حاورته: رلى موفّق
الحديث مع المعارض السوري جورج صبرا، المتماهي مع الثورة السورية في إنجازاتها وإخفاقاتها وتطلعاتها وأحلامها، يُعيد إحياء الأمل بأن تضحيات السوريين لن تذهب هباء. ومَن يعتقد أن سوريا يمكن أن تعود إلى ما قبل العام 2011 هو أكثر من واهم. فالسوريون “ذاقوا طعم الحرية وحطموا أسس الاستبداد والتسلّط في النظام القديم، والتحدّي القائم أمام الثورة هو التأسيس لإقامة النظام البديل الجديد وتعزيز الثقة بالقدرة على ذلك”.
في نظره أن الرؤية الجديدة للنظام موجودة، لكن إرادة المجتمع الدولي، وإرادة القوى السياسية الفاعلة على المستوى الدولي وفي الإقليم ما زالت خارج هذا السياق، عازياً ذلك إلى أن سوريا هي بوابة الشرق، والتغيير فيها لن يبقى داخل حدودها. ولا يخفي مخاوف السوريين في هذه المرحلة من غيابهم عن التأثير في مراكز الفعل والقرار في ما يتعلق بقضيتهم.
لا شك لدى صبرا، الذي تولى في العام 2012 رئاسة المجلس الوطني السوري، في أن النظام الذي جهد لارتكاب كل الجرائم لتهجير السوريين لن يكون جدياً في إعادتهم بطريقة آمنة وكريمة إلى قراهم. وما يثير القلق والألم عند هؤلاء ليس تكاليف الحرية الباهظة إنما هذا السلوك العنصري الذي يتعرّض له اللاجئون إلى لبنان من قبل أطراف يتسيّدها النظام الإيراني.
يُعبّر جورج صبرا عن رفضه بقوة لطروحات “تحالف الأقليات”، التي يراها محاولة لاستعادة حماية قوى الاستعمار للطوائف، وتعبيراً عن انحلال الدولة الوطنية. ويحذّر المسيحيين في سوريا والمنطقة من الانزلاق إليها، ذلك أنه وحدها الدولة الحديثة ذات الحقوق المتساوية بين المواطنين هي التي تؤمّن الحماية لجميع أبنائها، ولا يبقى عندها مكان لحديث عن أقليات وأكثريات، وإنما عن مواطنين.
في قراءته لكتاب برهان غليون “عطب الذات” يرى صبرا أن غليون المفكّر والمثقف والأكاديمي في ميدانه المعهود عن العلوم الاجتماعية والسياسية، قدّم إضافة نوعية للتحليلات الاجتماعية والجيوسياسية التي تعالج الشأن السوري قبل الثورة وبعدها، لكنه حين تحدث بلسان السياسي والناشط وتجربته في “المجلس الوطني”، وقع في كثير من المغالطات، غير أن أكثر ما أثار صبرا، هو حديث غليون عن وقائع سياسية “خطيرة” في مسار الثورة وأثناء ترؤسه “المجلس الوطني” تطرقت إلى اتصالاته مع الجانب الإيراني عبر وسطاء وتسلمه رسالة من فريدريك هوف المبعوث الأمريكي للمعارضة هي عبارة عن قائمة شروط طويلة، غير أن أحداً من أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس الوطني، وهو أعلى هيئة قيادية فيه، لا يعرف شيئاً عن هاتين الواقعتين.
