مناف الحمد
لما كان دليل الحدوث في علم العقيدة الإسلامية هو الذي يفضي إلى إثبات الخالق؛ بناء على أن الرجحان من دون مُرجح مستحيل؛ لتساوي العدم والوجود من حيث الإمكان، فيكون ترجيح الوجود على العدم إنما حصل بترجيح مرجح، وبما أن العودة إلى ما لانهاية في المُرجحات مستحيلة؛ لبطلان التسلسل، فإنه لا بد من الوقوف عند علّة للوجود هي مصدره الواجب، غير الممكن، الذي لا مصدر فوقه، فيكون قطع التسلسل ضروريًا؛ لكي يستقيم هذا الدليل.
ولكنّ قطع التسلسل السببي في أي مرحلة لا يكون بدليل، ولهذا تراه قطعًا تحكميًا، وهو ما تنبه إليه (ابن خلدون) الذي قال: إن العلّة الأولى لا يُتوصل إليها بالقطع التحكمي للسلسلة؛ لأن القطع من دون دليل، خصوصًا، وأن الأسباب ليست خطية، ولا بسيطة، ولكنها تنداح أفقيًا وعموديًا، وتتركب، وتتشابك، فلا يمكن للعقل، وهو يتابعها، أن يحيط بها علمًا، ولا هو بقادر على فهم كيفية تأثيرها في ما تؤثر فيه.
ولأن العقل قاصر، فلا بد من القفز إلى العلة الخالقة الأولى، من دون قطع السلسلة؛ بحجة منطقية هي عجز العقل عن متابعة الأسباب، وهي -على تعقيدها- في التسلسل، وحاجته -في الوقت عينه- إلى تعليل كل حادث بمحدِث له.
قصور العقل هو الذي يفضي إلى الإيمان، وليس قدرته على الإحاطة بالأسباب، والعجز عن إدراك التسلسل السببي، في أبعاده كلها، هو الذي يضطره للقفز؛ اعترافًا بعجزه.
إن تطور مفهوم السببية الذي يُعد مبدأ العلم، والذي لأجله افترى بعضهم على الفكر الإسلامي، واتهموا بعض رموزه بإنكار العلم؛ لإنكارهم مبدأ السببية، يُعزّز هذه النظرة للتنوع في الأسباب، ولتكاثرها، واندياحها في الأبعاد كلها، فالسببية في المفهوم المعاصر ليست سببية خطية فحسب، وأنىّ لها أن تكون كذلك في عالم يكشف -كلّ يوم- عن دهاء ورحابة لا حدود لهما.
فثمة سببية غائية تُحدث فيها العلة معلولها بدالة الغاية في الآلات السيبرنطيقية، وسببية الارتكاسية يرتد فيها المعلول إلى علته، مُتحولًا إلى علة، وسببية سلبية لا تحدث فيها العلة معلولها.
ولقد اختصر (إدغار موران) هذه السببية المركبة في مشروعه عن المنهج في عدة جدليات منها:
أسباب مختلفة تؤدي إلى نتائج واحدة.
أسباب كبيرة تؤدي إلى نتائج صغيرة، وبالعكس.
أسباب متطابقة تؤدي إلى نتائج مختلفة.
ولقد كان أبو حامد الغزالي مُدركًا لتعقيد المسألة عندما فكك القضية السببية تفكيكًا ظنّ بعضهم أنه إنكار للمبدأ، والحقيقة أن أبا حامد لم ينكر مبدأ السببية، ولكنه (انتظامًا في مقولات مدرسته) قد أنكر تطبيعه؛ من أجل ردّ كل الأسباب إلى الله، وهو (في سبق لعصره) قد فكّك القضية السببية إلى قضيتين شرطيتين:
قضية شرطية إنيّة: وهي التي يكون مقدمها مبتدأ بـ (إن)، ومثالها: أيًا كان الشيء، من أشياء العوالم القريبة المشاهدة، إن لاقى النار احترق.
وقضية شرطية لوية: وهي التي يبدأ مقدمها بـ (لو)، ومثالها: أيًا كان الشيء، من أشياء العوالم البعيدة التي لا نشاهدها، لو لاقى النار احترق.
