أولاً-الأوضاع الدولية وتأثيراتها على منطقة الشرق الأوسط
1-تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا
ما تزال الحرب الروسية الأوكرانية مستعرة بلا هوادة وما من مؤشرات في الأفق تفيد بقرب نهايتها. وتستخدم القوات الروسية قوتها التدميرية الهائلة في هذه الحرب، لإيقاع ما أمكن من الخراب والدمار في البنية التحتية للمدن والبلدات والفرى الأوكرانية، وترتكب المجازر وجرائم الحرب والمعادية للإنسانية، حيث بلغ عداد الفارين والمهجَّرين بالملايين من الأوكرانيين، إضافة إلى مخاطر الإشعاع النووي بعد قصف محطة زابوريجيا النووية. لقد تطورت هذه الحرب إلى أزمة عالمية، مؤثرة على معظم دول العالم، وعلى ميزان القوى للنظام الدولي الراهن.
لقد خرقت روسيا بغزوها لأوكرانيا اتفاقية دولية وقعتها عام 1991 مع بيلاروسيا وأوكرانيا، التي أنهت وجود الاتحاد السوفياتي وأسست لقيام اتحاد الجمهوريات المستقلة واعترفت بوحدة الأراضي الأوكرانية. كما خرقت مذكرة بودابست الموقعة إضافة إلى روسيا وأوكرانيا من قبل ضامنين هما الولايات المتحدة وبريطانيا عام 1994، والتي أقرت بسلامة ووحدة الأراضي الأوكرانية. لم تكترث روسيا بهذه الضمانة عام 2014 خلال احتلالها لشبه جزيرة القرم.
منذ بداية الغزو كانت تصريحات بوتين تعبر عن أحلامه باستعادة أمجاد الإمبراطورية الروسية، حينما ركز على طمس تاريخية كيان أوكرانيا و”نزع سلاحها وهزيمة جيشها” و”اجتثاث قيادتها النازية”. وإعادتها إلى حظيرة النفوذ الروسي، وفصلها بالكامل عن الغرب، كما هو وضع بيلاروسيا. ولكن، بفعل المقاومة الأوكرانية، والإمدادات العسكرية الغربية، لم يستطع بوتين تحقيق أهدافه. ونجح الأوكرانيون في إيقاع خسائر فادحة في القوات الروسية المتقدمة إلى كييف، وهذا ما دفع القيادة الروسية إلى تغيير نهج حربها. وأعلنت في الوقت نفسه، أن حربها تهدف للسيطرة على إقليم دونباس، لحماية الأقلية الناطقة باللغة الروسية في أوكرانيا، إضافة إلى السيطرة على الجنوب الأوكراني المحاذي لشبه جزيرة القرم، الضروري لأمنها. في المقابل، قررت القيادة الأوكرانية المضي في مقاومة الغزو الروسي. وما إن تيقنت القوى الغربية من ذلك حتى بدأت الولايات المتحدة، وحلفاؤها في الناتو، تنظيم إمدادات دعم إستراتيجي عسكري لأوكرانيا. وبلغت حجم المساعدات أكثر من 15 مليار دولار؛ وليس ثمة مؤشر يضع سقفًا لها. وبات الغرب يعتبر أوكرانيا خط دفاعه الأول، والأداة التي يحارب الناتو بها روسيا، وبات ينظر إلى الحرب الأوكرانية باعتبارها ساحة إنهاك وإضعاف لروسيا وبوتين. ودخلت الدول الغربية الرئيسة في هذه الحرب، بصورة غير مباشرة، لاستنزاف الجيش الروسي. لذلك لا أحدً يمكنه التكهن بقرب نهايتها.
استعادت القوات الأوكرانية مؤخراً عشرات البلدات من منطقة خاركوف وطردت القوات الروسية منها. لكن المفاجأة لم تكن في الهزيمة الروسية، بل في انسحاب الجنود الروس بسرعة، وترك أسلحتهم ومعداتهم الضخمة ليستولي عليها الجيش الأوكراني. لقد فشل بوتين إلى حد كبير في تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية التي أعلنها وخاض الحرب من أجلها. لم يشكل فقط هذا التطور مفاجأة صادمة لأكثرية الروس ولجزء كبير من العالم، وإنما أحدث تحولاً في الداخل الروسي وشروع الناس بالكلام علناً عن ضرورة المساءلة والمحاسبة عن جدوى هذه الحرب. وليست إجراءات بوتين وخطبه النارية التهديدية، كما يفعل كل الطغاة، فلم تكن سوى تعبير صارخ عن المأزق الذي وضع نفسه فيه معرضاً روسيا للمزيد من المخاطر. فقرار التعبئة الجزئية هَزَّ استقرار البلاد ودفع ألاف الشباب للهرب والهجرة، أما اجراء الاستفتاءات في بعض المناطق الأوكرانية التي احتلها، ما هي إلا محاولة من بوتين للضغط على الدول الغربية للتوصل إلى تسوية تفاوضية مناسبة تخرجه بماء وجهه من المأزق الذي وضع نفسه فيه. أما التلويح باستخدام الأسلحة غير التقليدية، فهي التعبير الأكثر وضوحاً عن حالة الشعور بالهزيمة والهروب إلى الأمام خشية من تطورات داخلية يمكن أن نشكل مخاطر متصاعدة على نظامه الاستبدادي.
