عمر قدور
السبت الفائت خرجت ثلاث مظاهرات في سوريا، اثنتان في السويداء وريف درعا طالبتا برحيل الأسد، وثالثة في إدلب ضد جبهة النصرة وحكومتها، نال فيها الجولاني “زعيم الجبهة” نصيباً لا يقل عن نصيب بشار الأسد من الشتائم. خرج المتظاهرون في الأماكن الثلاثة مدفوعين بالتدهور المعيشي الحاد؛ هذا صحيح لكنه لا يفسر سقف الهتافات الحاد، ولا يفسر وحده عدم انتظار تحقيق مطالبهم من سلطات الأمر الواقع. المشترك بين أولئك المتظاهرين هو اليأس من تلك السلطات، والربط بين خلاصهم الاقتصادي وخلاصهم منها.
علينا مرة جديدة ألا نفرط في التفاؤل، لا بسبب العدد المحدود للمتظاهرين الشجعان، وإنما بسبب ما تملكه سلطات الأمر الواقع من فائض قوة إزاء محكوميها. التجربة المريرة لقرابة عقد لا تبشّر بمآل إيجابي، ما لم تقترن الرغبة السورية في التغيير بنوايا دولية جادة وحاسمة، وتكرار شعارات الثورة الأولى في مظاهرات هنا أو هناك بقدر ما يحيي الأمل فإنه ينكأ الجراح والمخاوف من مصير بائس يقع السوريون جميعاً في القلب منه.
لكن ليس إفراطاً في التفاؤل القول أن هذه المظاهرات تعكس مشاعر عامة متزايدة من الغضب إزاء ما وصل إليه الحال، ولولا المخاوف المستمرة والمتجددة من سحق المتظاهرين لرأينا الحشود تملأ الساحات، ومن ضمنها أو ربما في طليعتها سوريون كان لهم موقف متحفظ أو معادٍ لثورة 2011. بل لا يُستبعد أن يسترجع من تحفظوا سابقاً على الثورة بعض هتافاتها في احتجاجاتهم، ومن دون حرج معلن “أو حتى مضمر” إزاء مواقفهم السابقة، ولن يكون في قائمة أولوياتهم الاعتذار من “قدامى الثائرين” الذين يرون أنهم ذاقوا الخذلان أولاً من صمت سوريين آخرين أو من موافقتهم أو تشجيعهم على قتل “أشقائهم”.
من دون الدخول في مقاربات أخلاقية لا يعوزها الصواب، بانت في الأشهر الأخيرة نتائج النصر الذي حققته موسكو وطهران للأسد، وتجلى شعار “الأسد أو نحرق البلد” الذي رفعه الشبيحة والموالون ضد الثورة بأسطع حالاته. بلد يفتقر إلى أدنى مقومات العيش، الشريحة الناجية من الفقر “وربما من المجاعة المقبلة” لا تتجاوز نسبتها الحالية 10% من السكان، يتربع في قمتها أفراد قلائل جداً من العصابة الحاكمة. الثمن الباهظ يتشارك في دفعه “في مناطق سيطرة الأسد” موالون ورماديون، والذين كانوا يفضلون الاستقرار كيفما كان على التغيير، وطائفيون جمعوا بين الاستفادة من فتات السلطة والتخوف من البديل، وبالتأكيد هناك شريحة واسعة من الصامتين بحكم إرهاب الأسد الذي يعرفونه. نتيجة الحرب لم تخالف فقط أفضل توقعات الموالين، بل دلت مجرياتها ونتيجتها على أن من يقودها يفتقر إلى أدنى كفاءة مطلوبة، فلا هو كشف عن كفاءة في إدارة المعارك، ولا عن كفاءة في إدارة الاقتصاد أثناءها، ولا عن أدنى حرص على مؤيديه وحيواتهم، ثم على معيشتهم.
