لا يكفي أن تنتخب ديمقراطيًا لكي تحصّن نفسك من غضب الشعب ومن تمرده، فالحكم سيكون في النهاية على الإنجاز الذي تحققه وعلى قدرتك على اجتراح صيغة سياسية قادرة على إقناع ناخبيك، وعدم الاصطدام مع ثوابتهم ومزاجهم.
أرد وغان الذي لبّى شعبه نداءه لإفشال الانقلاب لم يكن مجرد زعيم منتخب ديمقراطيًّا، ولكنه رمز لإنجازات كبيرة على كل الأصعدة لمسها الأتراك في كل شأن من شؤون حياتهم، ولا يستطيع إلا مكابر إنكارها، وذو خطاب يحقق التوازن الصعب بين العلمانية وبين المزاج الديني السائد لدى عموم شعبه.
الانتخابات التي جاءت بمرسي إلى سدة الحكم في مصر لم تستطع حمايته من انقلاب أطاح به، لأن الخطاب المعتدل الذي كان يزعم أنه يقدمه لم يكن قادرًا على التحقق (وهو تجسيد الخطاب عملياً) والترسيخ (وهو تحويله إلى مكون متناسج مع البنية الذهنية والنفسية للمستهدف به) وهما شرطان في أي خطاب سياسي لكي يزهر قبولًا ودعمًا شعبيين.
تحدث كثر من المتابعين للشأن التركي إبان حكم العسكر عن انقسام نفسي يعانيه الشعب التركي بسبب محاولة أتاتورك اجتثاثه من جذوره واقتلاع سردية تاريخية لهذا الشعب يقع الإسلام في بؤرتها، غافلًا عن قاعدة من قواعد الاجتماع، فحواها أن منظومة فكرية وتركيبة نفسية يسمان شعبًا من الشعوب تحتاجان زمنًا مطابقًا على الأقل للزمن الذي استوطنتا فيه في العقل والوجدان الجمعيين لهذا الشعب لكي يمكن تفكيكهما والاستبدال بهما منظومة فكرية وتركيبة نفسية أخريين.
وهو الانقسام النفسي الذي استطاع الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية أن ينقذ الشعب منه من خلال صياغة توفيقية براغماتية تنسجم مع الحقل التداولي المشترك لهذا الشعب، وعدم الاكتفاء من ثمّ بصياغة هذا الخطاب، وإنما تحقيقه وترسيخه عن طريق تلبية حاجات الناس الكامنة والظاهرة.
الفرق بين الحضارة والهمجية هو الفرق بين زعيم يدعمه شعبه كأردو غان، وبين مسخ زعيم يصبّ نيران أسلحته فوق رؤوس أبناء شعبه الذين طالبوه بالرحيل كبشار الأسد.
الفرق بين ديمقراطية يدافع عنها مؤيدو الحزب الحاكم ومعارضوه، وبين ديمقراطية مستوردة ما لبثت أن أجهضت في سورية الخمسينيات هو الفرق بين ديمقراطيّين قد تمثّلوها رغم اختلافهم في الرؤى، وبين مستوردين لها لم يستطيعوا حمايتها لأنهم استخدموها استخداما اداتيًا لخدمة مصالح طبقية سهّل إجهاز العسكر عليها سريعاً.
إن استدارة ارد وغان الأخيرة نحو روسيا واعتذاره منها لا تفهم إلا في سياق القدرة المتجددة على الاستجابة لظروف الواقع المتبدلة، والحرص على مصلحة الوطن قبل أي شعار آخر مهما بلغت أهميته.
وهو حرص لم يكن عصيًّا على الشعب التقاط جذره الوطني، والاندفاع بهذا الزخم الرائع للدفاع عن صاحبه عندما اقتربت منه حراب العسكر الحاقدة.
إن أهم درس مستفاد من محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا هو أن تقديم السياسة على الفلسفة، بمعنى تحقيق وترسيخ خطاب الديمقراطية عبر إنجازات، وعبر انسجام مع الوجدان الجمعيّ، ومن خلال مرونة سياسية تضع في رأس أولويّاتها مصلحة الشعب هي العوامل الأساسية الكفيلة بدفاع هذا الشعب عنها مهما بلغ حجم تحفظاته على الأداء السياسيّ لحاكميه.
ومن المهم أخيرًا التأكيد أن إرادة الشعب التركي التي حمت ديمقراطية تركيا ليست أكثر قوة وعزمًا من إرادة الشعب السوري التي لا بدّ ستطيح بجلاديه مهما طال الزمن.
رئيس التحرير