الدولة الأمنية في الحياة السياسية السورية
تجربة ووقائع (1)
جورج صبرة
مواليد قطنا 1947 من أسرة فلاحية فقيرة. درس الإعدادية في مدارسها، وتخرج من دار المعلمين العامة بدمشق 1967 ومن كلية الآداب – قسم الجغرافية في جامعة دمشق 1971. أوفد إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1978 بمنحة لدراسة ” تقنيات التعليم ” بجامعة إنديانا. عمل في البرامج التعليمية التلفزيونية، وكتب في أدب الأطفال، وله عدة مجموعات قصصية منشورة.
انتسب للحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي في بداية السبعينات، وبسبب ذلك نقل من ملاك وزارة التربية إلى وزارة المالية 1982. تعرض للملاحقة من قبل أجهزة الأمن، وعمل في الحياة السرية متخفياً داخل البلاد بين 1984 و1987 حيث تم اعتقاله في دمشق. حوكم أمام محكمة أمن الدولة العليا بدمشق بالسجن 8 سنوات أمضاها في سجن صيدنايا العسكري. أطلق سراحه بانتهاء المدة 1995 مفصولاً من العمل ومحروماً من حقوقه المدنية لعشر سنوات. تابع عمله كعضو في اللجنة المركزية للحزب، الذي صار اسمه حزب الشعب الديمقراطي السوري، وصار أحد ممثلي الحزب في التجمع الوطني الديمقراطي عام 2000، وشارك في تأسيس إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي وقيادة مرحلته الانتقالية 2005 – 2007.
ومع انطلاق الثورة في آذار 2011 شارك في نشاطاتها وفعالياتها المختلفة في مدن محافظة ريف دمشق. اعتقل للمرة الأولى في نيسان 2011 وللمرة الثانية في تموز من العام نفسه، وعاد للحياة السرية من جديد. غادر سورية نهاية 2011 للانضمام إلى المجلس الوطني السوري. حيث عمل ناطقاً رسمياً باسمه وعضواً في المكتب التنفيذي، ثم انتخب رئيساً للمجلس في تشرين الثاني 2012. شارك بتأسيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وكان نائباً لرئيسه. كما شارك في مؤتمر الرياض 1 للمعارضة السورية، وانتخب عضواً في الهيئة العليا للمفاوضات. وعمل نائباً لرئيس الوفد المفاوض عام 2016 ونائباً لرئيس الهيئة العليا للمفاوضات 2017.
بدايات وتحولات
بدأت سطوة أجهزة الأمن (المخابرات) على الدولة والمجتمع السوريين منذ عهد الوحدة المصرية السورية 1958، حيث سقط أوائل الشهداء من السياسيين تحت التعذيب في أقبية المخابرات. وصار اسم عبد الحميد السراج (وزير الداخلية) مرادفاً للخوف والرهبة في النفوس. ازدادت هذ السطوة بشكل مضطرد ومتدرج بين عامي 1963 و1970، حيث بدأت الأجهزة بالتعدد والتوسع والتمكين والتطاول أكثر فأكثر على مؤسسات الدولة، وفي الوقت نفسه بنشر الخوف والرهبة بين صفوف الشعب لتأمين الاستقرار والاستمرار للنظام الأقلوي (سياسياً وطائفياً) الذي أتى به حزب البعث، خاصة وأن البنية الأساسية للفاعلين فيه كانت عسكرية. وازدادت سطوة أجهزة القمع حدة وانفلاتاً بعد صدور مرسوم عام 1966 يمنع مساءلة هذه الأجهزة مؤسسة وأفراداً ومحاسبتها عن أي ارتكابات ومخالفات تقوم بها، حتى لو وصلت لتهديد حياة الناس وقتلهم. وأنشئت في العام نفسه محكمة أمن الدولة العليا، التي لم يكن لها علاقة بالقضاء ومؤسساته، فقد كانت ذراعاً للرعب والتنكيل، الذي تشهره السلطة بوجه المفكرين والمثقفين والسياسيين من أصحاب الرأي الآخر والموقف المختلف. غير أن النشوء الفعلي للدولة الأمنية وتمكنها في سورية جاء مع انقلاب حافظ الأسد وحركته ” التصحيحية ” عام 1970. حيث تعددت الأجهزة وتضخمت، وصارت مطلقة الصلاحية دون أي قيود أو ضوابط لعملها. وانتشرت مواقع وفروع ومفارز الأمن العسكري وأمن الدولة والأمن السياسي في جميع أنحاء البلاد وعلى مستوى المناطق والنواحي وداخل جميع مؤسسات الدولة. وامتدت لترسل مندوبيها للمشاركة في مؤسسات المجتمع المدني، وتعيين عناصرها بشكل رسمي في النقابات والاتحادات والجمعيات الحرفية والخيرية والنوادي الثقافية والفنية والرياضية. ولم يكن الهدف من ذلك الاطلاع على مجريات الأمور فيها فحسب، إنما إدارتها وتوظيفها وتوجيهها من الخلف وفق الإرادة السياسية العليا للسلطة. حتى المؤسسات الدينية لجميع الطوائف والمذاهب لم تسلم من هذا الاختراق. فصار في كل فرع من فروع الأمن قسم اسمه ” قسم الأديان ” يتولى هذه المهمة بما في ذلك توجيه خطبة الجمعة لخطباء المساجد وعظة الأحد لكهنة الكنائس. كذلك لم تنج من هذا الاستهداف والاختراق التجمعات السياسية والأحزاب بما فيها الحزب الحاكم والأحزاب المتحالفة معه وتعمل في إطار” الجبهة الوطنية التقدمية “.