تفيد التقارير بأن خسائر روسيا في هذه الحرب: سقوط عشرات الآلاف من قواتها بين قتيل وجريح، بينهم عشرات من كبار الضباط. والتقارير الأمريكية تتكلم عن 80 ألف، أي ما يعادل ثلث القوات الروسية المهاجمة. ولقد تم تدمير ألاف الآليات، ومئات الطائرات، وغرق أضخم باخرة في أسطولها البحري. كما ظهرت مؤشرات على قصور في آلة الحرب الروسية، وقدرة الأسلحة الغربية الحديثة على الفتك بها، وكذلك كان هنالك قصور واضح في طرق الإمداد والأمور اللوجستية.
كما فرضت الدول الغربية حزماً من العقوبات الاقتصادية والمالية، أدت إلى خسارة استراتيجية هائلة لروسيا بإسقاط 90٪ من صادراتها النفطية إلى أوروبا، وإيقاف استيراد الفحم الروسي. كما طالت العقوبات قطاع الأعمال والمسؤولين، ودفعت إلى خروج كبريات الشركات الغربية من السوق الروسية؛ وأوقفت حركة الطيران مع روسيا، وحظرت إمدادها بالمكملات الإلكترونية التي تستخدمها حتى في الصناعات العسكرية. كما قامت بتجميد الأرصدة الروسية المودعة في بنوكها، وإخراج 80% من البنوك الروسية من النظام المالي العالمي. إن نتائج هذه الحرب، على المدى المتوسط والطويل، ستكون مكلفة وكارثية على الاقتصاد الروسي، سواءً بعزلها عن دوائر التفاعل الاقتصادي العالمي، أو بحرمانها من امتياز الدولة الأَوْلى بالرعاية، الممنوح بموجب قواعد منظمة التجارة العالمية. وستعيد الاقتصاد الروسي إلى الوراء عقوداً من الزمن.
ردَّت موسكو على الحرب الاقتصادية والمالية بفرض عقوبات مضادة، أملاً في أن يكون لها تأثير على الاقتصاد الغربي. كما لجأت إلى إيجاد أسواق أخرى للنفط الروسي، مثل الهند والصين، وبيعه بأسعار أقل من سعر السوق. كما قامت مؤخراً بقطع إمدادات الغاز الروسي للدول الأوروبية. كما فرضت قيودًا أخرى على صادراتها من المعادن النادرة، والأسمدة، والحبوب.
إن الارتفاع الكبير في أسعار مصادر الطاقة؛ وارتفاع أسعار عدد من السلع الزراعية الضرورية، مثل القمح والأسمدة الزراعية؛ والارتفاع الهائل في مستويات التضخم؛ هي بعض من أبرز مظاهر التأزم الاقتصادي العالمي، الذي عمل على تفاقم أزمات عدد من الدول، وأخذ يدفع بها نحو الإفلاس، مثل سريلانكا، ومصر.
يبدو أن روسيا لا تستطيع أن توقف الحرب، بسبب الإمدادات العسكرية الغربية لأوكرانيا، التي تعزز استمراها، وكذلك طموح القيادة الأوكرانية بتحقيق انتصار ما، لتحسين شروط التفاوض في المستقبل. كما أن إيقافها قبل إنجاز الأهداف الروسية المعلنة منها يعني فشلاً ذريعاً لنظام حكم بوتين. لذلك تراهن روسيا على أن يفضي استمرار الحرب إلى انهيار وحدة الناتو، وانقسام الأوروبيين على أنفسهم، وتراجعهم، عمَّا تصفه موسكو بالانصياع للسياسة الأميركية. كما تعمل روسيا على تعزيز التحالف مع الصين، خاصة بعد التوتر الحاد في العلاقات الأميركية-الصينية بسبب الخلاف حول مسألة تايوان، وتعمل أيضاً على إعادة بناء منظومة علاقاتها مع إيران وتركيا والهند والسعودية وجنوب إفريقيا، ودول اخرى، خاصة في الشرق الأوسط.
في المقابل، يرى الغرب، أن الخسائر المتزايدة في ساحة الحرب، والعقوبات الاقتصادية والمالية، ستُضعف النظام الروسي، وتقوض قدراته على مواصلة حربه. كما تفرض القوى الغربية ضغوطًا مستمرة لمنع الصين من توفير دعم ملموس لروسيا، وتسعى إلى إغلاق أبواب الدول الأخرى أمامها. كما تبذل الولايات المتحدة جهدًا مستمرًّا من أجل الحفاظ على وحدة الناتو، وإقناع دول الأوبك بضخ مزيد من النفط إلى السوق، ومساعدة أوروبا على تعويض مصادر الطاقة الروسية، وإقناع الحكومات الأوروبية بأن روسيا باتت تمثل خطرًا إستراتيجيًّا على مستقبل القارة واستقرارها. في الوقت نفسه، تحاول الولايات المتحدة بناء خطوط اتصال وعلاقات متنامية مع دول القوقاز ووسط آسيا السوفيتية السابقة، كما نجحت في تأمين انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، الذي سُيلحق ضررًا ملموسًا بأمن روسيا الجيوستراتيجي.
