وارتفع مستوى البطالة، واندفع الكثير من الشباب الإيرانيين إلى الهجرة، وبدأت عشرات الشركات العالمية الكبرى تسحب استثماراتها من السوق الإيرانية. ولم ينعكس مفعول هذه العقوبات على الداخل الإيراني فحسب، وإنما ألقى بظله الثقيل على تمويل أذرعة إيران في المنطقة. وهذا يعني إضعاف أدوات التنفيذ لأهم استراتيجيات ملالي طهران، وهي تصدير الثورة ونشر التشيع في المنطقة وتوسيع النفوذ الإيراني، عبر أذرعتها المذهبية الموالية لها في دول الإقليم.
كان الوضع الإيراني المتفاقم وراء الاستفزازات الإيرانية العسكرية الأخيرة في منطقة الخليج، وكانت الرسالة العسكرية الإيرانية للأميركان والغرب عموماً ودول الخليج خصوصاً شديدة الوضوح: ” فإذا كنتم تمنعوني من تصدير نفطي فسأمنعكم من تصدير نفطكم”.
ردت الولايات المتحدة على التحرشات الإيرانية بإرسال حاملة طائرات وسفن حربية وقاذفات ب 52 إلى منطقة الخليج، وأعلنت عن صفقات أسلحة للسعودية والإمارات والأردن وعن إرسال قوات أميركية إلى السعودية. ومن الجانب الاخر أخذ الحرس الثوري يستعرض عضلاته في مضيق هرمز وخليج عمان. ما يحدث في منطقة الخليج ألقى بثقله على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وكان انعكاسه أكثر على الساحات العراقية والخليجية والأردنية باعتبارها الساحات الأكثر تأثراً في حال تحول هذا الصراع إلى حرب ساخنة.
كان من الطبيعي أن تشهد الساحتان الإقليمية والدولية في مثل هذه الأجواء المتوترة انطلاق حملة دبلوماسية لتخفيف حدة التوتر. وفي الواقع شهدنا خلال الشهرين الماضيين ما يمكن تسميته بتسونامي دبلوماسي شمل الكثير من دول الإقليم وخارجه. فكانت دعوة الملك سلمان إلى القمتين الطارئتين العربية والخليجية في مكة المكرمة على هامش مؤتمر التعاون الإسلامي، وذهاب ترامب إلى طوكيو ليجتمع مع رئيس وزراء اليابان الذي توجه بدوره في زيارة رسمية فاشلة إلى طهران للتوسط بين الأميركان والإيرانيين. ومؤشر فشلها جاء من خليج عمان حينما ضُربت ناقلتا النفط اليابانية والدانماركية. وفي موجة ثانية من التحرشات العسكرية الإيرانية طالت الولايات المتحدة مباشرة وأسقط الإيرانيون لها طائرة مسيرة. حاولت دول الاتحاد الأوربي التخفيف من التوتر، فصرحت المستشارة ميركل: “يجب البحث عن حل سلمي للأزمة بين إيران والولايات المتحدة”، وكذلك دخلت فرنسا على خط التوسط بين إيران واميركا. ولكن جاء خطف الناقلات ليعقد الوضع أكثر. فأخذت الولايات المتحدة تعمل على حشد تحالف دولي لحماية الملاحة في مضيق هرمز ومنطقة الخليج عموماً؛ ليس لشن حرب على إيران وإنما لتقوية الحصار عليها لإجبارها على التراجع والدخول في مفاوضات دون تلبية شرطها بإلغاء العقوبات.