وهنا نص الحوار:
* مَن ينظر إلى الواقع السوري اليوم، يمكنه القول أن الثورة السورية انتهت. صحيح أن إدلب ومناطق سيطرة الأكراد خارج مناطق نفوذ النظام، لكنه باقٍ ويستعيد قوته؟
** هذه النظرة جزئية، فالنظام الذي يفتقد السيطرة على 40 في المئة من مساحة البلاد لا يمكن أن يكون منتصراً. الثورة لم ولن تُهزم، ومَن يعتقد أن سوريا يمكن أن تعود إلى ما قبل العام 2011 هو أكثر من واهم، الثورة حطّمت أسس التسلّط والاستبداد في سوريا، وتحول دون تجدّدها من أي جهة كانت. هي أذاقت السوريين طعم الحرية التي لا مَحيد عنها، والتي اشتهاها السوريون لأكثر من 50 عاماً، وعرّت توجهات النظام وبنيته الفئوية والطائفية أمام الشعب السوري والعالم، وكشفت أبعاد ارتباطاته والمخطط الإيراني في سوريا وفي المنطقة، وخطورة هذا الارتباط والمخططات الإيرانية على المحيط العربي، فعن أي انتصار يمكن أن نتحدث؟
ها هي الثورة تُقدّم كل يوم البراهين والمؤشرات على استمرارها وعلى اجتراح مداخل جديدة لتجديد نفسها وأساليب عملها، فمجريات العمليات العسكرية في شمال وغرب حماه وفي إدلب وشمال اللاذقية خلال الشهرين الماضيين، تثبت أن الثورة تجدّد نفسها ولديها القدرة على هزيمة بقايا عسكر النظام السوري رغم فداحة الجرائم التي ارتكبها المحتل الروسي من قتل وتهجير وإبادة جماعية بأشد الأسلحة فتكاً، وكذلك التحركات المتنوعة الإعلامية والسياسية والثورية التي تجري في الداخل السوري، حيث يسيطر النظام، بدءاً من درعا إلى ريف دمشق إلى حلب، ويجري خرق هذه السيطرة التي صنعها الروس باسم المصالحات، ويعود السوريون للتعبير عن حضور الثورة هناك.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك الإيقاع المتجدّد للثورة الذي عبّر عنه إحياء استشهاد عبد الباسط الساروت بما يمثله هذا الشهيد من وجه من وجوه الثورة الناصعة والذي كان أكثر من تشييع شهيد، كان إعلاناً لاستمرار الثورة السورية وغسل وجهها مما علق به من شوائب، وأظهر بوضوح إفلاس جميع الجهود الإقليمية والدولية لإعادة تأهيل النظام.
نعم استنفد الروس والإيرانيون كل الوسائل بلا نجاح، لأن الأسد انتهى حتى في نظر مؤيديه. المجريات في الأماكن التي يسيطر عليها النظام أكثر من واضحة، لكن التحدي أمام الثورة ما زال قائماً وهو التأسيس لإقامة النظام البديل، فالثورة أنجزت مهام الهدم للقديم وبقيت أمامها مهمة بناء الجديد وتعزيز الثقة بالقدرة على ذلك.
* السوريون الذين يعيشون داخل مناطق النظام في سوريا، وحتى خارجها أصبحوا أكثر خوفاً وحذراً ويخشون حتى إظهار معارضتهمً، خذ لبنان مثلاً على ذلك، بمعنى أن طعم الحرية ارتد عليهم بكلفة باهظة؟
** الصعود إلى الحرية كان دائماً من الدروب الصعبة، وأن يُسلك هذا الدرب في الشرق الأوسط وفي الظروف الإقليمية والدولية المعقدة يكون أشد صعوبة، لكن ما يثير القلق والألم عند السوريين ليس تكاليف الحرية الباهظة إنما هذا السلوك العنصري الذي يتعرّض له السوريون اللاجئون في لبنان من قبل أطراف يتسيّدها النظام الإيراني، مثلاً “حزب الله” وبندقيته غير المشروعة وإرهابه للسوريين وإعمال القتل بحقهم داخل سوريا وإرهابه لهم على الساحة اللبنانية. للأسف، هؤلاء العنصريون يجمّلون وجه النظام ويساعدونه على تحقيق ما عجز عنه.
روسيا مكّنته من إعادة أساليبه التي أدت إلى لجوء الملايين إلى الخارج ومثلهم إلى مناطق أخرى داخل سوريا. هنا نطرح مسؤولية المجتمع الدولي عن هذه المجريات وعن مسؤولية الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التي نراها عاجزة وأحياناً صامتة عن استخدام النظام لأبشع أنواع الجرائم داخل البلد، وكذلك استخدام العنصريين لأبشع أنواع الأساليب في تسليم بعض السوريين، الذين واجهوا النظام وانشقوا عنه، بإعادة تسليمهم إلى سلطة القتل في دمشق.