حكايات بمؤشرات مبكرة ودالة
1970 بدأت العمل في وزارة التربية بدمشق (الإدارة المركزية) في دائرة البرامج التعليمية التلفزيونية كمعد ومقدم للبرامج. وشاركت لأول مرة في مظاهرة ضد النظام يوم 16 تشرين الثاني 1970 يوم انقلاب حافظ الأسد. حيث تجمعنا في ساحة السبع بحرات، وكنا مجموعة من الشباب البعثيين والشيوعيين نعلن رفضنا للانقلاب الذي اتضح أنه يميني وعسكري. لم تكلف السلطة نفسها أكثر من إرسال سيارة إطفاء، أخرجتنا من الساحة بخراطيم المياه، وأنهت تلك الزوبعة.
بدأ جهد الدولة الأمنية في بداية السبعينات مركزاً على إنهاء التنظيم السياسي للبعثيين المختلفين مع النظام وامتداداته في المؤسستين العسكرية والأمنية وفي إدارات الدولة. وبدأت تلك الحملات باغتيال محمد عمران الرجل الذي يشكل أكبر خطر على حافظ الأسد في المؤسستين وفي فضاء الطائفة أيضاً. وزج بالسجن مسؤولي الصف الأول في الحزب، الذين وقفوا بوجهه وعارضوه في المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي عشية حركته التصحيحية 1970، وكانوا أكثرية المؤتمر. بعضهم أمضى ربع قرن في السجن، وآخرون لم يخرجوا منه أحياء. وعندما سأله بعض الأتباع والمقربين منه عن كيفية العمل، حيث معظم أعضاء القيادة القطرية في الجانب الآخر. أجاب حافظ الأسد بحسم وبساطة دالة: بـ 18 سيارة مرسيدس نشكل قيادة قطرية جديدة. وهذا ما كان. فمنذ البداية وبداية البداية كان الاعتقال والقتل والفساد والإفساد نهجاً معتمداً في الدولة الأمنية لإدارة علاقة السلطة مع كل من الدولة والمجتمع.
1971 قام حافظ الأسد بجولة في المحافظات كمرشح لرئاسة الجمهورية. وصار التلفزيون السوري ينقل احتفالات ومراسم استقباله رسمياً وشعبياً كل ليلة مع نشرة الأخبار. وعند ظهيرة أحد الأيام دخلنا مبنى التلفزيون كالعادة لنباشر عملنا المعهود، فبدا المشهد مختلفاً. صمت سائد وعيون حائرة ووجوه يعلوها الخوف، والعاملون في حالة عطالة وانتظار في جميع الأقسام الفنية. ورجال بوجوه مختلفة وبزات عسكرية يقفون وراء الأجهزة يتفحصون ويبحثون. وبعد السؤال وصلنا الجواب همساً. وفهمنا أن شريط الفيديو الذي وصل ليلة أمس عن زيارة اللاذقية، تقطع عرضه عدة مرات أثناء البث، مما أثر سلباً على مشهدية الاستقبال. والتحقيق جار من قبل المخابرات العسكرية للتأكد من السبب فيما حصل، إن كان مقصوداً وبفعل فاعل أم لأسباب تقنية بحتة، تتعلق بالأجهزة كما ادعت الإدارة. بقي التلفزيون والعاملون فيه من كبيرهم إلى صغيرهم واقفين على رجل واحدة، ويأكلهم الخوف والقلق حتى المساء بانتظار تقرير التدقيق الفني الذي سيكون له ما بعده. ومن حسن حظ الجميع كان سبب الخلل فنياً. تلك كانت رسالة مبكرة للمؤسسات الرسمية والعاملين فيها بالغة الدلالة على النهج الجديد ومرجعياته وطريقة العمل المطلوبة. وبعد ذلك تم الاستفتاء وصار حافظ الأسد رئيساً للجمهورية بنسبة أكثر من 95%، وسارت الأمور بعدها بمثل هذه النسبة التسعينية في جميع الانتخابات، حيث كانت النتائج تقرر سلفاً في مطبخ الأجهزة الأمنية المعنية.