واضح أن الطرفين، أميركا وإيران، لا يريدان الوصول إلى حرب بينهما. يعتمد الأميركيون في استراتيجيتهم على حصار إيران وخنقها اقتصادياً، وعلى حشد تحالف دولي لحماية الملاحة في الخليج، وجر أوربا إلى هذا التحالف لتصعيد الضغط على إيران. بينما تعتمد إيران في استراتيجيتها على عرقلة الملاحة ومنع تصدير النفط الخليجي والتهديد بضرب المصالح الأميركية والغربية في المنطقة، وعلى إحداث شرخ بين الدول الأوربية وأميركا بسبب التراجع عن الاتفاق النووي، ومن ضمن استراتيجيتها أيضاً العمل على كسب الوقت والرهان على عدم نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية القادمة. من جهتها تحاول الدول الأوربية مسك العصا من وسطها فيما يتعلق بالكباش الأميركي الإيراني، وحتى الآن لم تحقق شيئاً يذكر في هذا السبيل، انضمت بريطانيا إلى تحالف حماية الملاحة في منطقة مضيق هرمز وعلى الطريق تسير كل من استراليا والنروج والدانمارك ودول أخرى.
2-الوضع العراقي
يعيش العراق بين مطرقة النفوذ الأميركي وسندان النفوذ الإيراني، ولذلك يكون الخاسر الأكبر في أية حرب تحدث بين أميركا وإيران. فقد أعلن جميع القادة السياسيين معارضتهم لهذه الحرب ورفعوا شعار النأي بالنفس عنها. ولكن الفروق بين مواقف القوى السياسية تكمن في التفاصيل. فهي على مختلف مكوناتها مقسومة في داخلها، سواء على مستوى البيت الشيعي او البيت السني أو البيت الكردي.
فهنالك القوى السياسية الشيعية الموالية علناً لطهران مثل جماعة المالكي وميليشيات الحشد الشعبي تتماهى في سياساتها مع سياسة الولي الفقيه، وهنالك قوى شيعية غير منحازة للأجندة الإيرانية ترغب بعودة علاقات الود والتعاون مع الدول العربية. ويمثل هذا الموقف كتلة التيار الصدري المتحالف مع الحزب الشيوعي العراقي والتيارات المدنية الديموقراطية؛ وكذلك كتلة العلاوي وكتلة حيدر العبادي الذي انسحب أخيراً من المكتب السياسي لحزب الدعوة وموقفهما قريب من موقف الصدر.
إن شعار النأي بالنفس الذي يرفعه معظم السياسيين العراقيين يبقى في الظروف الراهنة والبنية السياسية الخاصة بالعراق شعاراً ملتبساً وعلى الورق مثل شعار النأي بالنفس في لبنان. ففي البيت السني أيضاً تباينات في المواقف، فهنالك من هو موال لطهران كجماعة الإسلام السياسي؛ وكذلك الأمر في البيت الكردي، فحزب الاتحاد الكردستاني والكتلة الكردية الإسلامية أقرب إلى طهران. لذلك من الطبيعي أن يتوجس العراق دولةً وشعباً من أي حرب بين الولايات المتحدة وإيران لكونه يرزح تحت نفوذهما. فهناك قواعد وقوى أميركية عسكرية منتشرة في أكثر من مكان في العراق، وهناك الميليشيات الشيعية التي تأخذ أوامرها من إيران بغض النظر عن موقف الحكومة العراقية. نشهد لدى الحكومة العراقية إرهاصات للحد من نفوذ ميليشيات الحشد الشعبي وأصدرت قراراً بضمها للقوات المسلحة العراقية ومصادرة مقراتها ولكن تلقى هذه الخطوة صعوبات جمة وهذا ما شاهدناه في سهل نينوى. وكذلك لايزال يعاني العراق من فلول داعش وفي الأسابيع الأخيرة شهد نشاطات متجددة للتنظيم في محافظات صلاح الدين والأنبار ونينوى.
