رئيس التحرير
إذا أنعمت النظر في حدث استشهاد عبد الباسط الساروت وما تبعه من تعليقات نظمها محوران متوازيان يمكن لك أن تستشف استقطابًا ملفتًا ينزع لقوته كلّ ما شاب حدث الثورة السورية العظيم من التباس، وما تنازع مقاربتها من تحليلات ورؤى متضاربة لا تعدم أسبابها.
ففي أحد المحورين تجد شبه إجماع على رثاء الشهيد يكاد يوحد السوريين المعارضين على اختلاف مشاربهم، وحزنُا عميقًا على رحيله تنضح به الكلمات والمقالات والتعليقات.
وفي المحور الآخر الشامت بما يسميه مقتل الساروت تجد خطابًا مضطربًا يحاول أن يخفي قلق عبارته بالحديث عن طائفية الساروت، وعن مبايعته لداعش في مسعى بائس لبخس قدره وتصنيفه في صنف رموز التطرف والتسلف.
استشهاد الساروت الذي أعاد الاستقطاب إلى بدايته التي كان عليها عندما انطلقت ثورة السوريين يمثل منعطفًا جديدًا في الصراع مع نظام الاستبداد.
فعلى الرغم من أن الساروت لم يكن بلا نظير، إلا أن اصطفاف السوريين من معارضة النظام من جديد بإجماع يكاد يكون مطلقًا حول رمزيته ورمزية استشهاده قد قسر الطرف الآخر على اصطفاف مقابل لا يستطيع أن يخفي هشاشته ولا يلبث كلما رفع عقيرته لإظهار تماسكه أن يفصح عن خوفه وقلقه.
وهو خوف من الصوت الصادح بالحرية والكرامة الذي استرجعه ثبات الساروت على ثوريته النقية، هذا الصوت الذي ظن النظام وحلفاؤه ان أصوات الرصاص قد غيبته، وجعلته مجرد ذكرى تتوارى خلف الأيديولوجيات والنوازع البدائية وعوامل الثأر.
وفي النبش في تقلبات الساروت الذي يتبارى أنصار النظام في الاشتغال عليه ملمح للقلق البالغ الذي يعصف بهم، وما ذلك إلا لأن اختزال مسيرة الساروت في محطة واحدة فرضتها بساطته واستدعاها خذلان العالم كله للسوريين تأكيد على إصرار على مغالبة صوت الصدق الذي لا يكاد كذب النظام يضطرب عليه إلا ارتد زاهقًا.
الشماعة التي يعلق عليها كلّ هذا التزييف، وهو ما يقال عن مبايعة الساروت لداعش لا تستطيع أن تحجب جوهره الثوريّ، ولا تصلح لمحاكمة مسيرته محاكمة موضوعية، ولا يمكن لها أن تحجب ما يشبه الإجماع بين علمانيين وإسلاميين ويساريين ويمينيين على أثره العظيم في وجدان السوريين.
وإذا كان الوجدان الجمعي لمعارضة النظام قد أفصح عن حبه للساروت وحزنه على رحيله، فإن هذا الوجدان يؤكد أن للسوريين حقًا يتلمسون جذوته من رمز مفرط في بساطته، مبهر في شجاعته، مغفور له ما زلت به قدمه.
وليس هذا التسامح مفتقرًا إلى ما يسنده، فهو أولًا تسامح مع رمز لا تعكر نقاء مسيرته محطة واحدة؛ لأنها مسيرة عبرت عن نفسها في اللحظة الأولى بحنجرة تطلق أناشيد مستولدة من جوف الألم، ومن عمق الذات الباحثة عن الحرية والكرامة، ونأت بصاحبها عن أي منفعة شخصية، وجافت بينه وبين الاسترخاء على الفرش الوثيرة، وعزلته -لوضوح الهدف- عن أي استقطاب أيديولوجي وسياسي، وتعالت به على أي أجندة خارجية.
وهي مسيرة توجت باستشهاد في ساحات الصراع مع العدو الأساسي لم تفتّ في عضدها السنوات العجاف، ولم تكسر عزيمة صاحبها الفواجع ومنعرجات الطريق الوعر.
هو عبد الباسط الذي بسط صراط الحق من جديد أمام ثورة السوريين لكي يبصر من بقي لديه قبس منها الطريق الواضح، ولكي يقول إن لثورة السوريين رموزها مهما لوّثها المال السياسي، وعبثت بها الأجندات ومصالح الفرقاء.
وما البحث عما يهز أثر الساروت في عقل ووجدان كل هذه الجموع إلا جهد خالي الوفاض الذي عاد مطلب الحرية والكرامة يصفع جبينه، ويقضّ مضجعه، ويذكّره أن مرفأ وصول ثورة السوريين إلى نهايتها المؤزرة أكثر من قريب.