عندما اتخذ قرار العسكرة في إحدى مناطق سورية، اتبع متخذوه نهج التفكير التالي:
إذا بقي الحراك سلميًا سيستمر النظام في القتل إلى أن يُخضع الشعب الأعزل، وإذا تحول الحراك إلى مسلح فسوف يذهب الناس في طريق لا رجعة فيه، وسيجبر الوضع بعد مدة من الزمن المجتمع الدولي على التدخل، وإسقاط النظام.
وعندما نوقشوا في الثمن الكبير الذي ستأخذه العسكرة من دم الأبرياء كان جوابهم حاضرًا: إن الضحايا شهداء في سبيل الله، وفي الجهاد لا يُسأل عن الثمن.
بالطبع لا حاجة إلى التفصيل في عوار هذا المنطق بدالة نتائجه؛ لأنه لا السلمية كانت ستفضي حتمًا إلى انتصار النظام، ولا العسكرة جلبت التدخل الخارجي.
إنه النهج الفكري الذي ينطلق من معطى ثابت يوهمه أن ما يعتقده حقًا هو حق لدى الجميع ما عدا خصمه المباشر، وأن ما يدفعه من دم لا يُقاس بمقاييس البشر على الأرض.
هي الهوية التي تحرّض السلوك، وتوجهه، وعندما تجلب الكوارث، تبحث عن سبب لا تعدم وجوده.
إن ما دفعناه من ثمن سببه أيضًا مستمد من معطى قبلي:
إنه ابتعادنا عن الله، وعدم إقامتنا حدوده.
للتشوف للنصر فرضياته الجاهزة، ولتبرير التراجع مبرراته الجاهزة.
إذا كنا نريد أن نرى المشهد بعدسات غير عدسات المسجونين داخل هويتهم المتوهمة، فيمكن أن نقول:
إن ما دفعوا إليه الأحداث دفعًا غير مسؤول، هو ما أعطى الذريعة لنظام الاستبداد للاستعانة بمن يشبه من يحاربونه.
فعنصر الهوية في الحليف الإيراني لا يحتاج إلى تمحيص وعمق نظر، وهي هوية مركبة قومية ودينية، لا تكاد تستطيع حصر بعدها الديني في العقيدة؛ لأن ما يرشح عنها من سلوكيات لا يعطي المتأمل فيها فسحة لعدّها عقيدة بالمعنى المنطقي للكلمة.
فالعقيدة في -أحد أبرز تعريفاتها- أسطورة استخلصت منها نواها العقلانية، وهي أقل درجة من المعرفة.
ولا تكاد تجد نويّات عقلانية في سلوك الحليف الشيعي الذي لا تزال عقيدته تبرّر له كل شيء في سبيل التكفير عن ذنب خذلان الحسين، ولا يزال ينتظر إمامًا يخرج من سردابه.
وقد استعاد الوحي عبر أئمته المعصومين، فشوه أهم ما يميز الرسالة المحمدية التي أنهت الوحي منهية اتصال المطلق بالبشر، ومفسحة لهم نهجي النظر والعمل النسبيين.
استعادة للمطلق لا يمكن لهوية أن تجد تبريرًا لادعاء ثباتها أكثر من استلهام عناصرها المستمر منه.
والروسي لا يحركه المنطق البراغماتي فحسب كما يُظن، فالحفر عميقًا في بنية الثقافة السياسية الروسية يشي بعنصر هوية قوي التأثير يجعل السلوك يتوخى المطابقة مع الهوية التي هي جوهر ثابت في مخيلة المنتمين إليها، وهو منطق يفسر تدخل الروس حيث تحسب أنهم لن يتدخلوا، وانكفاءهم حيث تظن أنهم عازمون على التدخل.
إنه مجد القياصرة، وعظمة الاتحاد السوفياتي، اللذين عقد بوتين العزم على استعادتهما.
إن للهوية في هذه الثقافة بعدين: داخلي وخارجي.
ينظر إلى الأولى بعدسات محدبة، وإلى الثانية عبر عدسات مقعرة.
فالهوية الداخلية في نظر المؤسسة الرسمية الروسية واسطة العقد التي أخذت أحسن ما في التقاليد الحضارية الشرقية والغربية.
والأمة الروسية في نظر المجمع الأرثوذكسي المسيحي أمة تحمل رسالة الخلاص إلى العالم، وتعده بتحقيق السلام، والانسجام، والقضاء على الصراعات.
هذه الرؤية للهوية ترفع الروسي إلى المرتبة العليا مقابل أي آخر.
كما يدخل في تشكيل الهوية الداخلية حقبة الاتحاد السوفياتي الذي شعر الروس فيه أنهم رعايا دولة عظمى يحظون بالتبجيل من أربع عشرة قومية سوفياتية.
والمكون الثاني الذي يدخل في بنية الهوية الروسية الداخلية هو الكنيسة الأرثوذكسية التي شهدت انتعاشًا أعقب القمع الذي تعرض له رجالاتها على يد النظام الشيوعي، فقد عادت إلى سابق عهدها في التغلغل في حياة الناس العاديين في طقوسهم الدينية، وفي حفلات زفافهم، وفي قداساتهم، ومعمودياتهم
والعلاقة بين الدولة والكنيسة علاقة تصبو إلى إحياء روسيا العظمى؛ فالقادة السياسيون الحاليون يستثمرون الكنيسة لتوحيد الجماهير حول السلطة، ولم يقتصر الأمر على هذا الاستثمار من أجل الحشد، وإنما أصبح الدين محورًا للهوية الوطنية الروسية، فقد عُرّف الروسي في إعلان الكنيسة الأرثوذكسية 2014 ” الروسي هو الذي لا يملك تفضيلات عرقية أخرى، يتحدث ويفكر بالروسية، يعترف بالمسيحية الارثوذكسية كأساس للثقافة الروحية، ولديه تضامن واع مع مصير الشعب الروسي.”
وقد استجابت الكنيسة الارثوذكسية للدور المعطى لها من قبل الساسة فقدمت دعمها في مناسبات عديدة ومهمة للنهج السياسي المتبع داخليًا وخارجيًا
وكان أبرز دعم قدمته لقرارات القيادة هو دعم التدخل العسكري في سورية، التي عدته الكنيسة حربًا مقدسة.
إن حرب الهويات هذه كان من الممكن تجنبها لو لم يتخذ قرار دفع الأحداث في المسار الذي اتخذته من أمثال من ذكرناهم في البداية، ولعل أحد أسباب تصدر المشهد ممن تصدره هو أن مدعي الانسلاخ عن أوهام الهوية الثابتة من التيار العلماني، ليس منسجمًا مع ذاته فيما يدعيه، فلطالما حوّل منظومته إلى هوية ثابتة لا تقبل مسلماتها الدحض، في حربه مع أصحاب الهويات الأخرى، ولهذا تراه لصدوره عن ميتافيزيقا كغيره لم يكلف نفسه مؤونة كبيرة للتلاؤم مع أصحاب الهويات الصلبة الصرحاء.
لا نفشي سرًا إذا أفصحنا عن فرحنا بأي اندحار للنظام وحلفائه، ولكننا -انطلاقًا من رؤيتنا للمشهد- لا نستطيع التعبير عن تفاؤل كبير.
رئيس التحرير