عندما تفاءلت المعارضة السورية إبان وراثة الأسد الابن لأبيه بإمكانية أن يشكل مجرد مواراة الأب الثرى وما تبعها من مهزلة التوريث إمكانية جدية لانفتاح النظام الأسدي على آفاق جديدة تبشر بتغيير حقيقي في بنيته، كانت تعبر عن تغافل أو غفلة عن السيرورة التاريخية التي تشكل عبرها نظام الاستبدادية الشعبوية الذي ترابطت جلقاته بشكل وثيق بحيث بات من الصعب إرخاء هذه الحلقات إلا بحدث عظيم على مستوى ما أو على عدة مستويات وليس بمجرد وراثة بشار لحافظ.
فالمؤسس قد استطاع أن يحدد الهدف بدقة وهو الاستيلاء على السلطة، وترسيخ النظام مستثمراً بنى مؤسسية وظروفاً بنيوية بنجاح وبقدرة على التكيف ومرونة كبيرتين في مواجهة التقلبات التي تعصف بالعالم.
الرصيد الذي استخدمه من تجارب سابقة والتعبئة الشعبوية وخطاب الصمود في مواجهة العدو الإسرائيلي كانت أدوات المؤسس الأساسية، ويضاف إليها ما يجمع المحللون على أنه عامل مساعد في توطيد النظم السلطوية وهو نقص الاندماج في الاقتصاد الدولي.
أما المعارضة فقد كان رصيدها سنوات طويلة من الاعتقال وعقوداً من الاضطهاد اختزلت خطابها وجعلته يقتصر على انتقاد قمع النظام وطائفيته، وضرورة الاستبدال به نظاماً ديمقراطياً، حتى سخر من خطابها البعض واصفاً تغنيها بالديمقراطية ليل نهار بأنه إيديولوجيا جديدة حلّت محلّ اليوتوبيات السابقة من ماركسية وقومية وإسلامية.
لا شك أن النظام يستخدم استراتيجيتي القمع والطائفية، ولكن هذا ليس السبب الأساسي في قدرته على البقاء وصموده في وجه رياح التغيير التي عصفت بالعالم في أعقاب الحرب الباردة.
فللظروف البنيوية والرصيد التاريخي والخيار الاستراتيجي للفاعلين فيه الدور الأكبر في صموده رغم التقلبات والضغوط.
كان فشل المعارضة الأول إذن في ترحيبها بالوريث الذي لم يكن أمامه من سبيل إلا الاستثمار في ديناميات النظام نفسها وهيهات أن يستطيع إحداث خرق حقيقي في بنيته، وفشلها الثاني بعد خيبة ظنها بهذا الوريث في صياغة خطاب لا يستطيع مواجهة خطاب النظام إلا على صعيد المقارنات القيمية بين الحق والباطل وهو صعيد غير مجد سياسياً.
هتاف الشباب المطالب برحيل الأسد الابن وإسقاط النظام حرض المعارضة السورية مرة أخرى فلهثت خلف الشباب لاسترضائه أثناء الحراك السلمي، وللشد على يده عندما حمل السلاح، بدون تغيير نوعي في خطابها من جهة وبدون القدرة على توجيه هذا الشباب قليل الباع من جهة أخرى. مع ترحيبها غير المقنن بالتدخلات الإقليمية والدولية بينما عمد النظام -الذي أدرك نفاد الرصيد القديم من استراتيجيات التعبئة وخطاب الصمود وعدم نفع الظروف البنيوية ونقص الاندماج-إلى استراتيجيتيه الدائمتين الثانويتين وهما القمع والطائفية لكي يصعد استخدامه لهما إلى أقصى حد ممكن وهو ما ساعده على إطالة أمد الصراع مستغلاً انشغال معارضته باستجداء التدخل الخارجي أو بصراعاتها الداخلية أو استدرار عطف العالم على الضحايا من الأطفال والنساء والإعراب عن استغرابها من صمت العالم.
كان هذا فشل المعارضة الثالث الذي استخدمت فيه آلية التناظر التاريخي -بحسب مصطلحات علم النفس السياسي-وهي الآلية التي يلجأ الفاعلون من خلالها إلى استحضار حدث بارز وبناء استراتيجيتهم على ضرورة تكرره وهو ما بدا واضحاً في يقين هذه المعارضة في بدايات تشكيل مؤسساتها أن التدخل الخارجي أكثر من وشيك.
لا يزال النظام يستفيد من الظروف المحيطة التي ساهم هو في خلقها عندما أخرج وحش الإرهاب من قمقمه ولا يزال حلفاؤه مصرين على دعمه وعلى فتح بنود الاتفاقات على آفاق تفسير لا تحتملها النصوص ولكنها تصب في صالح بقائه أو على الأقل عدم اندحاره بشكل كلي ولا تزال المعارضة تفتقر إلى خطاب جديد وممارسة سياسية مقنعة.
حسناً فعلت المعارضة السورية بخروجها بوثيقة تحمل رؤية مشتركة في مؤتمر الرياض وربما كان هذا أول فعل سياسي جدي تبادر إليه ولكن إخفاقاتها السابقة يجب أن تعلمها حسن استثمار الحدث الأخير وتحويل الرؤية إلى مواد تفاوضية يعرف المتفاوضون من هذه المعارضة كيف يفصلونها ويعيدون صياغتها بشكل عملي وقانوني.
لم يعد ثمة صبر على فشل جديد، فلا تكرروا مسير ة الفشل لأن ثمنه يفوق المتصور وهذه فرصتكم الأخيرة.