تسعى روسيا والصين الآن إلى تغيير النظام الدولي الحالي، الذي تقوده وتهيمن عليه الولايات المتحدة والغرب، سعياً وراء استعادة نظام الثنائية القطبية في الوضع الدولي. وتحث روسيا الصين للذهاب إلى تحالف وثيق بينهما لتستطيعا تحدي الهيمنة الأمريكية. لكن الواضح حتى الآن، أن الصين لا ترغب في بناء تحالف وثيق مع روسيا، فهي ترى أنها ستكون عبئًا عليها، وعلى نفوذها الاقتصادي في العالم، الذي يرتكز إلى استدامة علاقات طبيعية مع الغرب. وهو ما يستدعي المزيد من البحث عن أصدقاء وحلفاء آخرين خارج الكتلة الأطلسية. ولذا، فالأرجح، خلال هذه المرحلة الانتقالية للنظام الدولي، أن يتصاعد التنافس على كسب الأصدقاء والحلفاء بين القوى الكبرى، مما سيتيح هامشًا أكبر لصعود قوى أخرى مثل تركيا وجنوب إفريقيا والهند والبرازيل والسعودية وإندونيسيا، إن أحسنت إدارة علاقاتها الخارجية على أسس المصالح المشتركة وتجنب الانحياز لمعسكر العدوان. لكنَّ إحداث تغيير ملموس في بنية النظام الدولي حتى الآن لا يبدو سهل المنال. لأن تصميم إدارة بايدن على تقديم المساعدات الضخمة لأوكرانيا على التصدي للغزو الروسي ومنع بوتين من تحقيق أهدافه من وراء الغزو، يدخل في إطار استمرار الدفاع عن النظام الدولي القائم منذ أكثر من ثلاثة عقود.
2-انعكست تطورات وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على جميع الملفات العالقة بين الجانبين الروسي والأمريكي، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الملف السوري، الذي يعاني من غياب مصداقية وجدية المجتمع الدولي في تنفيذ قرارته المتعلقة بالحل السياسي، وهو ما أبقى الأزمة في حالة جمود واستنقاع. وباتت الآن على عتبة تحولات جديدة من الصعب التكهن باتجاهاتها، وأصبحت سورية اليوم ساحة لمزيد من التوتر بين الأطراف الإقليمية والدولية المتدخلة في الصراع، وحتى التفاهمات فيما بينها قد تتهدد بالفشل في سورية، من جراء الصراع الروسي الأوكراني. وبالتأكيد أن الملف السوري وتسخينه مرتبط بتطورات المشهد في أوكرانيا. فضلا عن الأشكال التي يمكن أن تأخذها هذه المواجهة وإلى أين ستصل. إلى جانب ما تنذر به تلك الحرب من تداعيات سياسية واقتصادية وعسكرية على الأزمة السورية.
يمكن القول إن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، أبعدت الحل السياسي للقضية السورية، المجمد أصلاً، طالما الحل العسكري هو السائد في أوكرانيا، حيث لا مجال للمقايضات السياسية الدولية، ولأنه خارج اهتمامات وأولويات واشنطن، وتسعى الآن إلى بقاء الوضع في سورية على ما هو عليه، والاستثمار فيها في وجه بوتين مثل إشهار محاسبة الأسد وتسليط الضوء على جرائمه. كما نتج عن هذه الحرب تصاعد الأزمة الإنسانية في الداخل السوري، حيث يعتمد نظام الأسد بشكل كبير على الدعم الغذائي والنفطي من موسكو، ولقد بدأت العقوبات المفروضة على روسيا تؤثر على الداخل الروسي. وهذا ما يؤدي إلى انشغال روسيا لفترة بمعالجة أزماتها الداخلية، وبالتالي إلى ترك الأسد في مواجهة صعبة أمام العقوبات الاقتصادية المرشحة للتزايد.
ثانياً-حول التطورات الإقليمية
في الواقع لم يؤثر، منذ الحرب العالمية الثانية، صراع عسكري بين دولتين، على العالم كله وعلى أوضاعه الجيوسياسية والاقتصادية، مثلما تؤثر الآن الحرب الروسية الأوكرانية. وقد تمتد هذه الحرب إلى دول إقليمية أخرى وربما احتمال تحولها إلى حربٍ عالمية ثالثة. ولم يقتصر حتى الآن تأثيرها مباشرة على أوضاع أوربا والغرب عموماً، إنما تؤثر بشكل كبير ومباشر على كامل منطقة الشرق الأوسط القريبة منها جغرافياً ولقد امتد تأثيرها حتى إلى بحر الصين وجزيرة تايوان ومناطق أخرى من العالم. ويبدو أن تأثيراتها لن تكون قصيرة بعد أن تحولت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد.
