بقلم حازم الأمين/
مقاتلو “داعش” الذين غزو السويداء ومحافظتها فجر أمس وقتلوا نحو 200 من أهلها، هم أنفسهم من نقلتهم باصات النظام الخضر من مخيم اليرموك في دمشق وأودعتهم في البادية على تخوم المحافظة الدرزية. هذا الأمر موثق عبر البطاقات التي عثر عليها في ثياب قتلاهم في أعقاب دحرهم من القرى التي ارتكبوا المجازر فيها.
لعبة “البازل” المأساوية والمملة نفسها منذ أكثر من 7 سنوات. واللعبة صارت مكشوفة إلى حدٍ لا يعوزها أكثر من دقائق قليلة حتى يتم تفسيرها وشرح تفاصيلها. السويداء المحافظة الموالية للنظام، لكنها المحافظة التي أنشأت فيدراليتها الأمنية المستقلة بشروط تلتقي أحيانا مع النظام إلا أنها تفترق عنه في أحيان أخرى. مشيخة عقل الدروز التي أنشأت ميليشياتها وآوت فيها المتهربين من الخدمة العسكرية، حان الوقت لتأديبها. “داعش” في البادية القريبة، وشروط الاحتقان تأمنت عبر اللعب بالعلاقات الأهلية. فقبل أسابيع قليلة جرى “تعفيش” درعا بعد أن دخلها النظام، وتحولت السويداء إلى سوق لبيع مسروقات الدرعاويين. جرى ذلك برعاية كاملة من النظام الذي كانت وحداته تتقدم في درعا ومحافظتها.
وشروط المجزرة جرى التأسيس لها على نحو محكم. البادية كانت قبل ذلك “سوقاً حرة” تتبادل فيها “داعش” مع شرائح موالية الاتجار بالمازوت السوري، وتشكلت فيها عصابات الحرب وغنائمها. البادية بيئة نموذجية لتأليف المجزرة. لا أحد يجيد هذه اللعبة على نحو ما يجيدها النظام. الباصات الخضر التي كنا ظننا أنها نقلت مقاتلي “داعش” إلى مكان أبعد، أودعتهم على تخوم احتقان أهلي يجيد الوعي الشيطاني للنظام الاستثمار بمستقبله.
نحن هنا أمام قصة قتل معلن. لا شيء لدى النظام ليخفيه. قال رامي مخلوف ذات يوم أن على اسرائيل أن تخاف من تصدع النظام. وهو كان صادقا بما قاله. قالت أجهزة المخابرات ذات يوم أيضا أن لديها في السجون ما يمكن أن يجهض أقوى ثورة في العالم، وصح قولها. الإسلامويون مرض هذا العالم. ثروة الديكتاتور التي لا تقدر بثمن. لكن الأهم أنهم إرثنا الذي نخاف أن نعالجه أو أن نتجاوزه. النظام يدرك ذلك، ويدرك أن الإسلام هذا هو شيطانه الذي يقيم في وجداناتنا.
النظام الذي فتح أبواب البادية أمام “داعش” لتغزو محافظة “غير عدوة”، كان سبق له أن فتح أبواب منازل أهل درعا أمام معفشيها الذين نقلوا المسروقات إلى السويداء. وهو نفسه النظام الذي أجرى صفقة من فوق الطاولة مع الإسرائيليين الذين سمحوا له بموجبها باستعادة درعا، وما لبث أن اتهم عناصر القبعات البيض بالعمالة لإسرائيل لأن الأمم المتحدة نقلتهم عبرها إلى الأردن. لا أسرار في كل هذا. الوقائع كانت تجري تحت أعين الجميع. وفي الوقت الذي كانت فيه الصفقة تتحقق كان وفد من منظمة التحرير الفلسطينية يزور دمشق، وكانت حركة حماس تضاعف تنسيقها مع طهران، وكان سوريون يحاولون التخفيف من تبعات “فعلة” عناصر القبعات البيض.
المجزرة في السويداء هي الأفق الذي ينتظر السوريين طالما أن العالم عاد وقبل بديكتاتورهم. فها هو النظام يفصح كل يوم عن قتيل جديد في سجونه مدركا بأن العالم لم يعد يثيره خبر عن قتيل هنا ومئتي قتيل هناك. والنظام اذ يُقدم على ذلك، يسعى أيضا للقول إن هذه هي شروطه لمستقبل سوريا. العنف مضاعف وصريح وأكثر “فعالية” من عنف المراحل التي سبقت الاحتجاجات. العالم لن يصدق حكايته عن “داعش” لكنه سيقبلها. هذه لعبة سبق أن اختبرها النظام مع السوريين. لعبة الأقنعة التي تكشف عن الوجه بدل أن تخفيه. تلك الصورة لطفل في مدرسته يرفع صورة “الرئيس الأب” مع ابتسامة سخرية، فيما مدرسه ينظر إليه بعين الرضا، اذ أن الأهم هو أن يرفع الطفل الصورة، حتى لو لم يكن مؤمنا بصاحبها. هذه المعادلة تصح اليوم على حال النظام مع العالم. لا أحد مؤمنا بأن “داعش” يعمل بمعزل عن شروط النظام، لكن هذا ليس مهما طالما أن الجميع قبل هذه المسرحية الدموية.
“داعش” أيقونة أخرى لا يمكن المساس بحقيقتها. “داعش” في الجرود في لبنان، وعلى تخوم البادية في سورية، وقريبة من مواقع المحتجين العراقيين على إداء حكومتهم في مدن الجنوب، و”داعش” ظهرت مؤخرا في أربيل وفجرت مركز محافظتها تزامنا مع مخاوف الحكومة المحلية من انتقال تظاهرات الجنوب إلى المدن الكردية. كل هذا يجري اليوم بعد أن أعلن الجميع نصرهم على التنظيم.
الأرجح أن الجميع نادم على مسارعته في إعلان النصر، ذاك أن وقائع كثيرة ما زال يعوزها بقاء هذا الوهم على قيد الحياة.