1972 في سعي لاحتواء السياسة في المجتمع السوري وتدجينها وإفسادها وجعلها تابعة للنظام ومن أدواته، تم تشكيل ” الجبهة الوطنية التقدمية “. وهي صيغة لائتلاف سياسي ضم: حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم – الحزب الشيوعي السوري / خالد بكداش – الحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي – حزب الاتحاد الديمقراطي الاشتراكي العربي – حركة الاشتراكيين العرب – حزب الوحدويين الاشتراكيين.
1973 جرت انتخابات لاختيار أعضاء مجلس الشعب بعد تشكيل ” الجبهة الوطنية التقدمية ” التي سيطرت على معظم مقاعد المجلس. كان بينهم أحد رفاقنا من حمص هو المحامي نوري حجو الرفاعي، حيث كان الحزب الشيوعي بفريقيه ضمن الجبهة. ذهبنا مجموعة من شباب الحزب لتهنئته بالفوز معلنين دهشتنا الفرحة بحصوله على أكثر من مئة ألف صوت. فضحك الرجل الحكيم وقال: يا رفاق يضحكون علينا ويخدعون الشعب، فهل ننخدع ونضحك على أنفسنا أيضاً؟ اعقلوا يا رفاق . . . لو كان عندي مئة ألف صوت في حمص لا أقبل إلا مكان حافظ الأسد. فلا تدعوا أساليب السلطة ومخابراتها تخدعكم.
1973 جرى استفتاء على الدستور، وكنت في الخدمة الإلزامية كضابط مجند في مطار حماة العسكري، وكان جميع عناصر الفوج من ضباط وصف ضباط وعساكر متحلقين حول الصندوق الذي يجلس خلفه قائد الفوج في قلب الساحة. وبدأ الضباط يتقدمون واحداً واحداً للمشاركة بالاستفتاء. وصل أحدهم وكان من أبناء حماة، فحدد مشاركته وفق الدائرة الحمراء بالورقة، وهم بوضعها في الصندوق، فمنعه قائد الفوج قائلاً: أخطأت يا محمد، فالإشارة توضع على الدائرة الخضراء. فالحمراء تعني عدم موافقتك على الدستور. فأجاب الرجل ببساطة: نعم أنا لست موافقاً على الدستور. وساد الصمت الثقيل. وعندما حاول الضابط المجند وضعها في الصندوق من جديد، خطفها قائد الفوج من يده ومزقها صارخاً به: اذهب لا نريد صوتك. واستكثر وجود صوت واحد في الصندوق يقول لا. بل استعظم واستنكر وجود سوري واحد له رأي آخر بالدستور. وفي مساء ذلك اليوم جاءت سيارة من دمشق، حملت الضابط الذي لم يضع صوته في الصندوق إلى جهة مجهولة / معلومة. وأنهينا خدمتنا عام 1976 دون أن نعرف شيئاً عن مصير الرجل.
طوَّب دستور 1973 السلطة في سورية لحزب البعث أبدياً، عندما حددت مادته الثامنة أن ” حزب البعث هو القائد في الدولة والمجتمع ” وارتفع بعدها شعار يقول: ” البعث التزام بمسيرة القائد “. إذن هي دولة الفرد وإرادته وخيارات زبانيته ومؤسساته، وليست دولة الكل الوطني كما يفترض. فالأجهزة الأمنية هي صاحبة الشأن والقرار والحرية المطلقة بالفعل في حقل الدولة ومؤسساتها وبنية المجتمع. وكان ذلك بمثابة التأصيل الرسمي والمعلن لسيادة الشكل الأمني للدولة وطريقة التعامل مع المجتمع. فعوضاً عن وجود مجتمع يعمل على بناء دولة وفق إرادته ومصالحه، كما في أصل بناء الدول. صار السوريون أمام دولة تعمل على توضيب الشعب بجميع مكوناته، وتسعى لإعادة ترتيبه وتشكيله وفق إرادتها ومصالح المتسلطين فيها. وعوضاً عن أن تكون الدولة للشعب وأحد منتجاته، يصبح الشعب للدولة وبعضاً من أدواتها. وجرى العمل بشكل ممنهج على تأصيل هذا المفهوم وتعميمه سياسياً وثقافياً وإعلامياً. وهكذا لم يعد للشعب السوري دولة، إنما صار لدولة آل الأسد الأمنية شعب، تعمل على إعادة تشكيله وصياغته بالتضليل والعنف والإفساد.