1-زيارة الرئيس الأميركي بايدن إلى الشرق الأوسط
يبدو أننا في هذه الفترة إزاء انفتاح أمريكي جديد على منطقة الشرق الأوسط؛ إذ فرضت ضرورات الأمن القومي للولايات المتحدة، بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، على الإدارة الأميركية اهتماماً أكبر بهذه المنطقة؛ بعد تراخي وضعف اهتمامها في السنوات الاخيرة، وبدء تركيزها على أن الصين قد صارت تشكل الخطر الاستراتيجي الأكبر على أميركا. جاءت زيارة بايدن إلى المنطقة، في ظروف حملة بوتين التوسعية في أوكرانيا باتجاه شرقِ أوربا، وما خلفته من مشاكل وأزمات سياسية واقتصادية وأمنية في العالم.
في الواقع لم تكن الزيارة فقط، لبحث شؤون الطاقة لدعم حلفاء أميركا الأوربيين كي لا يظلوا تحت رحمة النفط والغاز الروسيين؛ وإنما لطمأنة إسرائيل ومدعوي مؤتمر جدة والدول الخليجية خصوصاً بجدية رفض الولايات المتحدة لسلوك إيران وتدخلاتها في الإقليم ومنع تحولها إلى دولة نووية. ومن أهدافها الأخرى العمل على دعم سياسة التطبيع الجارية بين إسرائيل والدول العربية وتطويرها لتشمل المجالات العسكرية. وفي هذا الإطار يمكن إدراج الحملة الإعلامية المكثفة عشية المؤتمر، حول انشاء المشروع الجديد القديم (الناتو العربي)، الذي أيَّد الملك عبد الله الثاني صراحة انضمام الأردن إليه. هذا المشروع يمكن ارجاع أصل فكرة نشوئه الى فترة حكم أوباما وخلال اجتماعه في كامب ديفيد عام 2015 مع قادة دول الخليج، وكذلك دعوة ترامب العلنية في الرياض عام 2017 لإنشاء “تحالف الشرق الأوسط الإستراتيجي” Middle East Strategic Alliance “ميسا” أو ما اصطلح على تسميته “الناتو العربي”
على الأغلب كانت هذه الحملة رسالة أمريكية/إسرائيلية إلى الملوك والرؤساء العرب؛ مضمونها يقول إن تشكيل مثل هذا التحالف العسكري الاستراتيجي في المنطقة الشرق أوسطية، سيشكل مزيداً من الضغط والعزلة على “البعبع الإيراني” ووكلائه في المنطقة، ويمنعه من تنفيذ مشاريعه التوسعية. وكذلك يشكل جداراً دفاعياً ضد تحالف الترويكا الروسية – الصينية – الإيرانية الذي تزداد ملامح تشكلها يوماً عن يوم (الحلف الشرقي).
كان من الطبيعي، أن يتطلب هذا الانفتاح الأميركي الجديد من بايدن، خطابا سياسيا قادراً على ردم هوة الخلافات التي أدت إلى فتور العلاقات في السنوات الأخيرة بين الأميركيين والخليجيين، الذين راحوا يشككون كثيرا بمصداقية السياسة الأميركية، ويتكلمون على تخاذلها عن دعم حلفائها ودفاعها عنهم في الملمات والأزمات. لذلك فقد اتسم خطاب بايدن في رحلته بشيء من الاعتذارية؛ وتجديد عهود التعاون والدعم لحلفائه التاريخيين. فأكد في إسرائيل بكلام صارم أنه لن يسمح لإيران بأن تصبح دولة نووية، وقال للفلسطنيين في بيت لحم أن حل قضيتهم على أساس الدولتين ما زال موجوداً وحاضراً في السياسة الأميركية. وبذل بايدن كل ما بوسعه في جدة ليؤكد بصوت عالٍ للقادة العرب أنه “جاء ليصحح سياسات الولايات المتحدة الخاطئة في السنوات الأخيرة تجاه المنطقة، وأنها لن تنسحب منها لتتركها فراغاً ليملأه الروس والإيرانيون والصينيون. في المقابل، كانت كلمات رؤساء الوفود العربية في المؤتمر تتسم بالدفاع الصريح عن مصالح دولهم، بسبب تزعزع ثقتهم بمصداقية سياسات أميركا تجاه حلفائها، وعلى وجه الخصوص بمواقفها الرخوة غير الفعالة واللامبالية تجاه تدخلات إيران في شؤون الدول العربية ومحاولتها السيطرة على قرارها السياسي عبر وكلائها وميليشياتها. وموقفها الرخو والضعيف من ميلشيات الحوثيين في اليمن وإيقاف تصدير الأسلحة للسعودية كان خير مثال. ولقد انصبت معظم مواقفهم على “عدم تأييدهم إقامة أحلاف عسكرية موجهة ضد أية دولة أخرى في المنطقة وحتى عبروا عن نواياهم السلمية اتجاه إيران كدولة إذا ما التزمت بسياسة عدم التدخل في شؤون دول الإقليم. وحتى في مجال الطاقة، لم يحصل بايدن على وعود خليجية معسولة فيما يتعلق بضخ كميات إضافية من النفط تلبي حاجة أوربا خلال الأزمة الأوكرانية. وكلام ولي العهد السعودي كان واضحاً حينما قال: “إن تأمين كميات أكبر من النفط في هذه الفترة ليس من مسؤوليتنا وحدنا وإنما من مسؤولية العالم كله”. بطبيعة الحال الدول الخليجية تدافع هنا عن مصالحها وعدم تخريب علاقاتها مع منظمة الأوبك، وعلاقاتها التي نسجتها مؤخرا مع كل من روسيا والصين والهند وغيرها من الدول. وليس جديداً أن تبدي الدول الخليجية مثل هذا الموقف الوسطي غير المنحاز، فلقد اتخذت مثله من الحرب الروسية الأوكرانية في اجتماع الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة. إن خطاب المصارحة الذي استخدمته وفود الدول العربية في جدة يجب ألا يستخلص منه على الإطلاق أنهم يريدون إضعاف علاقاتهم مع حليفهم الأميركي القائمة منذ أكثر من قرن، وإنما كانوا يعبرون عن رغبتهم بتطويرها وتحسينها لتكون أفضل وأصدق ولا تسيء لمصالحهم. وفي هذا السياق تتحمل الولايات المتحدة عبر سياساتها الشرق أوسطية جزءاً كبيرا من مسؤولية استنقاع وإزمان المسائل الإقليمية المشتعلة منذ أكثر من عشر سنوات في كل من سورية ولبنان والعراق واليمن وليبيا، وأن البيان الختامي لمؤتمر جدة لم يتضمن بخصوصها سوى كلاما لرفع العتب وعناوين عامة لا تغني عن جوع.
