الحرب على الإرهاب
أيضاً . . وأيضاً
بعد أكثر من عام على انطلاق حملة دولية منظمة للحرب على الإرهاب في المنطقة ، بالاستهداف العلني لقاعدتيه التطرف والعنف ، ها هو الإرهاب يعلن نفسه كأكبر الحقائق على الأرض . يحتل المواقع الأولى في وسئل الإعلام ، ويتريع على طاولات المحادثات السياسية والحوار الفكري في مراكز الدراسات والأبحاث . يقوم بتغيير الخرائط الديمغرافية والجغرافية والجيوسياسية في المنطقة ، ويدخل فاعلاً رئيساً في الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي فيها ، ويتسلل بتصميم ظاهر إلى البنى الفكرية والثقافية للناس بتقدم مضطرد . ومن حق الضحايا الحاليين والمحتملين أن يتساءلوا عن المردود والانعكاس لهذه الحملة على الحياة العامة والخاصة للسكان الآن وفي المستقبل ، وعن المؤثرات التي تطبع بها الأوضاع الاستراتيجية في المنطقة . ويمكن أن تكون الحرب على ” داعش ” في كل من سورية والعراق الموقع الأنسب لاستكشاف الوضع .
دون كبير عناء يمكن للمراقب أن يرى الشعار الذي رفعته الدولة الإسلامية في العراق والشام ” باقية وتتمدد ” حقيقة واقعة . فقوافلها هدمت الحدود بين الدول ، وتسرح وتمرح في البادية والحواضر المدنية فيها . وترتفع أعلامها السوداء على أطراف دمشق وبغداد وغير بعيد عن عواصم أخرى . ووصلت متفجراتها أخيراً إلى كل من تونس والكويت ، وعدد المنتسبين إليها في ازدياد .
فما الذي فعلته حملة من ستين دولة ، تتمتع بآلة حربية حديثة وقدرات عسكرية مشهود لها غير تقليم أظافر التنظيم ، التي أعطت نتائج مثل تقليم الأشجار ، مزيداً من التفرع والحيوية على السطح ، وتمكيناً للجذور في الأرض ؟ ! ومن الواضح أن هذه النتائج تعبر عن قصور الحملة وعدم جديتها وجدواها . وهناك من يمضي أكثر باتجاه الشكوك متسائلاً : هل يريدون حقاً القضاء على الإرهاب ؟
وإذا تركنا جانباً مجريات الأمور في الموصل والرمادي وتدمر ، رغم أن أحداً لا يستطيع التمويه على الوقائع والأهداف التي صارت مكشوفة ، فإن الاستراتيجيين والعسكريين في الغرب كانوا أول من أشار إلى أن ” الضربات الجوية ” وحدها لن تكون مجدية . لكن الوسائل الأخرى التي جرى التخطيط لها واعتمادها لم تكن أكثر نفعاً . فمحاولة تجنيد سوريين لمحاربة داعش فقط ، وعبر التزامات مكتوبة تفرض عليهم ، باءت بالفشل رغم حاجة المتدربين للدعم المادي واللوجستي للبقاء في ساحة الصراع . كما أن انخراط النظام السوري في هذه الحرب – رغم سعيه – ظهر عبثياً وغير واقعي ، فليس بمقدور نظام إرهابي أن يكون شريكاً في الحرب على الإرهاب . لأن التزاماته مع المخطط الإيراني وحاجته لمنظمات التطرف والإرهاب وتكتيكاته معها أكثر نفعاً له . فمن سلَّم تدمر لداعش ، وفتح الطريق أمامها للتقدم عشرات الأميال على محور حمص إلى الفرقلس ، وعلى محور دمشق حتى خنيفيس حيث توجد أكبر مناجم الفوسفات السورية ، لن يجد من يؤهله لمناهضة الإرهاب فكيف لمحاربته . وأين يضع المراقب حقيقة أن داعش أوقفت العمليات العسكرية حول مطاري دير الزور وكويريس المحاصرين منذ أكثر من عام ، وذهبت إلى الشمال لافتعال معارك جانبية في عين العرب ( كوباني ) وتل أبيض ؟