3- الوضع الخليجي
إن التوجس الخليجي من الخطر الإيراني ليس بجديد فهو منذ خمسينات القرن الماضي في أيام الشاه، وهو لا يزال موجوداً إلى الآن وكامناً في أسس السياسة السعودية والخليجية بشكل عام. ويلعب العاملان الجيوسياسي والديموغرافي دوراً هاماً في هذا السياق؛ ولقد تضاعف التوجس الخليجي كثيراً بعد عام 1979 حينما أخذ يلبس الطموح القومي الفارسي لبوساً مذهبياً واضحاً ومعلنا. ولقد وصل توجس الخليجيين إلى درجة غير مسبوقة في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي مارس سياسة اميركية مهادنة لإيران. فأخذ قادة الحرس الثوري الإيراني يتباهون بسيطرتهم على أربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. وها هم الحوثيون يطلقون الصواريخ البالستية ويرسلون الطائرات المسيرة إلى السعودية. وكذلك حزب الله يعطل الحياة السياسية في لبنان ويحارب مع إيران في سوريا، والحشد الشيعي يحاول بناء دويلة موازية في العراق. ولقد جاءت الأحداث الأخيرة في الخليج لتفجر الأزمة القديمة الجديدة بين واشنطن وطهران. ولكن التمايز بين مواقف دول الخليج واضح، فهناك الموقف السعودي-الإماراتي البحريني الذي يطالب بإجراءات حاسمة ضد إيران لردعها عن التدخل في شؤون الدول الخليجية والعربية. وهناك موقف كويتي يميل إلى الاعتدال دون أن يخرج عن الموقف السعودي عموماً، بسبب موقعها الجغرافي وتركيبتها الديموغرافية. والموقف المتمايز الأوضح لدى سلطنة عمان الذي يتجه دائماً إلى التهدئة ولعب دور الوسيط بين الخليج وإيران. أما قطر فتغرد خارج السرب الخليجي وفي هذه الأيام تحاول أن تتماهى مع الموقف التركي ومنذ أزمتها مع السعودية والإمارات والبحرين تقيم علاقة طيبة مع طهران وقد اعتادت على لعبِ أدوار متناقضة.
وفي السياق الخليجي يجب عدم تجاهل الحرب الدائرة في اليمن التي تضغط بشكل كبير على مواقف الدول الخليجية واقتصادها، وإيران تحاول بكل السبل زج أذرعتها العسكرية في المنطقة وتوظيفها في خدمة مصالحها. وما زاد الوضع سوءاً وإرباكا في الوضع الخليجي انفجار الصراع الجديد في عدن بين ما يدعى بالمجلس الانتقالي في الجنوب والجيش اليمني.
-4الوضع التركي
لا يوجد حالياً وضع سياسي متقلب أكثر من الوضع التركي الذي يقوده أردوغان. فتركيا الدولة الأطلسية على خلاف وتوتر مع زعيمة هذا الحلف، الولايات المتحدة والغرب عموماً، وتستورد صواريخ س-400 من روسيا وبدأ الكلام عن استيرادها سوخوي -35. إنها “حليفة للمعارضة السورية” وتنسق منذ أكثر من ثلاث سنوات في أستانا مع روسيا وإيران حليفي النظام السوري، والمناوئين للمعارضة بضراوة. وبشكل عام، علاقتها بأميركا والغرب قائمة على عدم الثقة. بسبب تورطهما بالانقلاب العسكري الفاشل عام 2015، ولأسباب أخرى إيديولوجية فهي على علاقات متوترة مع مصر والإمارات العربية والسعودية، وعلى علاقة وطيدة مع قطر المشتبكة مع دول الخليج، ومتحالفة معها على الساحة الليبية في دعم الفصائل الإسلامية والجهادية في طرابلس. وفي المقابل هي على علاقة طيبة بإيران لأسباب سياسية واقتصادية ونفطية. ولذلك يلحظ موقف تركي بارد قريب من الصمت بالنسبة إلى الأزمة المتفجرة بين أميركا وإيران.
