حول تطورات الاوضاع السورية وآفاقه
إن ما حدث في سورية، صبيحة الأحد في الثامن من كانون الأول 2024، كان الحدث الأبرز في تاريخها، المتمثِّل بإسقاط نظام الإبادة الجماعية، وتحرير سورية من حكم العصابة الأسدية. التي لم يكن لأحد أن يتوقع أو يتصوَّر حدوثه بعد عقود من الصبر والانتظار والصمود والتضحية في مواجهة آلة القتل المتوحشة. جاء هذا الحدث ضمن متغيرات كبيرة حصلت في الإقليم، وتغيّر في المناخ الدولي السياسي تجاه الأذرع الإيرانية، وانتهاء الدور الوظيفي لنظام الأسد، ما أدى إلى انهياره السريع بأيدي السوريين، إنّهَ النصر الذي كللته شجاعة الثوَّار، حيث يسجل لهم هذا الإنجاز التاريخي العظيم بكل جدارة، ويستحق منا كل التَّحية والتقدير. كما تسجَّل لهم قدرتهم على تحرير البلاد بأدنى حدّ من الدماء، وكذلك سعيُهم لضبط ردود الفعل إلى أدنى مستوياتها، حفاظاً على السلم الأهلي، وبعيداً عن مظاهر الثأر والانتقام، وهو نجاح مبهر يعكس رقِيَّ الشعب السوري وتحضره، وهو أيضاً ما يفسر بقاء السوريين حتَّى اليوم في حالة احتفالية متواصلة، وانخراطهم في تجمعات شعبية متعددة، تعكس أيضاً حاجة السوريين المُلِحَّة إلى الأمن والسلام في مستقبلهم القادم، وإلى ما يبدد مخاوفهم من الارتدادات السلبية التي يمكن أن تعكِّر أجواء السلم الأهلي، والمضي بما يتكفَّل انطلاق مسار العدالة الانتقالية ومحاسبةَ المجرمين، وبألا تكون سياسة التسويات والمسامحات مدخلاً للإفلات من العقاب.
إذا كان من الطبيعي أن نقف موقف الداعم لجهود إدارة العهد الجديد، انطلاقاً من إدراكنا لحجم الترِكة الثقيلة التي خلفها النظام البائد، وإقراراً منا بأن المطالبة بتحقيق إنجازات سريعة هي مسألة في غير محلها، لاسيما أن هذه الإدارة لا تملك بعد، الإمكانيات والأموال ولا الأدوات اللازمة لتلبية احتياجات الشعب السوري المتفاقمة، إلا أن من واجبنا أيضاً أن نرفق هذا التأييد مع كل ما يستلزمه من اجتهادات النقد وتصويب الخطى لما فيه مصلحة السوريين، وخدمة تطلعاتهم، والإسهام الفاعل في بناء سورية الجديدة وطناً حراً لكل السوريين، وطناً تبنى ركائزه على توسيع دوائر المشاركة السياسية، والانفتاح على جميع قوى المجتمع السوري وفعالياته على كافة الصعد والمستويات، والقطع مع كل أشكال الإقصاء والاستبعاد، ومنع التفرّد في صياغة مستقبل البلاد، مع ضرورة الابتعاد عن النظرة الفئوية الضيقة، وعن كل مظاهر الهيمنة والاستئثار بالقرارات المصيرية التي تقعُ في صلب حياة السوريين ومستقبل دولتهم الوطنية المنشودة، فسورية رغم المحنة التي أصابتها، ماتزال غنيةً بالكفاءات الوطنية، وغنيةً بنُخَبِها ومبدعيها، وبالطاقات اللازمة لبناء الدولة وترسيخ أسسها.
