لا شك أن للثورة السورية جذرًا نبيلًا وشرعية لا يمكن لمنصف إنكارها، وليس هذا الإطلاق مفتقرًا إلى حجته مهما تراكم على متنها الأساسي من غبار يحجب وضوح عباراتها، وتماسك نصوصها.
فالبنية الاستبدادية لنظام الأسد وتسلط أجهزته الأمنية المنتشرة أدواتها كالفطر في كل مفصل من مفاصل حياة السوريين كفيلتان لوحدهما بجعل الثورة حقًا طبيعيًا للثائرين.
ولكن ما يحز في قلب كل ثائر أن ما خرج لأجله قد انحرف بفعل قصدية لفاعلين اجتماعيين متفاعلة تفاعلًا جدليًا مع بنية إلى حرب أهلية، وهو ما ينبغي علينا أن نكاشف أنفسنا به لكي نعيد للثورة نقاءها.
وهذا التفاعل الجدلي الذي أشرنا إليه ضروري احترازًا من التفسير البنيوي للعنف والذي يغفل قصدية الفاعلين.
يعجز التفسير المعتمد على البنية عن الإجابة عن كثير من الأسئلة. ويبرز دور الفاعل في حالات عديدة، ولكنّ أكثر حالاته بروزًا هي استثمار السرديات الكبرى الموجودة في المجتمع -بما تنطوي عليه من جذر أيديولوجي-؛ من أجل تحويل الإمكانية البنيوية للعنف -التي قد تكون مظلمة تاريخية، أو مرحلة انتقالية إلى شكل جديد للحكم، أو فشلًا سياسيًا، أو ركودًا اقتصاديًا- إلى واقع.
ومن الجدير بالملاحظة أن أثر الفاعل يعتمد على مكانته في السلم الاجتماعي، وعلى السياق التاريخي والمكاني الذي يفعل ضمنه، وهو ما يؤكد ما ذكرناه من تفاعل جدلي بين الفعل والبنية.
فالفاعل الذي لا يمتلك قدرات تنظيمية وبلاغية وغيرها لن يكون قادرًا على نقل الممكن البنيوي إلى واقع، وكذلك يمكن ألا تسمح له هويته، في سياق ما، أن يحدث هذا الأثر؛ فلرجل الدين أثر أكثر من غيره في ظروف استقطاب طائفي مثلًا.
كما أن قدرة الفاعل على صوغ خطاب قادر على الانسجام مع الحقل التداولي المشترك هو أمر بالغ الأهمية في تحديد مدى أثر هذا الفاعل؛ ففي سياق الحدث السوري-مثلًا- استطاع الفاعل المتطرف أن يكون ذا أثر أكبر من الديمقراطي العلماني؛ لأن خطاب الأخير خطاب مستورد ومحدد بمحددات وشروط سياق مغاير؛ الأمر الذي أحال محتواه إلى محتوى هجين يمتزج فيه محتوى البيئة المستوردة مع محتوى المصدر، ولهذا لم يجد منفذاً للتعبير عن هجنته، ومسخه إلا في الأيديولوجيا التي تتيح التوافق التلفيقي، وليس الربط العضوي بين الخطاب المستورد من جهة، والبيئة المستورِدة من جهة أخرى.
أما التنظيمات المتطرفة، فعلى الرغم من رفض قطاعات كبيرة من الشعب لما تقدمه، إلا أنها استطاعت تقديم منتج سياسي هو بدوره أيديولوجيا، بيد أنه قادر على التحقق النسبي في شكل الخلافة الإسلامية، وعلى الانسجام مع الحقل التداولي المشترك من دون عوائق، مستفيدًا في الوقت نفسه من مؤازرة السياق الذي يلعب فيه التوتر الطائفي الدور الأبرز.
وليس صحيحًا عدّ العنف المرافق للحروب فعلًا للنخب القادرة على تجسيد الممكن البنيوي؛ فللناس العاديين دور لا يمكن إغفاله في هذه الظاهرة؛ لأنهم مشاركون لا يتحركون بوحي خطاب النخب فحسب، وبشكل خطي تتبع فيه النتيجة السبب بالضرورة، وإنما هم فاعلون لهم فعلهم الأصيل في العنف السياسي، والذي من دونه يصبح أي تفسير للحرب غير كاف، وهم إنما يتحركون بدوافعهم الشخصية، وبإيحاء من هوياتهم التي تأخذ أشكالًا متعددة، لا تختزل في زمن الحرب بهوية واحدة.