والوضع السوري هو الأكثر إرباكاً لها، فقد بنت كل سياساتها منذ بداية الثورة السورية على خوفها من قيام دويلة كردية في الشمال السوري. ولقد دفعها الخوف من النشاط الكردي إلى أخذ مواقف متناقضة من القضية السورية، ووضعها في تناقض مع الولايات المتحدة وخاصة إصرارها على المنطقة الأمنة، ووصل التصعيد بينهما إلى التهديد العسكري، ولنزع فتيل الحرب تم التوافق مؤخراً على مسودة اتفاق بين الطرفين بتشكيل قيادة عسكرية مشتركة لإقامة منطقة أمنة في الشمال السوري. ملامح هذا الاتفاق غير واضحة، لكن يمكن اعتباره توافقاً أولياً أو مرحلة تمهيدية لإقامة هذه المنطقة، لكن الكثير من القضايا الجوهرية بقيت عالقة، مثل عمق وطول المنطقة الأمنة، وإدارتها ومصير الميليشيات الكردية لـ pyd وغيرها. أبعد هذا الاتفاق شبح هجوم تركي على شرق الفرات. ونعتقد أن الولايات المتحدة لن تسمح بقيام منطقة أمنة وفق الرؤية التركية. كما أن هذه المنطقة ليست من أجل السوريين وحمايتهم، بل من أجل مصالح تركيا وحماية أمنها القومي. كما تتعرض تركيا الآن لضغط كبير من الهجوم الأخير الذي شنته روسيا والنظام السوري على إدلب وريفي حماه الشمالي واللاذقية منذ أواخر نيسان؛ وهذا ما دفعها إلى تجديد دعمها لقوات للمعارضة السورية في تلك المناطق، وبعد أستانة13 عادت لتخفف دعمها مما أدى إلى تقدم النظام في المنطقة العازلة. ويبدو أن تركيا لا تعاني فقط من أزمة ثقة مع الولايات المتحدة وإنما مع وروسيا أيضاً. ومواقف تركيا المتناقضة تسمح لنا بالقول بوجود صراع عليها بين الدولتين الكبريين، فكل منهما تريد أن تجرها إلى صوبها أكثر. وتعاني تركيا في الفترة الأخيرة من مصاعب داخلية اقتصادية وسياسية ويتعرض حزب العدالة والتنمية لموجة من التراجع والانقسام وتخرج منه رموز كبيرة لتشكل حزباً آخر. يبدو أن تركيا ترزح الآن تحت ضغط وإرباك كبيرين. وربما هي في وضع لا تحسد عليه.
5-الوضع السوداني
لقد استطاع الشعب السوداني بوعيه وصموده وانضوائه تحت قيادة موحدة أن يطيح بعمر البشير الذي تحكم بمصير الشعب السوداني لمدة ثلاثة عقود منذ انقلابه العسكري المدعوم من حزب حسن الترابي الإسلامي في عام 1989. ولقد حظي الثوريون السودانيون بسلوكهم الواعي وإصرارهم على السلمية بفرصة اندفع فيها الجيش السوداني نتيجة عوامل مختلفة إلى موقف معتدل نسبياً من التظاهرات الشعبية ضد حكم البشير. فيبدو أن كلاً من الشعب والجيش قد استخلصا الدروس من تجارب انتفاضات الموجة الأولى من الربيع العربي. ولقد تمكن السودانيون من أن يعطوا مثالاً ثوريا واعياً، ولم تعطِ القيادة العسكرية السودانية آذاناً صاغية لأوامر البشير بقمع المتظاهرين بقوة السلاح واستخدام العنف المفرط وإرهاب الدولة ضد الشعب المطالب بحرياته وحقوقه الديموقراطية المشروعة. وربما البشير قد صار عبئاً ثقيلاً على العسكريين فانقلبوا عليه وهو يقبع الآن في السجن.