تأتي أخيراً محاولة استخدام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية PYD بمهام مماثلة . برزت أخيراً في العمليات العسكرية التي شهدتها تل أبيض وما حولها , حيث كانت طائرات الأباتشي تدعم مقاتلي ” وحدات الحماية الشعبية ” ، وتمهد الطريق لهم في معركة لم تشهد حرباً حقيقية . وصار الحديث علنياً ومعتمداً عن الدعم الأمريكي الواسع والمتعدد الأشكال لـ PYD سياسياً وعسكرياً . فهل تعتمد الولايات المتحدة وحلفاؤها استراتيجية حقيقية للحرب على الإرهاب ؟ ومن يصدق أن نظاماً فئوياً طائفياً وإرهابياً كالنظام السوري يمكن أن يكون شريكاً في الحرب عليه ، كما تريد أن تروج السياسة الروسية ؟ وهل يمكن القضاء على الإرهاب بفعل نشاط الأقليات وجهودها في المنطقة ؟ وكيف يمكن أن يحصل ذلك بفعل انتقائي ، يفاضل بين إرهاب وإرهاب ؟ وإذا تمكنت آلة حربية من هزيمة التطرف والإرهاب على الأرض ، كيف يتم تحقيق ذلك في الحقول الاجتماعية والسياسية والثقافية التي يمكن أن يعشش فيها ؟
لم يكن السوريون في أي مرحلة بحاجة إلى شهادة بأنهم ضد التطرف والإرهاب . كان أهل الرقة أول من تظاهر ضد داعش ورفضها منذ الأيام الأولى لاحتلالها المدينة . وكذلك فعل أهالي محافظة إدلب ضدها وضد النصرة . وشهدت غوطة دمشق مظاهرات شعبية في العديد من مدنها ، ترفض التطرف . فلا يمكن لمن رفض استبداد وطائفية وإرهاب النظام وثار عليه ، أن يقبل استبداداً وطائفية وإرهاباً من أي جهة وتحت أي غطاء . وهكذا فعلت كتائب الجيش الحر ، إذ انبرت للحرب مع داعش بدافع وطني وتلمس صائب وحساس لمعطيات الواقع والتاريخ في سورية ومستقبلها أرضاً وشعباً . فعبثاً يحاول المحاولون مقاومة الاستبداد من حضن المستبدين ، ولن يجني غير الخيبة من يعمل على محاربة الإرهاب بالاعتماد على إرهابيين .
وتبقى عمليات الحرب على الإرهاب موضع شك في صدقيتها وجدواها ، مالم تتأسس على أرضية صلبة ، وتكون الشعوب فاعلاً رئيساً في تنفيذها ، لأنها صاحبة المصلحة ، وتتمتع بالقدرة على فعل ذلك . ولا يمكن محاربة الإرهاب وداعش على وجه الخصوص إلا عبر أكثرية المجتمع وبوساطتها . ومن الخطأ والخطر اعتماد الأقليات القومية أو الدينية أو المذهبية في أمر كهذا . لأنه لا يحقق شيئاً غير أن يحرف الصراع عن مجراه ، ويحمل مخاطر إلى هذه الأقليات ، ويؤدي إلى توريطها في مواجهات صعبة وغير منصفة الآن وفي المستقبل .
ولا بد من النظر إلى الإرهاب بكليته في إطار المنطقة . إرهاب الدول والأنظمة وإرهاب المنظمات والتنظيمات وإرهاب الأفراد . وعلى المواجهة أن تكون شاملة ومتزامنة وبمعيار واحد ، ألا وهو تحقيق الأمن والاستقرار والحرية للناس كل الناس في جميع المناطق . وطالما الإرهاب فكر وسياسة وتنظيم ثم آلة عسكرية ، فلا يكون صائباً ومجدياً أي مشروع لمحاربته إلا إذا تم في الحقول نفسها . ومن غير الأكثرية يمكن أن يحقق ذلك ؟
ليس لأحد أن يحلم بالقضاء على التطرف والإرهاب إلا بإزالة دوافعه ومسبباته . وهذا مرهون بولادة مشروع سياسي وطني ، ينصف مكونات الشعب ، ويعيد التوازن لدورها في بناء الدولة وإدارتها . يرفع عنها الظلامات ، ويضعها جميعاً على قاعدة المساواة . عندها يصبح التطرف والعنف والإرهاب عدواً للجميع ، وتصبح مهمة محاربته من اختصاص المجتمع وليس الدولة وأجهزتها فقط ، أو التحالفات الدولية أيضاً .
ليس لأحد أن يخدع أحداً في هذا العصر . فضحايا الإرهاب وحدهم من يتمكنون من القضاء عليه باقتدار ، وعلى الآخرين أن يقدموا المساعدة والتمكين لفعل ذلك . وإلا سيبقى ” القضاء على الإرهاب ” شعاراً عن البعض ، وهدفاً صادقاً عند البعض الآخر ، ووهماً عند آخرين ، وخديعة تستبطن غير ما تظهر . ويبقى الإنسان قيمة وقيماً ضحيته الدائمة .
جورج صبرة