وبمجرد ما يدخل الناس دوامة العنف السياسي يضاف إلى محموله هذا (السياسي) محمول آخر هو العنف الخاص المدفوع بدوافع خاصة، وهو ما يجب أخذه في الحسبان مع الأسباب الأساسية المتعلقة بالسرديات الكبرى، والظروف الموضوعية المسببة للعنف.
السرديات الكبرى المستخدمة والتي ينتج عنها التصنيف المرتبط ببعد تقويمي للآخر، وعقد التحالفات مع قوى خارجية، وظهور العصابات كلها سمات للحرب الأهلية حسب ما تقرر أنضج الأبحاث المختصة بظاهرة هذه الحرب.
إن تصنيف الأفراد بحسب انتمائهم إلى الجماعات يمثل شرطًا ضروريًا، وغير كاف للتعصب، ولكنه يتحوَّل إلى تعصُّب إذا ارتبط ببعد تقويميّ لهذه الجماعة يقع على أحد قطبيه الأقصيين قيمة الخير بكلّ ما يندرج تحتها من صفات، وعلى القطب الآخر القيمة المضادَّة المتمثلة في قيمة الشّر، وما يندرج تحتها من صفات.
إن إحدى الظواهر التي لا نكلف أنفسنا مؤونة كبيرة في ملاحظتها في المأساة السورية هي ظاهرة التصنيف المقترن ببعد تقويمي، فقد ساهم تصدر الفاعل السلفي للمشهد في تغليب هذه الظاهرة، التي لا يمكن للثورة أن تحافظ على نبلها بوجودها؛ فهذا الفاعل لا يكتفي بالتصنيف، ولكنَّه يفرز بشكل قاطع الـ “نحن” عن الـ “هم” متَّخذًا من القطب الأوَّل موقعًا للمنتمين إلى الطَّائفة السُّنيَّة، ومن القطب المقابل من لا ينتمون إليها، وفي مقدّمتهم من يطلق عليهم في هذا الفاعل اسم “النّصيريّة”.
وإذا كان النظام وحلفاؤه الطائفيون لا يتورعون عن إظهار عنصريتهم القبيحة، لأن الإناء بما فيه ينضح، فإن ضعف التيار الديمقراطي العلماني، هو أحد العوامل التي ساعدت في ترك الباب مشرعًا للمحكومين بقيم ميتافيزيقية وأحقاد طائفية لكي يسرقوا الضوء والمشهد.
كما ساهمت جرائم النظام في ثمانينيات القرن الماضي في فتح جرح لم يندمل، وهو ما أضاف إلى شعور الازدراء شعور الحقد، وهو حقد لا يعدم مبرراته.
كما أن الركون إلى الحلفاء، وإن كان فعلًا اضطراريًا، فإنه سمة من سمات الحرب الأهلية؛ ولأجل هذا فإن الاضطرار إليه يجب أن يكون بقصدية الثائر التي تبادر على أساس علمي بدالّة ما يتوخى الوصول إليه في ثورته، لا أن يكون تحالفًا منزوع الصلة بالأهداف البعيدة للثورة، ومقصودًا لإضعاف الخصم فحسب.
إن محاولة معرفة ديناميات الحرب الأهلية، وما تتسم به من خصائص مستخلصة باستقراء حالاتها يمكن أن يساعدنا في تجديد خطابنا، وجعله أكثر قدرة على توجيه مسار الثورة وجهة لا تذهب بها بعيدًا عن أهدافها، وفي المحافظة على جذوتها التي لا شك أنها تأبى أن تنطفئ، لأنها جذوة حق إنساني لا يمكن أن يزهقه باطل نظام استبدادي مسرف في غيّه، وضلاله، وإصراره على سلب المستحقين حقوقهم في العيش بحرية وكرامة، وفي بناء دولتهم المدنية الديمقراطية التعددية.
رئيس التحرير