لكن المعضلة المزمنة في كل العالم العربي تكمن في العسكر وطموحاتهم السلطوية. فقد مضت أشهر على التفاوض بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى الحرية والتغيير ولم يتم الاتفاق على خارطة طريق للمرحلة الانتقالية. فطموحات العسكريين السلطوية دفعتهم للتصلب في المفاوضات طامعين بالسيطرة على المجلس السيادي المقترح، وهذا ما رفضته قوى الحرية والتغيير. حاولت فلول الحكم البائد وبقايا الدولة العميقة أن تنقض على الثورة الشعبية. فشنت بعض القوى من الجيش هجوماً بالسلاح في 4 حزيران على الجماهير المحتشدة في ساحة الاعتصام وسقط أكثر من مائة شهيد وعدد كبير من الجرحى. لكن الثورة الشعبية استمرت في صمودها وعمت المظاهرات والاعتصامات معظم المدن السودانية، وتوقف التفاوض بين الطرفين. فدخل على خط الوساطة بينهما جهات عدة منها رئيس الوزراء الأثيوبي الذي زار السودان وكذلك دخل على خط الوساطة الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية. وحالف النجاح الوساطة الإثيوبية / الأفريقية، وتوصل الطرفان إلى الاتفاق على الإعلان السياسي. وفي 17 آب 2019 تم الاحتفال بالتوقيع على الإعلان السياسي والإعلان الدستوري بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي، حضره حشد كبير من ممثلي الدول ورجال الاعلام وجمهور كبير من الثوار. إن التوقيع على وثائق المرحلة الانتقالية هو تقدم إلى الأمام ويضع السودان على طريق بناء الدولة الوطنية الديمقراطية دولة الحق والقانون والمواطنة، لكن هذا الطريق لن يكون مفروشاً بالورود.
6-الوضع الجزائري
ما أشبه الحراك الشعبي الجزائري بالحراك الشعبي السوداني. فالثوار الجزائريون بتوحد شعاراتهم ومطالبهم وبإصرارهم على السلمية ونبذ العنف والتطرف استطاعوا أن يطيحوا بحكم بوتفليقة وبعض الرموز من الطبقة الحاكمة الفاسدة، وأن يكشفوا عن العصابة التي بقيت لفترة طويلة تنهب ثروات الجزائر وخيراتها. ولكن العقدة التي لا تزال مستعصية في الجزائر هي بين قوى الثورة والمؤسسة العسكرية التي تتمحور حول شروط الفترة الانتقالية وموعد انتخابات الرئاسة. وهنا نرى أيضاً مفاعيل الدولة العميقة التي تدفع أنصارها إلى التجمع من جديد. ويبدو أن عقدة العسكر هي مأساة معظم إن لم نقل كل الأنظمة الجمهورية الشكلانية التي أكثر ما تمقت أفكار الجمهورية والديموقراطية والحرية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، وأكثر ما تحب تماهي الدولة بالسلطة وعدم التفريق بينهما. في الواقع من أصعب وأوعر أنواع النضال هو النضال من أجل الديموقراطية وسيادة القانون. في كل الأحوال ما أنجزه الشعب الجزائري حتى الآن مرموق وعظيم. وما زال الطريق أمامه محفوف بالمخاطر أمام تعنت العسكر وتمسكهم بالمسار الدستوري.
ثالثاً: المؤثرات الدولية في الوضع السوري
لم يعد خافياً أن سورية ترسف الآن تحت وطأة خمسة احتلالات أجنبية، ولا يبدو في الأفق مدى الزمن الذي ستبقى فيه هذه الاحتلالات مسيطرة على أرض الوطن السوري وسيادته وقراره السياسي وثرواته وكامل مقدراته. وستكون الدول المحتلة الخمس من أكثر العوامل الخارجية تأثيراً على تطورات الوضع، ولقد تراجع تأثير العوامل الداخلية على الصيرورة السورية إلى درجة غير مسبوقة.