إذا كان هنالك من أهمية لمؤتمر جدة فهي تكمن، في رؤية الولايات المتحدة تنقد وتراجع ذاتها لأول مرة وتعترف بأخطائها بلسان رئيسها، وكذلك في رؤية حلفاءٍ لها يستخدمون بصراحة ووضوح لهجة استقلالية في خطابهم السياسي معها. وترد الأخبار عن توريد صفقة كبيرة من صواريخ (باتريوت) للسعودية وصفقة كبيرة من صواريخ (تاد) للإمارات، وعن مناورات بحرية مشتركة أميركية سعودية في البحر الأحمر.
لقد أعادت القمة التأكيد على أولويات المنطقة، وإمكانية التقارب مع الأولويات الأمريكية في حال أعادت النظر في المقترحات العربية. ويمكن القول إن زيارة بايدن للشرق الأوسط تمثل عودة لاهتمام إدارته بها وبقضاياها، والتي فرضتها اعتبارات واقعية ارتبطت بشكل أساسي بنتائج الحرب الأوكرانية، والتطورات في ملف التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي. ولكن هذه الزيارة في نفس الوقت تمثل فرصة جيدة للحوار العربي-الأمريكي، وإعادة تعزيز الثقة وفتح آفاق جديدة للتعاون بين الطرفين، وبما يحقق مصالحهما المشتركة. ولعل ذلك أن يسهم في تعزيز الموقف الخليجي والعربي عموماً، وقد يسهم مستقبلاً في خلق قوة ذاتية، تجعل من المنطقة قوة عربية مستقلة.
2- قمة طهران
أما مؤتمر طهران الذي جمع كلاً من بوتين وأردوغان ورئيسي. كان الهدف منه إدارة خلافات الروس والإيرانيين والأتراك حول مصالحهم المتناقضة في الدول الإقليمية المشتعلة المنغمسين في وحولها. وكانت الحيثية الأكثر بروزاً من حيثيات المؤتمر معارضة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي القوية للعملية العسكرية التركية التي يبشر بها أردوغان منذ أسابيع في الشمال السوري، “للقضاء على الإرهاب (حزب العمال الكردي وقسد) وإقامة منطقة آمنة لإسكان ملايين اللاجئين السورين”. وكذلك لم يحظَ اردوغان بموافقة بوتين على هذه العملية على الرغم من “تفهم الروس على لسان لافروف لمسألة الأخطار الأمنية التي تواجهها تركيا على حدودها الجنوبية”. وهذا ما جعل أردوغان غير راضٍ عن قمة طهران ويدلي بتصريحه الانفعالي: “نحن لا نأخذ إذناً من أحد عندما نقوم بعمليتنا العسكرية لنحمي أمننا القومي من الإرهابين”.
فروسيا لا تريد إغضاب شريكيها لا التركي ولا الإيراني، فكلاهما حليفا لها في الوقت الراهن. فإيران أوكلتها بعض مهامها في سورية بسبب انشغالها الكبير في أوكرانيا، وهي على وشك أن تعقد معها معاهدة استراتيجية كبيرة قريباً، وكذلك تربطهما حدود مشتركة وعلاقات اقتصادية وجيواستراتجية تتعلق بأفغانستان ودول آسيا الوسطى (السوفيتية سابقاً). وبين روسيا وتركيا مصالح جيوسياسية واقتصادية كبيرة. تلعب تركيا الآن دوراً متميزاً كوسيط بينها وبين أوكرانيا، وهي بالرغم من كونها دولة أطلسية لم تلتزم بالعقوبات الغربية على روسيا. ولديها الآن الكثير من الأوراق السياسية التي تلعب بها في كل من سورية والعراق وليبيا، وكانت قد أعادت علاقاتها مع إسرائيل ومصر والدول الخليجية ولذلك فروسيا لا تريد التفريط بعلاقاتها ومصالحها معها. فيبدو أن الخلافات في مؤتمر طهران حول السياسة التركية في سورية قد دفعت لعقد القمة الثنائية في سوتشي بين بوتين واردوغان.
