فابريس بالانش
في الأيام الماضية، أشارت تركيا الى نيّتها السيطرة على الرقة السورية بمساعدة المعارضين العرب الذين ساهموا في تأمين منطقة الحدود بين جرابلس وأعزاز. و»القوات السورية الديموقراطية» – وهي قوات يغلب عليها الكرد وفيها بعض المقاتلين العرب – أعلنت قبل أيام، أنها بدأت التوجه نحو الرقة، وأنها حررت بعض القرى في الطريق إليها. ودار كلام صلاح مسلم، قائد حزب «الاتحاد الديموقراطي» الكردي، على الهجوم على «عاصمة» «داعش». ومهما آلت إليه الأمور، من المفيد تحليل سبل بلوغ الرقة لتسليط الضوء على الوضع العسكري الحالي في شمال سورية والعقبات التي قد تحول دون إطباق الحصار على معقل «داعش».
سيطرت «قوات سورية الديموقراطية» بقيادة حزب «الاتحاد الديموقراطي»، على تل أبيض في شمال محافظة الرقة في ربيع 2015، إثر هزيمة «داعش» في كوباني. وهذه القوات بعيدة 30 كلم فحسب من شمال مدينة الرقة، وأمامها جبهة واسعة تخولها شن أكثر من هجوم طويل. والأرض الواقعة بين حدود «قوات سورية الديموقراطية» وخطوط «داعش» الدفاعية حول الرقة، مأهولة بعدد قليل من السكان المتناثرين. والمنطقة من غير حواجز مادية، ويقع تجمع الأهالي في وادي بلخ، وهو مجرى نهر جاف في هذا الوقت من السنة.
وعلى بُعد كيلومترات قليلة شمال الفرات على سفح يطل على مجاري السيول السهلية، تبدو الرقة من غير دفاعات طبيعية تصد الهجمات من الشمال. وتمددت المدينة، وتضخم عدد سكانها من 37 ألف نسمة في 1970 الى 260 ألف نسمة في 2011. وساهم في هذه الزيادة نزوح ريفي ونمو طبيعي ضخم في وادي الفرات. فالنمو السكاني تضاعف مرتين كل عشرين سنة منذ نالت سورية استقلالها. واليوم، المنطقة مأهولة بالسنّة العرب فحسب. ففي 2013، إثر سيطرة «داعش»، نزح معظم الأكراد (كانت نسبتهم من السكان 20 في المئة) والمسيحيون (1 في المئة من السكان). وكثر من العلمانيين السنّة شدوا كذلك الرحال، في وقت حل محلهم نازحون سنّة من محافظة حلب وآلاف المقاتلين الداعشين مع أسرهم، نزلوا في منازل النازحين.
وتمدّد الرقة ساهم في ضعف الكثافة السكانية: الأرض متصلة وأكثر من نصف المدينة مؤلف من تجمعات سكانية غير قانونية. وقسم راجح من هذه التجمعات قوامه منازل صغيرة من طابق واحد محاطة بباحات كبيرة يبني فيها الأولاد بيوتهم حين يشبّون ويتزوجون. ووسط المدينة مؤلف من مبان متعددة الطبقات تفصل بينها جادات واسعة. وهذه الخطط المدينية تساهم في تعقيد مساعي الدفاع عن المدينة: فالجادات الكبيرة هي في مثابة جسر مشرع أمام المركبات المسلحة حين الهجوم، ومقاتلو «داعش» لن يسعهم الاحتماء بالمدنيين في الضواحي. فالبيوت هناك من طابق واحد.
وقبل شن أي عملية ضد الرقة، يفترض أن تسعى «قوات سورية الديموقراطية» الى السيطرة على مدينة الطبقة وسد الثورة الى الغرب وجسر حلبية (وزلبية) على بعد 50 كلم الى الشرق. وهذه السيطرة تخوّلها التقدم في ثلاثة اتجاهات. ويقلص قرب الأراضي الكردية طول خطوط الإمداد، فيسع الأكراد نقل القوات من الجبهات الخلفية الى الأمامية.
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن قواته ستسيطر على منطقة الباب ومنها تنتقل الى الرقة. لكن إثر هذه السيطرة، على القوات التركية والمعارضين السوريين اجتياز 180 كلم وعبور الفرات لبلوغ عاصمة «داعش». ولا جسور في الشطر الغربي من النهر تربط بين المنطقة هذه والرقة. والأغلب، أن تضطر القوات التركية الى الالتفاف حول الضفة الغربية من بحيرة الأسد وعبور سد الثورة. وهذا يقتضي دخول كل البلدات على طول الطريق، منها دير حافر ومسكنة، و»داعش» عزز دفاعاته هناك، وزرع الألغام في جسور الرقة.