* ثمّة من يعتبر أن المعضلة في سوريا هي أن الثورة هدمت النظام القديم ولم تكن جاهزة للبدائل، ما أدى إلى إعادة ضخ الدماء في شرايينه؟
** تضحيات السوريين التي لا مثيل لها، والجرائم التي ارتكبت بحق شباب الثورة العُزّل وخاصة أعمال التصفيات داخل السجون والمعتقلات أصبحت مكشوفة للعالم، ولا سابقة لها، لا في المنطقة ولا على المستوى الدولي، لذلك نجح السوريون في هدم مرتكزات النظام. أما بناء البديل فتلك مهمة مشتركة من قبل السوريين وكذلك الفضاء العربي المحيط، حيث يعمل النظام على جعل سوريا قاعدة للمصالح الإيرانية والإسرائيلية في المنطقة، وكذلك من مسؤولية الديمقراطيين والمنظمات الإنسانية الدولية مساعدة السوريين في ذلك. العقبة الأساسية أن الظروف الإقليمية والدولية غير مؤاتية حتى الآن لولادة الجديد، رغم أن أسس النظام البديل وضعت في العملية السياسية التي نشأت مع بيان جنيف لعام 2012 أي بتشكيل هيئة حكم انتقالي مكتملة الصلاحيات التنفيذية لا يكون لبشار وبقايا نظامه أي دور فيها، تكون مشتركة بين مؤسسات الدولة ومؤسسات الثورة، وللأسف هذه العملية ما زالت قيد الاحتجاز في جنيف.
ما يجري في سوريا ليس إعادة إحياء للنظام القديم لأنه مات وانتهى، لا أحد يمكنه أن يتحدث عن سلطة للأسد وبقايا نظامه. السلطة يُعلن عنها الحرس الثوري الإيراني وقادته، ويُعلن عنها كبار الضباط الروس، الذين بدأوا يمارسونها حتى في المؤسسة العسكرية.
* هل القيادة السياسية للمعارضة مؤهلة وقادرة على التوافق على رؤية للنظام الجديد؟
** توافق أطراف المعارضة مع قوى الثورة حول النظام الجديد جرى خلال السنوات الماضية في أكثر من موقع، وأكثر من وقت. لقد تمّ في القاهرة عام 2012 عبر الوثائق التي قدّمها مؤتمر المعارضة الشامل، كذلك وثائق المجلس الوطني السوري، ووثائق الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، والوثيقة الأساسية التي قدمتها الهيئة العليا للمفاوضات، باسم الإطار التنفيذي للحل السياسي في سوريا والتي أعلنت عام 2016 من لندن ولقيت الحفاوة من قبل أطراف عديدة في المجتمع الدولي. رؤية النظام الجديد الذي يسعى له الشعب السوري واضحة، لكن إرادة المجتمع الدولية، وإرادة القوى السياسية الفاعلة على المستوى الدولي وفي الإقليم ما زالت خارج هذا السياق.
* لماذا المجتمع الدولي، برأيك، لم يكن جاهزاً لملاقاة إنجازات الثوار والقيادة السياسية، أو لماذا تغيب تلك الإرادة الدولية؟
** ببساطة، لأن التغيير في سوريا لن يبقى داخل حدودها، لأنها بوابة الشرق الأوسط. مَن يمكنه أن يتخيّل أن تنعم سوريا بنظام ديمقراطي تعددي يُعبّر عن إرادة السوريين الحرّة، ويبقى لبنان في الوضع الذي هو فيه مكبوحاً بإرادة بندقية “حزب الله” غير الشرعية؟ ويبقى العراق نهباً للميليشيات الطائفية وتبقى الأذرع الإيرانية تعبث في الأرض العربية بدءاً من البحرين وانتهاء باليمن. التغيير في سوريا يحمل بذور التغيير في كامل المنطقة ويكبح المخططات الإسرائيلية والإيرانية التي تستهدف الوضع العربي عموماً بشكل معلن. الإدارة الأمريكية، الحالية والسابقة، حتى الآن، تغازل الوضع الإيراني. السياسة الروسية التي طمحت ونجحت في أن تجعل من الوضع السوري موضعاً أساسياً للاستراتيجية الروسية في المنطقة، أضافت دعماً للسياسات والاستراتيجيات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وتجاه الشعوب العربية الأخرى.
من هنا أضيفت إلى السجل الإسرائيلي يد قوية تدعم مخططات نتنياهو ناهيك عن الدعم الأمريكي التقليدي. العملية السياسية نشأت في الأمم المتحدة، ولكنها الآن عاجزة لأن الفيتو الروسي يعيقها ويحول دون صدور وتنفيذ القرارات السابقة، كذلك لا بدّ من ملاحظة أن الحركة غير المتسقة بين أوروبا وأمريكا وأحياناً التناقض في هذه السياسات هو أحد هذه العناصر.