3- قمة سوتشي
بطبيعة الحال لم يحضر ابراهيم رئيسي مؤتمر سوتشي، فإيران من جهة حليفة للنظام الأسدي، وفي الوقت ذاته على علاقات طيبة إذا لم نقل على تحالف مع حزب العمال الكردي. ولذلك لم يأتِ من فراغ تصدي المرشد خامنئي بذاته لمعارضة العملية العسكرية التركية حينما قال” إنها تؤدي إلى خراب المنطقة بأكملها”. يمكن القول إن انعقاد قمة سوتشي كُرِسَّت لبحث تطوير العلاقات بين الجانبين الروسي والتركي وخاصة العلاقات الاقتصادية والتجارية المتنامية بينهما بعد الحرب الأوكرانية، وإلى إعادة تشكيل عملية التنافس الجيوسياسي بينهما، والعمل على ربط اقتصاديهما معاً بشكلٍ أكثر إحكاماً وأفضل جدوى. ينظر بوتين إلى قوة الاقتصاد التركي كأحد الخيارات البديلة لروسيا في علاقاتها الاقتصادية مع الغرب. وبالمثل، يبحث أردوغان عن منافع اقتصادية جديدة تشتد الحاجة لها اليوم لإعطاء دفعة قوية للاقتصاد التركي على أبواب الانتخابات المقبلة. وكذلك بحث الوضع في سورية بشكل عام بعد أن فشل أردوغان في الحصول على ضوء أخضر لعمليته العسكرية لا من الولايات المتحدة ولا من شريكيه في منصة استانة روسيا وإيران. ولقد تبين أن أهم نتائج اجتماع سوتشي هو ما تضمنته تصريحات وزير الخارجية التركي شاووش أوغلو وتصريحات أردوغان من بعده والتي كانت أكثر وضوحاً وتدعو صراحة إلى التطبيع مع نظام الأسد. ويبدو أن بوتين قد طرح في سوتشي أن أفضل بديل لضمان الأمن التركي من “الإرهاب الكردي”، وعودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم هو تطبيع العلاقات بين تركيا ونظام الأسد والقيام “بمصالحة بين المعارضة والحكومة السورية”. مع أن هنالك رأي آخر لبعض المحللين الذين يرون التصريحات الإعلامية التركية ماهي إلا نوعا من الضغط على أميركا لكي تعطيها الضوء الأخضر في الشمال السوري، الذي يشكل فصل الخطاب بالنسبة إلى قيام تركيا بعمليتها العتيدة. والضربة الأميركية العنيفة على القواعد العسكرية الإيرانية في دير الزور، كانت رسالة أميركية على ما طرح في مؤتمري طهران وسوتشي حول ضرورة انسحاب الولايات المتحدة من سورية.
إن دوافع أردوغان للتطبيع مع نظام الأسد هي دوافع داخلية وإقليمية ودولية، والأهم داخلياً فهي مناورة لامتصاص نقمة المعارضة التركية وإسقاط بعض أوراقهم في سباق الانتخابات الرئاسية المقبلة. ونشهد الآن تراجع ومراوحة في موضوع التطبيع بين نظام أردوغان ونظام الأسد، حيث جري تقديم صياغات تركية مستحلة أمام الأسد (انتخابات حرة، عودة أمنة للاجئين، تطوير اتفاق أضنة، تحجيم قسد …)، وتدرك تركيا أن نظام الأسد عاجز عن تلبية أي مطلب من شروطها، لكن ما جرى جاء لإرضاء روسيا وتحاشياً لضغوطها، حيث يسعى أردوغان إلى مواءمة مصالح بلاده مع روسيا في سورية بشكل أكبر.
4- الصراع في العراق حول إعادة بناء الدولة واللادولة
يعيش العراق الآن على قرع أجراس ثورة شعبية عارمة يقودها التيار الصدري بعد ثلاث سنوات من انتفاضة تشرين (2019) في محافظات الوسط والجنوب من بغداد إلى البصرة، في الوقت الذي كانت حكومة ولاية الفقيه في طهران طابقةً يدها لفترة طويلة على أن سكان هذه المنطقة ذات الأغلبية الشيعية هم دائماً إلى جانبها. كان أكثر ما يثير الانتباه في ثورة هذا الصيف اللاهب، خطابها السياسي الواضح والصريح الذي يركز على تغيير النظام القائم منذ عام (2003) على المحاصصة الطائفية والتبعية للخارج واقتصاد الفساد والنهب. ويركز خطابها كذلك على عودة العراق إلى الفضائين الوطني والعربي، ويطالب بحل البرلمان ووضع عقد سياسي جديد وإعادة كتابة الدستور. أربكت هذه الثورة السلمية بزخمها الشعبي الكبير وخطابها الوطني التحالف السياسي الموالي لطهران (الإطار التنسيقي الذي يتزعمه نوري المالكي)، في الوقت الذي حظيت بتأييد واسع وعريض لدى كل مكونات الشعب العراقي. إن خطابها السياسي والاجتماعي الذي يمثل واقع حال العراق في هذه المرحلة، جعلها ألّا تقتصر فقط على التيار الصدري الذي يقودها، وإنما نزلت تردفها في الشارع جماعات تشرين وقوى المجتمع المدني والوطنيين الديموقراطيين واليساريين والشيوعيين والمستقلين، تطالب أيضاً بمكافحة الفساد والتغيير الجذري للنظام.. لقد بذلت الحكومة الكاظمية كل ما لدبها من وسائل لحماية المتظاهرين السلميين. شكلت قوة الزخم الشعبي لهذه الثورة، هيمنةً على الشارع العراقي، استفزت “الإطار التنسيقي ” الموالي لطهران، وأشعرته بالعزلة الجماهيرية، وجعلته أكثر هشاشة وخلخلة وانقساماً وغير قادر على تشكيل الحكومة العراقية “التوافقية” التي يستقتل من أجل تشكيلها لكي تغطي استمرارية نظام الفساد والنهب والسلاح غير الشرعي.