ولأن القضية الشرطية الإنية التي مثالها المشهور: إن كان العالم حادثًا، فله صانع قضية يحتمل مقدمها (حدوث العالم) الصدق والكذب.
والقضية اللوية التي مثالها المشهور: لو امتلك الانسان جناح الطير لطار في الهواء، معلومة القيمة الصدقية لمقدمها، وهي الكذب، فإن ما كان ينكره أبو حامد ليس الاقتران المشاهد بين النار والاحتراق في أشياء العالم المحسوس، ولكنه كان ينكر إمكانية تعدية هذا الاقتران إلى أشياء العوالم البعيدة التي تعبر عنها القضية الشرطية اللّوية.
وليس هذا الإنكار إلا ريادة لأبي حامد الذي أثبتت بُعد نظره نتائج الفيزياء الحديثة التي فقد فيها السبب والمسبب جوهريتهما في أعماق المادة التي تحكمها -اليوم- اللاحتمية، والتي أصبح الاحتمال فيها واقعًا موضوعيًا، ليس ناتجًا عن قصور أدوات المراقب، وفقد فيها الشيء جوهريته، وأصبح غير موجود إلا في العلاقة في كون هو بنية علائقية.
لا يقوم التوحيد على افتراض أرسطي بجواهر الأشياء، يقسم الأشياء إلى جواهر وأعراض، ويقول إن الجوهر لا ينفك عن العرض، وبما أن العرض حادث، فالجوهر حادث مثله، وكل حادث لا بد له من محدث، فالجوهرية لا وجود لها -اليوم- في الكون العلائقي.
ولا يقوم التوحيد على قطع تحكّمي لسلسة الأسباب في مرحلة يحددها المستدّل من دون وجه حق، مقصيًا الطبيعة عن التأثير؛ لكي يعزو التأثير لواجب الوجود، فلا يوجد ما يبرر له هذا القطع في مرحلة يختارها.
ولا يقوم التوحيد على سببية خطية، لا يتخلف فيها المعلول عن علته جمودًا عند مورفولوجيا الجسم الصلب، وجهلًا بما حلّ بالسببية من تطورات كشفتها عوالم الميكرو فيزياء، وتحوّل المادة إلى طاقة، وثبوت الاحتمالية مبدأً حاكمًا لهذه العوالم.
السببية التي لا تتخلف وهم، وهي قيد يُمعن استبدادًا في العقل الإنساني، ويصادر حريته، بوصفه كائنًا في الوجود، ومن ثمّ، كل الحريات البعدية المشتقة من هذه الحرية الأنطولوجية: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.
الاحتمالية واللاحتمية تفسح للإنسان، بوصفه كائنًا في الوجود، حريته، والاعتراف بقصور العقل إدراك لعدم الإدراك، هو تجلٍّ لهذه الحرية التي تتيح له القفز إلى علة الوجود، من دون قطع للتسلسل من دون مستند.
في التراث الكلامي خيط لدرك الحرية الأنطولوجية، أشرنا إليه عند أبي حامد، وهو يفند ما دأب دجالو الفكر العربي على تكريسه من وصم لأبي حامد برائد استقالة العقل في الفكر الإسلامي.
وما أشار إليه ابن خلدون، من ضرورة القفز إلى العلة، منح للعقل قدرة على تحقيق التوازن بين الحاجة إلى الأسباب، من جهة، وعدم قطع تسلسلها تحكميًا، من جهة أخرى، وهذه القفزة شكل من أشكال الحرية.
وفي الاعتراف بقصور العقل تخلص من استبداد وهم كماله، وهو استبداد لا يقل قسوة عن استبداد التاريخ، ولا عن استبداد النص الجامد على تأويل واحد.
في قصور عقولنا وعجزها عن الإحاطة يكمن الدفع إلى البحث والاكتشاف، ويصبح التقدم منهاجنا، لا التبرير للمسبّقات.
وفي عجزها عن الإحاطة يكمن جذر الإيمان بالواحد الذي يحيط بكل شيء علمًا.
“جيرون”