في الجانب المقابل، مرة أخرى بصرف النظر عن المقاربات الأخلاقية، طوال السنوات الأخيرة كانت صورة المعارضة تتدهور بالنسبة للثائرين على الأسد. المعارضة السياسية تشرذمت بين القوى الإقليمية وفقدت مصداقيتها كلياً، والفصائل العسكرية التي بدأت بظاهرة الجيش الحر انتهت إما إلى إمارات إسلامية، أو إلى إمارات حرب، وفي أماكن سيطرتها جميعاً لم يسلم الأهالي من تعدياتها على حرياتهم الشخصية أو على أملاكهم. الميزة الوحيدة للمستويين السياسي والعسكري، إذا كان يمكن عدها كذلك، أن الواقعين تحت سيطرتها لا يريدون العودة إلى سيطرة الأسد، أما التيار السائد فهو اليأس من المستويين، واليأس من التعويل على إصلاحهما.
على المقلب الكردي، بخصوصيته التي لا يجب إنكارها، لو أتاحت الظروف قدْراً أفضل من الاستقرار لشهدنا حركة انتقاد أوسع لسياسات النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني. لكن، رغم تفضيل الإدارة الذاتية التابعة له على العودة إلى الأسد أو الوقوع تحت سيطرة المعارضة، ثمة يأس من سياسات التنظيم الذي وعد الأكراد بأوهام تفوق إمكانياته وما تسمح بها المصالح الدولية والإقليمية، خاصة بعد انصياعه لتلك المصالح في عفرين وشرق الفرات. في وسعنا القول أن التنظيم بات يحظى بميزة شبه وحيدة، هي تعاطي الأسد والمعارضة مع المسألة الكردية على أرضية الإنكار، التعاطي الذي لا يزال يغطي على شكاوى الأكراد في مناطق سيطرته من انتهاكات تبدأ بالتجنيد القسري “بما فيه تجنيد القاصرين والقاصرات”، ولا تنتهي عند قمع الخصوم السياسيين وفرض قرارات اقتصادية جائرة على المزارعين.
ما يجمع السوريين، اليوم أكثر من أي وقت مضى، يأسُهم. وهو ليس يأساً مشتركاً، فكل طرف يائس من القوى التي يُفترض بها أن تمثله وتمثل تطلعاته ومصالحه. لقد امتحن كل طرف على حدة، وبما يكفي، القوى التي يُفترض بها تمثيله، وخبر فشلها وعجزها فضلاً عن تبعيتها. أبعد من ذلك، انكشف يوماً بعد يوم بؤس الخيارات التي ارتضاها كل طرف، فالأسدية لم تفشل فقط بسبب نقص كفاءة قادتها، فشلت بسبب خياراتها التي قبل بها من قبل مناصروها. كذلك هو الحال مع خيارات المعارضة، فالعلة كانت طوال الوقت بوجود أشخاص يمثّلون خيارات بائسة وصلت إلى منتهاها الذي نشهده اليوم. جرب السوريون أيضاً انقسام الخريطة السياسية، بعد انقسامهم مجتمعياً وسياسياً، ولم يبرهن أي من الكيانات بمفرده على نجاعة اقتصادية كافية، بصرف النظر عن الموقف من وحدة سوريا، وإن برهن بعضها على أحقية الحاجة إلى دولة لامركزية.
لعلنا لا نغامر بالقول أن اليأس قد يكون المدخل الواقعي المتاح لخلاص السوريين، حيث يأس كل طرف يجعله أكثر انتباهاً إلى العلة في خياراته، بدل التصويب المستمر على سوريين آخرين خصوم بوصفهم مصدر مأساته، أو الوكيل الحصري لها. بهذا اليأس تنتصر، على نحو مأساوي، اللغة الواقعية بعد رهان فاشل على وطنية سورية موجودة تلقائياً، أو تعويل أكثر فشلاً على توافر مُثُل أخلاقية مشتركة. يمكن لليأس غير المشترك أن يفعل ما لم يكن ممكناً للآمال والطموحات المتضاربة فعله. الوعي المرافق لليأس، أو تحويله إلى قوة مشتركة بين السوريين، لن يكونا على الإطلاق بسهولة الوصول إليه، فلا هم مهيؤون لذلك الآن، ولا القوى التي تتقاسم الوصاية عليهم تسمح لهم به.