ولكن تحت وطأة الخوف من المواجهة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، وانفجار العنف وتدهور السلم الأهلي في العراق بادر لنزع فتيل الصدام رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، وآزره في ذلك كل من رئيس الحزب الديموقراطي الكردي مسعود البرزاني ورئيس المجلس النيابي محمد الحلبوسي وآخرون. لم يستجب الصدر لدعوة الكاظمي للحوار الوطني، مدفوعا بنتائج الحوارات الفاشلة منذ عشرة أشهر التي لم تتوصل إلى نزع فتيل الأزمة السياسية المستمر استعصاؤها منذ انتخابات أواخر العام الماضي. ولقد كانت تجربة الحكومة التوافقية (أوما تسمى بحكومة الوحدة الوطنية) خلال تسعة عشر عاماً درساً هاماً، فحرمت العراق من سيادته وجعلته من أوائل دول الفساد ونهب المال العام والفقر المتقع في العالم، وبالإضافة إلى ذلك فالفجوة واسعة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي وقد يؤدي الصراع بينهما إلى حرب أهلية. في كل الأحوال ومهما كانت سيناريوهات الصراع بين ثورة الشعب العراقي المتواصلة وقوى الثورة المضادة، فقد أحدثت انتفاضة تشرين والثورة الجارية فصولها الآن خللاً كبيرا في قوة ومناعة منظومة ولي الفقيه ووكلائها في العراق والمنطقة عموماً، وامتناع العراق عن أن يستمر كرماً خلفيا لها ومرتعاً لأذرعتها وميلشياتها ومشاريعها التوسعية. وهناك قلق من الدعوة للحوار وبالطريقة والظرف التي يتم فيها من قبل قوى الإطار التنسيقي والرئاسات الثلاث والقوى الأخرى، إضافة لأمريكا والاوربيين، بهدف انتاج حكومة توافقية او ما يسمى حكومة وحدة وطنية، ما هي الا محاولة لإجهاض نتائج الانتخابات الديمقراطية، وخلط الأوراق والعودة لحكومة المحاصصة الفاشلة وبالتالي المحافظة على النظام السياسي الذي كرسه الاحتلال الأميركي منذ عام 2003، الذي عانى منه العراق ما عاناه من فساد وافقار وإرهاب ودمار ونهب مقدرات البلاد.
5- إرهاصات تراجع النفوذ الإيراني في الإقليم
لم يبقَ نفوذ نظام ولاية الفقيه في المنطقة العربية والشرق الأوسط عموماً على حاله، فهو منذ حوالي ثلاث سنوات يعاني من حالةِ تراجع وضعف لا تخبئ نفسها. وخرج هذا التراجع من كونه أمنية لشعوب الدول الواقعة تحت نيره وإرهابه ليصبح بداية واقع حقيقي ملموس، ويرى بعض المحللين أن التراجع الإيراني في المنطقة العربية قد بدأ منذ أن أحرق المتظاهرون في البصرة القنصلية الإيرانية إبان انتفاضة تشرين.
ويعود هذا التغير لعدة أسباب داخلية وخارجية. فالاقتصاد الايراني تحول إلى اقتصاد متهالك بسبب صرف النظام معظم دخله القومي وريع الثروات النفطية على الصناعات العسكرية ومتطلبات استراتيجيته التوسعية وتقديم الأسلحة والمال لأذرعته وميلشياته في الإقليم المتوسطي وإفريقيا وحتى أوربا. ومن ثم جاءت العقوبات وحالات الحصار الأميركية وغير الأميركية لتفاقم انهيار الوضع الاقتصادي أكثر وتخفض قيمة العملة الإيرانية بنسب خيالية وتزيد معدل خط الفقر إلى أكثر من 70 بالمئة من الإيرانيين. انعكس هذا الوضع الاجتماعي الإيراني الصعب، بالإضافة إلى سياسة نظام ولاية الفقيه المعهودة القائمة على القهر والاعتقال وقتل المعارضين وإعدامهم في داخل السجون على العمل الإيراني المعارض. لذلك ليس من المستغرب أن نرى في السنوات الأخيرة تلك الانتقاضات الشعبية المتوالية والمتقاربة في معظم الأقاليم والمدن الإيرانية.