1-الموقف الأميركي
رغم أن الاهتمام الأمريكي يتركز على الصين وآسيا، فمن الواضح أن الإدارة الأميركية متمسكة بحضورها الاستراتيجي في شرق وشمال سوريا بشكل أو بآخر. وهذا ما يقلق روسيا وإيران، لكونه يشكل أداة قوية بيد الأميركيين من أجل تنفيذ سياساتهم وممارسة ضغوطهم الكبيرة على البلدين. ويمكنهم هذا الحضور من اعتماد القوة الناعمة لخنق النظام سياسياً واقتصادياً وقانونياً. وإن ملفي اللاجئين وإعادة الإعمار يشكلان ورقة ضاغطة على الروس من أجل القبول بالحل السياسي وفق إعلان جنيف وقرار مجلس الأمن 2254.
فقد أفشلت الولايات المتحدة، والأوربيون، ما قام به الروس من محاولات لتطبيع الدول العربية علاقاتها مع النظام السوري. فجمدت الجامعة العربية مناقشة عودة سورية إليها في الوقت الراهن. وتوقفت بدايات الانفتاح السياسي والاقتصادي العربي على النظام نتيجة الضغوط الأميركية على مصر والأردن ودول الخليج، وكذلك تمكنت الولايات المتحدة من دفع الإمارات والأردن إلى تجميد الانفتاح الاقتصادي معه. وكان مضمون التحذير الأميركي واضحاً لحلفائه في المنطقة، وهو أن التبادل الاقتصادي مع نظام الأسد يشكل خرقاً للقوانين الأميركية، وقد وجاء هذا التحذير قبيل صدور قانون “قيصر”.
لكن الولايات المتحدة لم تتبنَ حتى الآن استراتيجية واضحة خالية مما يسمى بالغموض الاستراتيجي فيما يتعلق بالحل السياسي في سورية. لكنها تتحمل مسؤولية كبرى عن الوضع المأساوي الراهن. فقد طغت مصالحها المباشرة على اي دورٍ إيجابي يمكن أن تلعبه. إن مخاطر سياساتها ومواقفها تتجاوز المحنة السورية لتعم المنطقة عموماً وذلك انطلاقاً من مصلحتها في إجهاض ثورات الربيع العربي وتحويلها إلى أزمات مفتوحة يسهل استثمار مخرجاتها لصالحها. ولقد غضت الطرف لفترة طويلة عن تدخل إيران وميليشياتها في سوريا المترافق مع نشر النزوعات المذهبية والطائفية ضمن البلد الواحد، وتعريض دول المنطقة للصراعات والحروب المفتوحة، بعد أن ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في ظهور داعش. وكذلك هي من استدرج روسيا إلى التدخل العسكري المباشر، وذلك طمعاً في إغراقها هي وحلفائها في بحر من الاستنزاف العسكري والسياسي والمالي وكل هذا كان تحت يافطة “إدارة الأزمة من الخلف”. ولقد لعبت السياسة الأميركية دوراً كبيراً في تحجيم الدور الأوربي والحد من وجوده وتأثيره في المنطقة. وهذا ما شاهدناه طوال فترة حكم أوباما ولم تخرج الإدارة الحالية كثيراً عن هذا الإطار. وفي هذا السياق يمكن وضع الولايات المتحدة على رأس قائمة المسؤولين عن كل هذا الدمار والخراب وهذه الدماء من دون أن تتحمل وزر اية خسائر بشرية أو مالية او سياسية. ومن هنا يلاحق سوء السمعة روسيا وملالي إيران واكتفت هي بالإمساك بخيوط اللعبة وإدارة الأزمات عن بعد، وزج الآخرين في صراعات منهكة للجميع لتبقى هي وإسرائيل الرابح الأكبر. وهذه السياسة ليست جديدة على الولايات المتحدة فكانت قد طبقت استراتيجية الاستيعاب المزدوج في عام 1980 في الحرب العراقية الإيرانية. وموقفها الآن من حليفتها القديمة تركيا ليس بعيداً عن هذه السياسة، في استيعاب الخصوم وكذلك حلفائها المختلفة معهم.