لئن كان إسقاط نظام الأسد بكلِّ حمولته الإجرامية وطغيانه وفساده يعني فيما يعنيه، تحريرُ الشعب السوري من خاطفي قراره ومزوري إرادته، ومن المتلاعبين بمصيره وبمستقبل أجياله، فإن بناء المستقبل الجديد يرتكز أساساً على تحرير هذه الإرادة، وإعادة السلطة والقرار لمنابعهما الدستورية والشرعية، مع الأخذ بيده نحو تحقيق تطلعاته وتثمير جهوده وتضحياته بما يليق بتاريخه وهويته، والإقرار بريادته في رسم ملامح شكل الدولة ونظامها السياسي الذي تستحقه، فهو وحدة الكفيل بإرساء الاستقرار في حياته وتعزيز وحدته الوطنية والسياسية، في دولة المواطنة المتساوية والحريات العامة والفردية وسيادة القانون وتكافؤ الفرص، والإقرار بالتعددية السياسية، وبالتنوِّع الثقافي لعموم أطيافه كمصدر غنى وإثراء لتجربته الإنسانية التاريخية الرائدة المستندة إلى جذوره وحضارته في بناء الدولة، وصنع دستورها وبرلمانها ونُظُم حكوماتها المدنية والديمقراطية.
لابدّ لنا من التوَقُّفِ مليَّاً وبمسؤولية عالية، أمام كل أشكال المعاناة التي يكابدها السوريون في مختلف مناطقهم، فالفقر الجوع والحرمان تزداد وتائرها، بعد التدهور الكبير في مستوى معيشتهم، والتردِّي الحاصل في مستوى الخدمات الأساسية التي يحتاجونها. وقد زادت من قسوة هذه المعاناة وحِدَّتها بعض إجراءات الحكومة وقراراتها؛ كمنع صرف الرواتب وحبس السيولة، وفتح سوق المضاربات على مصراعيه، والتلاعب في قيمة العملة والاستيلاء على ما تبقى من مدخراتهم الشحيحة، الأمر الذي أصاب القدرة الشرائية في مقتل، وكذلك تسريح مئات الآلاف من العاملين في أجهزة الدولة وتركهم لمصيرهم دون أدنى حدٍ من الرعاية والحماية. يضاف إليها شيوع حالة من الفوضى والتسيُّب وغياب القانون، ومظاهر الاضطرابات الأمنية التي باتت تضرب العديد من المناطق منذرةً بالأسوأ، كل ذلك يجري؛ وسط حالة من الضبابية الكثيفة حول مستقبل الأوضاع ومآلاتها على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مع غياب الوضوح والشفافية، وعدم مخاطبة السوريين بشكل مباشر وصريح حولَ مجمل المصاعب والعقبات التي تواجه إدارة بلادهم، وعن سبل مقاربتها ووضع الحلول لها.
وإذا كانت جهود الإدارة منصبةً على كسب الدعم والتأييد الخارجي وهو أمر مفهوم وضروري، لكنه لا ينبغي أن يكون على حساب متطلبات الشعب في حياته ولقمة عيشه وأمنه ومستقبل أبنائه، فقد يشكل تراكم هذه الثغرات والقصورات والأخطاء، ذريعة تبحث عنها كل الأطراف المتربصة في الداخل والخارج، والسَّاعية إلى تقويض الحالة الجديدة، حيث يمكن أن تبني عليها أجندتها في هزّ الاستقرار؛ وضرب السلم الأهلي، وتغذية روح الانقسام. ونحن نشهد بعضها في مؤتمرات وتجمعات مدعومة من أطراف ودول هدفها التخريب وزرع الفتنة.