* موازين القوى هي التي تقود إلى تطبيق مقررات جنيف وانطلاق العملية السلمية… لماذا على النظام وحلفائه أن يسيروا اليوم بآلية جنيف وهم “المنتصرون” بحسب اعتقادهم؟
** نعم، النظام وحلفاؤه هم الذين حالوا دون التقدّم في العملية السياسية رغم المفاوضات التي جرت بداية في العام 2014 مع الائتلاف ومع “الهيئة العليا للمفاوضات” خلال عامي 2016 و2017، وقد جرت المفاوضات عبر 7 جولات من دون أن تتقدّم قيد أنملة، وكان الواضح أن العامل الروسي كان أساسياً في تعطيلها، لكن يبقى السؤال: هل الروسي الذي احتل الأرض السورية احتل أيضاً الفضاء الدولي ليحول دون ولادة هذه العملية السياسية التي أجمع عليها المجتمع الدولي؟ هذا السؤال يوجه لهذا المجتمع الدولي. وهل يحق للروس أن يكبحوا هذه العملية السياسية؟ المجتمع الدولي ضعيف، هو يُعلن أن العملية مقرها في جنيف وبرعاية الأمم المتحدة لكن من دون أن أي فعل حقيقي يكرّس ذلك. هذا الكبح للعملية السياسية نجح الروس فيه، لكنهم لم ينجحوا في استبدال مسار جنيف بمسار آخر، لأن مسار الأستانا انتهى إلى نتائج كارثية، كذلك نجحوا في تدمير البلاد وفي إبراز قوتهم النارية، لكن لم ينجح الروس في إبراز كفاءتهم السياسية وتأهلهم لقيادة عملية سياسية داخل سوريا.
* برهان غليون في كتابه “عطب الذات” يفتح الباب أمام قراءة نقدية لدور المثقفين السوريين في التجربة السياسية، كيف تفاعلت مع الكتاب؟
** أنا من المهتمين بالإنتاج الفكري والثقافي لبرهان غليون، ومن المتابعين له منذ عقود، منذ كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” إلى “عطب الذات” مروراً بكتاب “اغتيال العقل” الذي جهدنا لتهريبه إلى داخل سجن صيدنايا في بداية التسعينات وقرأناه في السجن باهتمام بالغ. يقع كتاب “عطب الذات” في حوالي 500 صفحة، تحدث غليون في نصفه الأول بلسان السياسي الناشط في مرحلة تأسيس المجلس الوطني والقائد في مرحلة رئاسته للمكتب التنفيذي لهذا المجلس خلال الأشهر الستة الأولى. وفي النصف الثاني من الكتاب يتحدث بلسان المفكّر والمثقف والأكاديمي في ميدانه المعهود عن العلوم الاجتماعية والسياسية، ومن الطبيعي أن يُشكّل ذلك إضافة نوعية للتحليلات الاجتماعية والجيوسياسية التي تعالج الشأن السوري قبل الثورة وبعدها، وتفسّر العديد من المجريات الدولية والإقليمية والداخلية بين السوريين خلال العام الأول للثورة، وهنا كان برهان محلقاً كعادته في تقديم الإضاءات على العلاقات والروابط وتقديم الاستنتاجات الصائبة في القضايا المطروحة.
في النصف الأول، حيث أفعال السياسة بما لها وما عليها، بإنجازاتها وإخفاقاتها، يُقال الكثير. لقد قيل وسيقال المزيد في تناول وقائع تلك المرحلة التي قصدها كتاب “عطب الذات”. يتحدث برهان في كتابه عن تلك الوقائع والمجريات بلغة المفرد المتكلم، بما يوحي بأنه يمثل “المجلس الوطني” كشخص، أو كأن “المجلس الوطني” بدأ معه وانتهى مع استقالته من رئاسته. في هذا العرض كان هناك تجاهل لأثر الوثيقة التي وقعها في القاهرة مع الدكتور هيثم منّاع وتداعياتها داخل المجلس وفي صفوف الثورة والتي أدت إلى استقالته.