2-الموقف الروسي
وقفت روسيا منذ انطلاق الثورة السورية إلى جانب النظام. فأخذت تمده بكل أشكال الدعم اللوجستي والعسكري، وحمته سياسياً ودولياً عبر أكثر من دزينة من الفيتويات في مجلس الأمن. لكن هذا الدعم تحول بعد 30/9/2015 إلى غزوٍ واحتلال مباشر وذلك بعد أن تبين لروسيا والعالم أن النظام على شفا الانهيار. وبعد ان فشل ملالي طهران وميليشياتهم وحزب الله في حمايته وتثبيته. إن قرار الغزو الروسي لم يكن خارج إرادة أوباما وضوءٍ اخضر منه، ولقد سلّم كيري المهمة السورية إلى لافروف حينما قدم له “حبة البطاطا المشوية” في موسكو. وبطبيعة الحال كان يهدف التنسيق الروسي الأميركي في تلك اللحظة إلى إجهاض الثورة ومنع انهيار النظام.
لقد ساهم الغزو الروسي والاحتلال الإيراني مساهمة اساسية في تحويل سورية إلى ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية والدولية، وفتحا الباب لحروب لا تنتهي على حساب دماء شعبنا وحاضره ومستقبله. ويبدو أن الهدف الاستراتيجي الأول لغزو الروس كان التمسك بآخر منطقة نفوذ لهم في شرق المتوسط وهو ما تستميت إدارة بوتن من أجله. وهذا لا يتيسر إلا بإنقاذ النظام وإعادة تأهيله، وسحق الثورة بذريعة “محاربة الإرهاب”، وفرض مشروعها للحل السياسي. ويشكل في الوقت نفسه رافعة عودتها إلى الساحة الدولية واسترجاع مكانتها المفقودة كما كانت في العهد السوفييتي. أما الهدف الاستراتيجي الثاني للغزو فهو سعيها لحيازة الفضاء السوري (ميدانياً وسياسياً) لاستخدامه كمنصة شرق أوسطية لابتزاز الغرب عموماً في مسائل عديدة في العالم، وخاصة في اوربا؛ سواء ما يتعلق بالعقوبات الأميركية والأوربية أو ما يتصل بأوكرانيا وجورجيا والقرم ودول البلطيق وتمدد حلف الأطلسي إلى حدودها، مروراً بتحديات الدرع الصاروخي وانهيار اسعار النفط. وعلى ما يبدو كل هذه التحديات والطموحات، من وحهة النظر البوتينية ستعثر على مفتاحها السحري في غزو واحتلال سورية كورقة رابحة في مواجهة الغرب. وتتطور الاستراتيجية الروسية على وقع التطورات السياسية والميدانية. فقد عززت وجودها العسكري ببناء المزيد من المطارات العسكرية والقواعد البحرية، وعلى المستوى السياسي فرضت أستانا وسوتشي لدعم النظام وتغيير موازين القوى على الأرض لفرض رؤيتها للحل السوري وتنصلها من الانتقال السياسي ومستقبل النظام ورئيسه وبيان جنيف وكل القرارات الأممية الصادرة عن مجلس الأمن. كما تعزز روسيا وجودها في مفاصل صنع القرار السوري، ويدخل في هذا الإطار سيطرتها على هيئة الأركان وبعض الفرق العسكرية، وتشكيل الفيلق الخامس تمويلاً وتسليحاً، والتدخل في مناصب النظام الأمنية والعسكرية وتفغيل دورها فيما تسميه “المصالحات”، والإشراف على عمليات التهجير القسري. وبالإضافة إلى إمساكها بالحيز العسكري والسياسي والدبلوماسي، فقد باشرت بالحيز الاقتصادي وإبرام اتفاقات مع النظام كالسيطرة على مرفأ طرطوس والفوسفات والمطارات والنفط والغاز والطرق وغيرها. ولكي تحقق أهدافها، أقامت علاقات وثيقة وجسور اتصال وتنسيقات مكثفة مع إسرائيل لطمأنتها على امن حدودها. وقد عولت الأخيرة كثيراً على هذا الغزو الداعم لتثبيت نظام الأسد الضامن لأمن حدودها الشمالية، وللحد من النفوذ الإيراني فيها. لكن رغم كل ما حققته روسيا في سورية، من إنجازات عسكرية وجيوستراتيجية لكنها، فشلت في ترجمتها إلى انتصارات سياسية، لكونها دولة شمولية استبدادية مافيوية بعيدة في تفكيرها عن فكر الحرية والديموقراطية، ولذلك لا تخرج في مشاريع الحل السوري عن نمط نظام الحكم السائد لديها. وكذلك فالأزمة السورية صارت أزمة دولية يتطلب حلها توافقاً دولياً. ولذلك وجدت موسكو نفسها في مأزق يستنزفها باستمرار، ويضعها في موقع العداوة للشعب السوري، وهي مستمرة في سياسة الهروب إلى الأمام.