كذلك الحال انعكست السياسة الإيرانية بكل مجالاتها الداخلية والخارجية والاقتصادية على دول الإقليم الواقعة تحت نفوذها وسيطرة أذرعتها وميليشياتها، فالتضخم النقدي وانهيار سعر العملة والفقر المتقع واقتصاد التهريب والنهب أسياد الموقف في هذه البلدان. وصار أي نظام سياسي وحتى إذا كان في أميركا اللاتينية ويملك ثروات نفطية هائلة، فإذا كان يهوى الفقر والظلام والظلم والاستبداد لشعبه عليه أن يتحالف مع محور طهران. في الواقع كان العراقيون أول من انتفضوا عام 2019 في تشرين على هذا المحور ورفعوا شعار: العراق حرة حرة وإيران برة برة”؛ وسقطت حكومة عادل عبد المهدي وجاءت حكومة الكاظمي التي انفتحت على الفضاء العربي وأشرفت على الانتخابات العراقية التي فاز فيها التيار الصدري بأعلى عدد من المقاعد.
وفي الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان، فعلى الرغم من فوز مرشحي حركة أمل وحزب الله فإن معظم حلفاء النظام السوري قد سقطوا وتراجع عدد مقاعد التيار العوني حليف حزب الله وغطاء سياساته المنحازة لطهران والمعادية للمحيط العربي وخصوصاً السعودية ودول الخليج. ومن مشاهد التراجع الإيراني في المنطقة ما حدث إبان الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة مستهدفا منظمة الجهاد الإسلامي الموالية للمحور الإيراني، فأطرافه في المنطقة تركوا منظمة الجهاد تتلقى القصف الإسرائيلي لعدة أيام لوحدها، وحتى منظمة “حماس” فقد وقفت على الحياد ولاذت بالصمت حتى نهاية المعركة. فيبدو أنها ترددت بين هواها التركي وهواها الإيراني فمالت إلى موقف تركيا التي أعادت أخيراً علاقاتها مع إسرائيل إلى سابق عهدها. وهنالك من يعزي موقف حماس الصامت إلى ما عانته من انحسار تأييد أهل غزة لها لما ذاقوه من تدمير وويلات وقتل وتشريد نتيجة حرب العام الماضي. ويبدو أن الاستدارة السياسية البراغماتية التركية في المنطقة، وتراجع حدة الخلاف بين قطر ودول الخليج الأخرى، وعامل سخط الشعب على حروب غزة، قد تضافرت معا في صنع موقف حماس من الهجوم الاسرائيلي الأخير. وكذلك حزب الله فقد صار يتوجس ويحسب ألف حساب لأي اشتباك عسكري مع إسرائيل منذ حرب 2006.
منذ ثلاثة أسابيع على التوالي، تجتاح المدن الإيرانية موجة احتجاجات شعبية عارمة، وما تزال تتوسع رقعتها في مختلف مدن أقاليم البلاد والجامعات وينخرط في صفوفها أوسع قطاعات المجتمع وخاصة النساء، حيث شملت هذه الانتفاضة كل المكونات والقوميات ومحافظات جديدة لم تدخل الانتفاضات السابقة، في أعتى مواجهة مع نظام الملالي الذي يهيمن على المجتمع، ويمعن في خنق تطلعات الشعب الإيراني نحو الحرية والكرامة ويقمع الحريات الخاصة والعامة، ويطلق أجهزته القمعية في حملات اعتقال وتعذيب واعدام لا تتوقف منذ عقود. فلم يكن مقتل الشابة /مهسا أميني/ على يد ” شرطة الأخلاق” تعذيباً سوى الشرارة لتفجير بركان الغضب المتراكم، وحالة الاحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تسود أوساط المجتمع الإيراني رفضاً لنظام ولي الفقيه ووضع حد لنفوذه وهيمنته حيث أحرق المتظاهرون صور رموزه الأساسية، وكذلك تنديداً بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية الكارثية. ويحاول ملالي طهران خلط الأوراق للتغطية على الانتفاضة المستمرة والمتصاعدة، بالقصف الصاروخي ودفع المسيرات من قبل “الحرس الثوري” ضد شمال العراق في أربيل والسليمانية، واستهداف مراكز ومقرات المعارضة الإيرانية الكردية، ولقد لوحظ بوضوح صمت الأحزاب العراقية الموالية لحكومة الولي الفقيه عن الاستهداف الأراضي العراقية.
لقد كشفت الانتفاضة الإيرانية الصاعدة على طريق الثورة حجم المأزق الإيراني بعد اهتزاز نفوذه الإقليمي في العراق ولبنان، وشكلت تظاهرات الشارع العراقي المتجددة رافعة لدعم انتفاضة الإيرانيين حيث يتشارك الثوار في البلدين هدف الخلاص من نظام الملالي. كما يقف ويتضامن الرأي العام الأوربي والأميركي مع انتفاضة الشعب الإيراني عبر التظاهرات التي شملت عشرات المدن، بينما لا تزال مواقف دولهم اتجاهها ضعيفة رخوة خجولة في الوقت الذي يؤدي انتصارها إلى تغيير وجه الشرق الأوسط وتقدمه سياسياً واقتصادياً واجتماعيا وفكريا وثقافيا.