وعلى ضفتي بحيرة الأسد، الأرض منبسطة ومتصلة، وفي الإمكان سلوك هذه الطرق إذا دعت الحاجة. وعليه، تضطر تركيا الى توسيع خطوط إمدادها، وهذا التوسع يضعفها – وهذه مشكلة كبيرة محتملة في القتال مع «داعش»، وهو سيد فنون الغزو من السهوب. وطول الحملة قد يكون كذلك عائقاً كبيراً. ولنفترض أن منطقة الباب ستقع في أيدي الأتراك بالسرعة التي سقطت فيها منبج في أيديهم (شهرين)، وأن القوات التي تقودها تركيا ستتقدم بوتيرة ثابتة (نحو 15 كلم شهرياً، ويلزمها شهرين للسيطرة على 30 كلم بين أراضي الثوار والباب)، فإن اجتياز الـ180 كلم الى الرقة يتطلب 12 شهراً. والهجوم من تل أبيض، وهي بلدة حدودية على بعد 100 كلم شمال الرقة، هو خيار آخر. فتعبر القوات التركية مساحات واسعة مقفرة، وتتجنب عوائق الفرات الطبيعية، ولا تدخل وادي بلخ المكتظ، وتستفيد من شبكة الطرق الجيدة لبلوغ الرقة. لكن قبل الاشتباك مع «داعش» والاصطدام بالتنظيم هذا، ستضطر القوات التركية وحلفاؤها الى جبه «قوات سورية الديموقراطية». ويرجح ألا يسمح الأكراد للدبابات التركية بعبور أراضيهم من غير قيد أو شرط.
ولا يخفى الأكراد أن تل أبيض هي نقطة ضعفهم (كعب أخيل)، وموقع غير منيع. فهم طردوا «داعش» في ربيع 2015 ليشدوا أوصال الأراضي الكردية بعضها الى بعض، ويُقسم سقوطها في أيدي الأتراك وحلفائهم كانتونات الشمال الكردية الحدودية التي تؤلف دويلتهم الوليدة روج أفا. ويغلب على جوار تل أبيض العرب، وولاء السكان غير مضمون. والقبائل العربية المحلية التي لجأت الى تركيا، إثر الاجتياح الكردي، تتوق الى العودة على متن مركبات الجيش التركي. وإذا لم يعقد أردوغان عزمه فعلاً على التقدم نحو الرقة، في وسعه التذرع بهذا المشروع للسيطرة على تل أبيض والباب بدعم من العرب. فيقطع أوصال الإقليم الكردي ويشرذمها، ويدفن حلم حزب «الاتحاد الديموقراطي» في تمدد روج أفا على طول الحدود الشمالية. وفي هذا السيناريو، يرجح أن تخسر الولايات المتحدة شريكاً ناجعاً في مكافحة «داعش» من غير أي ضمانات تقضي بسير القوات التركية نحو الرقة.
وخلاصة القول، إن شاغل تركيا و «حزب الاتحاد الديموقراطي» ليس السيطرة على الرقة. ويخالف مصالح أميركا تبديد الطرفين الكردي والتركي طاقاتهما في المواجهة بينهما، عوض جبه «داعش». وأسوأ الاحتمالات في الموازين الأميركية، حملة عسكرية تركية تجتاح الباب وتل أبيض، ولا تواصل طريقها الى الرقة. فينجو «داعش»، وتنفجر المواجهات بين الأكراد والأتراك. وقد يقر أردوغان الذي طالما رغب في الحؤول دون وحدة إقليم كردي في سورية، المغامرة بشن مثل هذه الحملة في وقت تنشغل واشنطن في مرحلة ما بعد الانتخابات. وهو يرى أن مسامحة واشنطن له قد تكون في المتناول أكثر من أذن أميركي مسبق على تفتيت وحدة الإقليم الكردي.
* أستاذ ومدير مركز البحوث في جامعة ليون الثانية، باحث زائر في المعهد، عن «واشنطن إينستيتيوت» الأميركي، 7/11/2016، إعداد منال نحاس
“الحياة”