يبدو أن توجهات إدارة بايدن، والتي استهلَّها بالسعي إلى (حقبة دبلوماسية) نحو عالم أقل تصارعاً وأكثر استقراراً، لا تعدو أن تكون سوى أكذوبة هدفها إيجاد ذرائع لتبرير سياستها في الشرق الأوسط، الساعية نحو مزيد من استنقاع الأزمات واستفحالها، والدفع بها أشواطاً جديدة من التعفين والتخريب، تحقيقاً لمصالحها ومصالح اسرائيل، والتكيُّف مع المشروع الإيراني غير النووي بوصفه الأداة المثلى لتفتيت المنطقة ووضعها على خرائط التقسيم.
في خضمْ التطورات الأخيرة التي ارتفع ضجيجها، لم تجد هذه التوليفة المفبركة من (الاستراتيجيات) ترجمتها الفعلية سوى بمحاولة تهدئة شكوك الصين استعداداً لمواجهتها، واستمالة روسيا لتوظيف دورها بعيداً عن الصين، واسترضاء إيران تمهيداً لاحتوائها. كل ذلك تحقيقاً لمصالح الولايات المتحدة للفوز في مواجهتها الكبرى واستعادة الزمن الأمريكي وعلى حساب مصائر الشعوب ومستقبلها. ولا أدلَّ على ذلك من اعتراف الرئيس الأمريكي بايدن نفسه، بأن هذه الدول الثلاث تمكنت من تعظيم أدوارها على أنقاض الانكفاء الأمريكي الذي برز على خلفية فشل ذريع حصدته بلاده في حربي أفغانستان والعراق، وما تسببت به هزائمها من تأثيرات سلبية مباشرة على مكانتها الدولية.
الفضائح والمآسي التي سبقت ورافقت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان كانت كافيةً لكشف المستور وإظهار النوايا الحقيقية من وراء هذه الخطوة، والتي تُوِّجتْ بالحديث عن الانسحاب لاحقاً من مناطق أخرى حيث تكتمل أركان هذه السياسة بإطلاق موجة من الانهيارات المتلاحقة تكون ضحيتها شعوباً منكوبة و دولاً ممزقة و اقتصادات منهارة من دون أي اكتراث بأن الفراغ الذي سيخلفه هذا الانسحاب سيوفر فرصةً ذهبيةَ ستتسابق عليها هذه الدول وتملؤها بميليشيات وجيوش احتلال تستكمل بها مسلسل الخراب والتهجير والاستيطان، وستجيرها ضد مصالح شعوبها ومصالح حلفاء واشنطن واصدقائها، سواء من الأوروبيين أم من دول الخليج أم حتى شركاء الناتو.
ليس خافياً على المتتبع أن ما نشهده من تطورات دراماتيكية ليس سوى إرهاصات مبكرة لإشباع حنين القوى المتجبرة بالعودة لمشروعها الأثير: “الشرق الأوسط الجديد”، والذي لن يكتمل بنيانه إلا بسحق الشعوب ودفن تطلعاتها، وإغلاق الأبواب أمام أية إمكانياته للتغيير الديمقراطي في جميع دول المنطقة، وخاصة دول الربيع العربي، حيث تكفَّلت قوى الثورة المضادة مدعومةً بالمخططات الدولية بوضع حدٍ لامتداداته الشعبية في موجته الأولى، بينما تستعد المصالح الدولية ووكلاؤها الإقليميون والمحليون لدفنه في مواطن موجته الثانية بذريعة الخلاص من الفوضى والتطرف مشفوعةً بأكاذيب محاربة الإرهاب التي أشرفت الأنظمة و عرابوها الدوليون على نشره و توزيعه بعناية و منهجية لوضع الشعوب تحت رحمة شذاذ الآفاق وقادة دول المافيا والجريمة المنظمة وعلى رأسهم روسيا و اسرائيل و إيران.