للأسف قدّم أيضاً روايات مغلوطة وغير صائبة عن بعض الوقائع. مثل كلامه عن نشوء “إعلان دمشق” ورفضه التوقيع على وثيقته التأسيسية، علماً أن “إعلان دمشق” لم يطلب من أحد خارج سوريا التوقيع على وثيقته التأسيسية التي صدرت عام 2005. وحين تناول مسألة خروجي من الداخل. أنا في الواقع لم أخرج بقرار من “إعلان دمشق”، لقد خرجت من سوريا في نهاية عام 2011 بطلب من المجلس الوطني السوري، ومن المكتب التنفيذي وضمنه الدكتور برهان نفسه، ووافق “إعلان دمشق” على ذلك. مثال ثالث، لقد أورد أن قراءة علي العبدالله لرسالة الإخوان كانت جزءاً من نشاط “إعلان دمشق” وهذا غير صحيح، فقد قُرئت الرسالة وذهب علي العبدالله إلى السجن نتيجة لها، قبل إنشاء “إعلان دمشق”.
تحدث غليون أيضاً عن وقائع سياسية ذات أهمية كبيرة، إن لم نقل خطيرة، في مسار الثورة والمجلس الوطني، مثل اتصالاته مع الجانب الإيراني عبر وسطاء وتسلمه رسالة من فريدريك هوف المبعوث الأمريكي للمعارضة وهي عبارة عن قائمة شروط طويلة كما يقول، غير أن أحداً من أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس الوطني، وهو أعلى هيئة قيادية في المعارضة، لا يعرف شيئاً عن هاتين الواقعتين. باختصار النصف الأول من الكتاب يشي فعلاً بعطب الذات لدينا نحن السوريين، ليس الذات الجماعية فقط، إنما الذات الفردية أيضاً لمن يشير إلى الآخرين في موضع الأخطاء والخطايا محاولاً تبرئة نفسه. باختصار قدّم الكتاب صاحبه المفكّر بنجاح ظاهر بينما افتقد هذا القدر من النجاح كسياسي ومؤرّخ.
*يكثر الحديث عن تحالف للأقليات في المنطقة في وجه الغالبية السنية، وهذا يدغدغ مشاعر الأقليات من سوريا إلى لبنان والعراق بدفع إيراني تحت مظلة روسيا التي يجري تقديمها على أنها حامية الأقليات… كيف تقرا ذلك، وأي تداعيات يمكن أن تنتج عنها؟
**يُعيدنا هذا الحديث بكل أسف إلى أيام السلطنة العثمانية حين قدّمت قوى الاستعمار نفسها حامية للأقليات تحقيقاً لمآربها في التركة العثمانية. يومها تحدث الروس عن حماية الأرثوذكس، وفرنسا عن حماية المسيحيين، وبريطانيا عن حماية الدروز، وما إحياء هذه النغمة النشاز في المنطقة إلا تعبيراً عن تهالك الدولة الوطنية وعدم قدرتها طوال القرن العشرين على إنجاز التوحيد الوطني لمكوّنات كل بلد من بلدان الشرق الأوسط، والبلدان العربية على وجه الخصوص في المشرق العربي. كذلك ان استمرار هذه النغمة القديمة – الجديدة للطامعين في المنطقة ومقدراتها يُهيئ لقوى الاستعمار هذه الظروف بواسطة الحكام الضعفاء ولو ادعوا القوّة. عندما يشكر حاكم عربي الرئيس الروسي لأنه يعمل على حماية الأقليات، وبقايا بشار الأسد تسهّل هذه المهمة داخل سوريا لتعمل على تفتيت البنية الاجتماعية السورية يكون هذا تسهيلاً لهذه الخطة الخارجية.
أنا كمسيحي أقول إن المسيحيين في سوريا وفي المنطقة ليسوا بحاجة لمن يحميهم من الخارج، لأن المسيحية خرجت على أيدي السوريين، على أيدي أهل المشرق، حملها بولس الرسول من مدينة دمشق إلى العالم أجمع. حماية المسيحيين تكون عبر الاندماج الاجتماعي، عبر حماية المجتمعات التي يعيشون فيها، ولا يمكن أن تُحمى هذه المجتمعات من دون العلاقة الحقيقية مع المسلمين، وهذه العلاقة أتقنها أجدادنا خلال مئات السنوات، وإلا كيف يمكن أن نفسر أنه منذ أكثر من 1500 عام ما زالت أجراس الكنائس تقرع في سوريا ولبنان والعراق ومصر وبقية أنحاء المنطقة، والأديرة مفتوحة من دون حاجة ليد أجنبية لتحمي هذا الوجود. هذا الوجود المسيحي ليس غريباً، ووجود أقليات أخرى ليس غريباً، هم أهل المنطقة، أجدادهم هم الذين بنوا عظمتها، وبتعاونهم كما في الماضي يكون في الحاضر والمستقبل هو أصل الحماية والبناء للحياة بين هذه الأطراف في إطار الدولة الوطنية التعددية التي تحترم هذه المكونات وثقافتها وتنوعها واختلافاتها، لكن لديها هدف واحد يتم تحقيقه في إطار العمل الوطني الشامل.