صدر مؤخراً عن الإدارة الجديدة عدد من القرارات والخطوات الإجرائية، ومنها تشكيل لجنة تحضيرية لإطلاق الحوار الوطني، وكذلك عن قرب تشكيل لجنة تحضيرية أخرى لاختيار أعضاء مجلس تشريعي مؤقت. كما أعلن الرئيس السوري عن تشكيل الحكومة الانتقالية، وكذلك الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية. ومع ترحيبنا بهذه الخطوات التأسيسية على طريق بناء الدولة السورية، إلا أننا نستشعر القلق إزاء الغموض المفتوح على العديد من التساؤلات التي تستدعي التوجِّس من هذه الخطوات المتسرعة، التي لا تدلّ في عمقها على أنها تقيم وزناً للحوار ولا لنتائجه، ولا لأهمية وجود مرجعيات تشرعنها وتستند إليها. فتشكيل لجنة الحوار وما انطوت عليه تركيبتها من انغلاق وأحادية، بديلاً عن الانفتاح على الشخصيات الوطنية ذات الظل العالي والحيثية المجتمعية البارزة، ومن ذوي الكفاءات والمختصين بالقضايا السياسية والادارية والتنظيمية.
وإذا كان تشكيل الحكومة الانتقالية وكذلك المجلس التشريعي المؤقت على أهميَّتهما، لن يخرجا إلى النور من قاعات الحوار الوطني، ولا من صلب قرارته ومناقشاته، فماهي القيمة المتبقية أمام هذا الحوار الوطني؟! خاصة بعد أن أعلن الرئيس الشرع أن مؤتمر الحوار تنتهي مهمته بمجرد أن يصدر بيانه الختامي، ويقدم عدداً من التوصيات يمكن للإدارة أن تستأنس بها، فمخرجات الحوار لا تتعدى وظيفتها تقديم الرؤى والمشورة غير الملزمة، ونفس الكلام يمكن أن نقوله عن مجلس تشريعي مؤقت؛ هو أشبه بلجنة مستشارين للرئيس، وهكذا يصبح الحرص على مؤتمر الحوار الوطني حرصاً شكلياً، لا نجد له أهمية ودوراً فاعلاً على أرض الواقع، حيث من المفترض أن يكون من مهام المؤتمر الوطني والحوارات التي تجري فيه، صياغة شكل الدولة العتيدة ووضعها في إطارها القانوني تمهيداً لكتابة دستورها وانتهاءً بانتخاباتها. إلا أن الأمر الأكثر أهمية وحساسية أن هناك عدداً من القضايا الجوهرية وذات البعد الاستراتيجي في مستقبل البلاد؛ يحتاج إقرارها إلى تفويض شعبي يضفي عليها شرعيتها، حيث لا يجوز البتْ بشأنها إلا من قبل مجلس تشريعي منتخب؛ يجسّد إرادة الشعب السوري؛ وقواه السياسية والمجتمعية، ويحقق مصالحها وتطلعاتها، ومنها تشكيل الجيش السوري الجديد، ومستقبل الاقتصاد الوطني وطبيعته، إضافة لكل ملفات المرحلة الانتقالية؛ التي تتطلب إصدار تشريعات وقوانين خاصة وعلى رأسها وجود مجلس أعلى للقضاء، ومحكمة دستورية عليا، وهيئة للعدالة الانتقالية، وهيئة إعادة الإعمار والعديد من الهيئات الأخرى ذات الصفة التمثيلية. بقي أن نتساءل: كيف يمكن للحكومة الانتقالية أن تتصدى لتشريع العديد من القرارات المصيرية دون أن يكون لها مرجعية شرعية ودستوري؟
وختاماً نقول: إننا في حزب الشعب الديمقراطي السوري ندرك تماماً، أن ليس من مصلحة السوريين عموماً -ونحن منهم- إفشال مساعي إدارة العهد الجديد أو العمل على إضعافها، فهذا خطأ قاتل وسيكون له انعكاساته السيئة على مستقبل سورية، بل المطلوب بذل كل المساعي لإنجاح هذه التجربة التاريخية وإيصالها إلى خواتيمها بما يضمن أوسع مشاركة للسوريين في إنضاجها ودفعها إلى طريق بناء الدولة المدنية الحديثة.
دمشق 21 / 2/ 2025
اللجنة المركزية
لحزب الشعب الديمقراطي السوري