كانت السياسة أعدى أعداء النهج الجديد والدولة الموعودة، التي يجري بناؤها بتصميم ممنهج وخطوات متدرجة. بدأت بمحاصرة الأحزاب واحتوائها، ثم قامت بتقسيمها وإضعافها، وتحويل حزب السلطة إلى مكان لسماع الخطابات والتعليمات وامتياح المصالح. فجميع أحزاب الجبهة انتهت إلى الانقسام، وليس مرة واحدة بل مرات. حتى صار بعضها مجرد عنوان لزمرة أسدية تابعة أو مجموعة أصدقاء ومنتفعين. وجميع هذه الأقسام مخترقة أمنياً، ويجري التعامل معها وتنفيعها تبعاً لدرجة انصياعها للقرارات وتنفيذ المطالب.
كان العنف في تلك المرحلة موجهاً بشكل أساسي لشركائهم السابقين في السلطة والحزب من البعثيين اليساريين جماعة 23 شباط (حزب البعث الديمقراطي الاشتراكي العربي) لأنهم الأشد خطراً على حافظ الأسد ومشروعه الجديد. فهم شركاء في الأرضية السياسية والاجتماعية، وضالعين معاً في المؤسسات الأمنية والعسكرية، وذوي مواقع وخبرات في العمل بالإدارة ومن خلالها. ففتحت لهم السجون، ومورست عليهم أعمال التنكيل قبل غيرهم. مثل رفاقهم السابقين من البعثيين (القيادة القومية) الموالين للعراق.
بدأت اليد الأمنية بالتسلل إلى الإدارات بشكل متدرج لكنه ثابت وممنهج. وكنت شاباً في بداية العشرينات عندما بدأت التعرف على ذلك من خلال عملي في إدارة مركزية عريقة وهامة في دمشق هي وزارة التربية. فبدأ التسلل على شكل موظف يسمى ” المسؤول الأمني “. يتنقل بين الغرف والمديريات متظاهراً بالكياسة واللطف والاستعداد للمساعدة وتقديم الخدمات داخل الوزارة وخارجها، مبدياً الاهتمام بالداخلين والخارجين من الوزارة حفاظاً على أمن العاملين. ولم تمض فترة حتى صار للأمن إدارة وموظفين وجناح خاص وصلاحيات تزداد باضطراد. وصار العاملون في المديريات الكبرى ومدراؤها (مدير المناهج والكتب – مدير البحوث – مدير الوسائل التعليمية . . .) يحسبون له حساباً، ويتلقون منه النصائح والمشورة والمقترحات. وصارت الاجتماعات الهامة والتخصصية ذات الشأن التربوي الخالص لا تستغني عن حضور المسؤول الأمني وتوجيهاته. ليصبح من أصحاب اليد الطولى في البعثات والمهام الخاصة وترتيب اللجان وصولاً إلى الامتحانات. وشيئاً فشيئاً صارت تدار الأمور بشكل غير مباشر ومن أياد خفية خارج الوزارة وبعيداً عن الخبرة والاختصاص. وبدأت تتغير وجوه العاملين ومدراء الإدارات والمصالح إلى أن وصلنا إلى الإعلان الفظ عن (تبعيث التعليم) أي إخراج أصحاب الانتماءات السياسية الأخرى وغير البعثيين من سلك التربية (وكنت واحداً منهم). وتمت تغطية الإجراءات الأمنية بالستار السياسي وتعميق نهج فئوية الدولة. ولم يكن الأمر في وزارة التعليم العالي، وتالياً في الجامعات والمعاهد العليا التابعة لها بأفضل حالاً. فتردت سمعتها وسوية الخريجين منها، وصارت تتلقى التعليمات والأوامر من أجهزة الأمن والقيادة القطرية مباشرة. وفي الجيش والقوات المسلحة صار موقع ونفوذ ” ضابط الأمن ” مهما كانت رتبته أكثر أهمية من الرتب الأعلى في القطعة العسكرية بما فيها قائد الوحدة. فرأيه وإرادته يحددان ترقية الضابط ومستقبله ومصيره.