وعلى الأقليات أن ترفض هذه الدعوات الجديدة لأنها تقلل من قيمتها ومساهمتها الوطنية، وفي الحقيقة هي ليست أقليات إنما هي مكوّنات، وعندما نتحدث عن الدولة الحديثة وعن الحقوق المتساوية بين المواطنين لا يبقى هناك مكان لحديث عن أقليات وأكثريات، وإنما يصبح الحديث عن مواطنين.
* الضغوط الدولية التي تُمارس على نظام الأسد والعقوبات المفروضة عليه وربط إعادة الإعمار بالحل السياسي، هل ستؤتي ثمارها أم أن النظام سيصمد؟
** أرى أن الضغوط الفعلية التي يقوم بها المجتمع الدولي هي باتجاه إيران، وقد أُعلن بوضوح أن المطلوب تغيير السلوك الإيراني وليس تغيير النظام. الخشية تكمن في عدم نجاح هذا الضغط الدولي في تغيير سلوك النظام الإيراني وبأن تبقى اليد الإيرانية قوية في الداخل السوري وتعمل على استمرار أعمالها التخريبية، حيث أن جزءاً منها هو إطالة عمر بقايا النظام إن كان بوجود بشار الأسد أو بوجود أشباه مثيلة له.
* في إطار استغلال الأسد لمعاناة اللاجئين السوريين من خلال جعلهم ورقة في بازار المساومات… هل تتوقع أن يُعيدهم قريباً إلى ديارهم؟
** النظام الذي قام بكل المساعي والجهود وارتكب كل الجرائم لتهجير السوريين لن يكون جدياً في إعادتهم بطريقة آمنة وكريمة إلى قراهم. حتى الآن ما زال أهالي داريا ممنوعين من الدخول إليها، كذلك أهل القصير وجميع الأماكن الأخرى التي جرى التهجير منها، وبالتالي فإن اللاجئين السوريين سيكونون ضحايا مرّة ثانية إذا لم يجتهد المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية والأمم المتحدة ومؤسساتها في وضع حد لهذه الضغوط على اللاجئين لجعل حياتهم مستحيلة. ها هو الروسي يدمّر مقومات الحياة في إدلب ليجعل الذين لجأوا إليها يدفعون الثمن بعد مسلسل كبير من الترحيل لأكثر من مكان، كذلك للأسف السلطات اللبنانية تفعل الشيء نفسه، وهنا لا بدّ للمجتمع الدولي والأمم المتحدة من أن تمارس مسؤولياتها ودورها.
الظروف الطارئة للاجئين ما زالت قائمة. وما لم توضع العملية السياسية على السكة وبضمانات دولية حقيقية وبرعاية وتوافق دولي فعلي لن تتوفر المناخات بعودة آمنة وسليمة لهم إلى مدنهم وقراهم.
* هل يمكنك توقّع متى يمكن أن نرى سوريا الجديدة؟
**في ظل تعقد الوضع الدولي والإقليمي وعدم وضوحه، والتباينات بين القوى الدولية في توجهاتها، يبدو أننا بحاجة إلى زرقاء اليمامة حتى ترى ما وراء الأفق وتُنبئنا عن التاريخ الذي يمكن أن تستقر فيه العملية السياسية على السكّة، وتضع حداً لآلام السوريين ومحنتهم المستمرة منذ ثماني سنوات.
ما يُقلق السوريين في هذه المرحلة أكثر من وحشية النظام وإجرامه ومن سياسة التدمير والتهجير والإبادة الجماعية التي يمثلها المحتل الروسي والإيراني والتردد والوهن والعجز الذي يَسِم تحركات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، هو غيابهم عن التأثير في مراكز الفعل والقرار في ما يتعلق بالشأن السوري وذلك بسبب الافتقاد لكينونة سورية تُعبّر عن طموحات السوريين جميعاً عبر مقاربة وطنية واحدة لرسم مستقبل البلاد، وصيانة أهداف الثورة واستقلالية قرارها كما يريد ويفعل الثوار والشهداء.