3-الموقف الأممي والدولي
رغم الخطوات الأممية الأخيرة فيما يتعلق باستخدام السلاح الكيميائي وتحديد مسؤولية من استخدمه، وبحث مجلس الأمن تورط نظام الأسد في ارتكاب جرائم إبادة وعنف جنسي واغتصاب بحق الشعب السوري منذ العام 2011. وقالت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية ” أن أكثر من 100 ألف مواطن سوري تعرضوا للاحتجاز أو الاختطاف أو الاختفاء منذ 2011 والنظام السوري متورط بشكل أساسي في هذه العمليات”، وكررت في جلسة مجلس الأمن دعوات الأمين العام لضرورة إحالة الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية.
إن المشروع الدموي الروسي في سورية ما كان ليتبلور وتتكامل أبعاده، لولا المناخات الدولية والإقليمية المؤاتية لتطوره، فهي التي ساهمت في صنع الكثير من التطورات الميدانية والسياسية التي عكست حقائق الوضع الدولي بكل بشاعاته واستعصاءاته وعجزه المزمن عن وضع حدٍ للعبة المصالح والأجندات الخفية القاتلة على حساب الشعوب الطامحة إلى الكرامة والحرية والمساواة. وكذلك كشفت التطورات الميدانية والسياسية في سوريا عن مدى التهافت السياسي والأخلاقي الذي يسم المجتمع الدولي في هذه الحقبة.
إن الهمجية التي تجري في سورية، والتي يستمر مسلسلها في ادلب وشمال حماة الآن لا يتحمل مسؤوليتها فقط صانعوها من الدول المتدخلة والمحتلة، وإنما يتحمل جزءاً كبيراً من هذه المسؤولية المجتمع الدولي والمنظمات الأممية وما يتفرع عنها من مؤسسات وهيئات تعمل تحت جناحها مثل الجمعية العمومية ومجلس الأمن. حيث عجزت عن ممارسة مهامها ومسؤولياتها وفق القانون الدولي ومبادئ حفظ الأمن والسلم الدوليين، وفشلت في تطبيق شرعة حقوق الإنسان ووضع حدودٍ للنزاعات المسلحة وحروب الإبادة والمجازر الدموية، وتنفيذ القوانين والقرارات الدولية. ولم تتمكن المؤسسات الدولية أن تكون نصيرة للشعوب المضطهدة المناضلة من أجل قهر الاستبداد وتحقيق تطلعاتها ونيل كراماتها وحرياتها؛ وإنما أصبحت شبكة معقدة للحفاظ على مصالح الكبار ورعاية تقاسم مناطق النفوذ والموارد بينهم. ولقد أصبح مجلس الأمن منصة لصراع أعضائه الدائمين وبما يتفق مع تسوياتهم وصفقاتهم على حساب الشعوب المستضعفة.
دمشق 19/ 8/ 2019
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري