ميشيل كيلو
ليس المأزق الإيراني الراهن وليد سياسات أميركية أو روسية. إنه الابن الشرعي لسياسات الملالي التي مرت في مراحل ثلاث، بدأت الأولى بإقامة نظام مذهبي، تبنى مشروعا استراتيجيا حكم علاقاته مع العرب، قام على تجديد صراعات عصرٍ كنا نعتقد أننا تجاوزناه منذ وقت طويل جدا، وأن مشكلاته لا تنتمي، ولا يمكن أن تنتمي إلى حاضرنا، وأن من ثاروا في إيران أرادوا نصرة الإسلام، ومن غير المعقول أن يخططوا لاستئناف معركتي الجمل وصفين بأسلحة طائفية معادية للعرب ودينهم. ومع أنهم ركزوا على إحياء العالم الإسلامي، فإنه تبين أن هدفهم الحقيقي كان استغلال هذا الشعار لاستغفال المسلمين، وتصدير ثورتهم عبر أفعال توسعية تخترق مجتمعات العرب وبلدانهم، بوضع يدهم على القضايا العربية الرئيسة، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وفصل الفئات التي تشاركهم العقيدة عن مجتمعها وطنيا وروحيا، لإعادة تنظيمها طائفيا، وشحنها بوعي هوياتي، يقرّر مواقفها وولاءاتها، بالتزامن مع تطييفها، وتمويلها، وعسكرتها وتحويلها إلى جماعات مسلحة تحتل بلدانها من الداخل، كفصائل من حرس طهران الثوري وجيشها، تعمل بإمرة قادته وملاليه، وتنفذ خططهم، وصولا إلى المرحلة الثالثة، أي الراهنة التي تجسد استيلاءها المزدوج، الداخلي والخارجي، على المشرق العربي، وصولا قبل قرابة عامين إلى اليمن، وتحول بلدانه إلى مستعمراتٍ يبدل وجودها العسكري فيها واقعها التاريخي وهويتها القومية، ويدخلها في حقبة تغيير بنيوي، يطاول كيانها المجتمعي، وطابع دولها وهوية شعوبها، فلا عجب إن اعتقد قادة طهران أنهم أقاموا فيها أوضاعا نهائية، لا يمكن إعادتها إلى ما كانت عليه من قبل.
هذا المسار “الانتصاري” هو الذي أوقع إيران في أزمة معقدة تتحدّى قدرتها على الإمساك بمستعمراتها، ليس فقط لأن شعوبها لن ترضخ لها، وإنما كذلك لأن قوة جيشها واقتصادها لا تتيح لها الاحتفاظ بها، في ظل احتدام الصراع على المنطقة بين الكبار، وعجزها عن الانخراط الجدّي فيه، لردعهم أو إبعادهم عن موقعها الاستراتيجي وسط القارات الذي يعتبر مهما
“المسار “الانتصاري” أوقع إيران في أزمة معقدة تتحدّى قدرتها على الإمساك بمستعمراتها” لانتشارها العالمي، ويستحيل أن تتركه روسيا وأميركا لاستعمارٍ من الدرجة الثانية كالاستعمار الإيراني، لا سيما وأنهما لن تسمحا له بالتمدّد إلى، أو بالبقاء في، مناطق حيوية بالنسبة لهما، أو بالعمل خارج الهوامش التي تتيحها له صراعاتهما وخلافاتهما، وإنه أضعف من أن يخوض مواجهات مباشرة، وغير كلامية، مع أي منهما، لأن خوضها قد يُخرجه من مستعمراته، وخصوصاً منها سورية، حيث لا تمتلك الفئة الموالية له وزنا مجتمعيا فاعلا، وتتعرّض سلطتها الطائفية التي استقدمته إلى بلادها، لتحدٍّ شعبي/ ثوري واسع، لن تنجح في التغلب عليه، بينما يستحيل أن يبقى لإيران حضورها ونفوذها الحالي الشامل، في حال جرى حل سياسي للصراع الدائر فيها، كما يستحيل أيضا أن يستمر نظام الأسد الراهن الذي صار انتقاليا مذ يوم الثورة الأول، ناهيك عمّا يواجهه الاستعمار الإيراني من مزاحمة روسية تحجمه يوميا، ولا قبل لها بها.
روسيا وإيران
على الرغم من مظاهر التنسيق بين البلدين، لن تستطيع روسيا الإبقاء على الحجم الراهن من حضور إيران في سورية، بينما تعمل للتوطن فيها ولتحويلها إلى قاعدةٍ ستقفز منها إلى البلدان المجاورة، تنفيذا لبرنامج طموح يستهدف استعادة مكانتها في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، قال قادتها إن تطبيقه هو جوهر سياساتهم الدولية، وإنه لا يجوز أن تنافسهم أية قوة أخرى على بؤرتها المركزية: سورية، بما أن محدودية سيطرتهم عليها تعني محدودية نجاح عودتهم الاستراتيجية إلى العالم، وبقاءهم محاصرين في حين تتهاوى أوضاعهم من دون أن يتمكّنوا من فعل أي شيء لانهيارها.
لا تستطيع روسيا قبول الغلبة الإيرانية الراهنة في سورية. ولا تستطيع تقاسم سورية مع طهران، لأنها تمكنها بذلك من منافستها عليها، ولأن السوريين لن يقبلوا وجود إيران في بلادهم، بينما لا يستبعد أن يقبلوا علاقات خاصة مع روسيا، إذا كانت ستسهم في حمايتهم من القوى الأخرى، بما في ذلك إيران. أخيرا، لا تستطيع روسيا التخلي عن وضع يمكّن إيران من الانفراد بسورية، مثلما هو حالها اليوم، فالسياسة ليست ميدانا للبر والإحسان، ودخول موسكو إلى سورية كان بين أهدافه إزاحة طهران عن مواقعها فيها، وليس تثبت وجودها داخلها وسيطرتها عليها. ولا مجال لانفراد موسكو بسورية، إذا ما بقي حضور إيران فيها على قوته الراهنة، ولا يعقل أن تواصل موسكو معركتها ضد الشعب السوري من أجل أن تحافظ على استعماره إيرانيا، أو أن تهزم الثورة لتجد أن الرابح كان إيران والأسد.
إذا كان وجود النمط الراهن للاستعمار الإيراني في سورية مستحيلا، وكانت هذه حسابات روسيا، هل يمكن لموسكو التعاون مع طهران لمواجهة سياسات واشنطن الجديدة التي تشهد تصعيدا يوميا، وقد تنفجر في أية لحظة؟ يتوقف السلوك الروسي على رغبة الكرملين في التصدي للبيت الأبيض، وتحمل أعباء ستثقل كاهله أكثر مما أثقلته العقوبات الاقتصادية بعد مشكلة أوكرانيا؟ هل لموسكو مصلحة حقيقية في دعم طهران إلى حد يورّطها في معركة كسر عظم مع واشنطن، مع ما سيترتب عليها من نتائج داخلية سلبية؟ أم أن موسكو ستنخرط في معركةٍ تريدها محدودةً ومؤقتة، تزيد من ضغوطها على البيت الأبيض، وتجبره على تسوية المشكلة الأوكرانية؟ الأرجح أنها لن تفعل ذلك، لأنها لا تضمن ردود أفعال أميركا التي أبقت أبواب الحوار حول قضايا الخلاف مع الكرملين مفتوحة، وليس من المعقول أن يزج بوتين بنفسه في صراعٍ مكلف، لا مصلحة له فيه ولا لزوم له.
أخيراً، ليس من المعقول أن تنحاز موسكو إلى الطرف الخاسر في صراعٍ تقتضي مصلحتها العمل للإفادة من نتائجه. وبالتالي من خسارة إيران التي يمكن أن تفتح أبواب تعاونها مع واشنطن على إدارة مشتركة لمنطقة لعب الملالي دورا خطيرا في تأجيج صراعاتها، وزرعوها بعناصر تفجيرية متنوعة، تصعد انعكاساتها على العالم إرهاب كان لها يد طولى في نشوئه وتحوله إلى خطر دولي شامل، لا يقبل أي طرف في العالم والمنطقة استمرارها في إنتاج الأجواء المنجبة له والداعمة لتناميه، سواء في أشكاله الفئوية/ الاحتلالية داخل لبنان وسورية والعراق واليمن، أو تنظيماته المذهبية الأخرى التي يرجح أن ينخرط حلفاء روسيا الحاليون، وفي مقدمتهم إسرائيل، في الحرب ضدهما، إذا لم يوجد حل دولي يقطع علاقات إيران معهما. في هذه الحالة، لماذا تغامر روسيا بحماية “الإرهاب الشيعي”، وبتهديد تحالفها الحالي مع تل أبيب الذي ضمن انفرادها الجوي بسورية، وما بعدها، إلى مسافاتٍ بعيدة، وأتاح لها إقامة ميزان قوى متفوق حدّد مسبقا نتائج معركتها من أجل توطيد موقعها داخل سورية، ضد جميع الآخرين، وخصوصاً منهم إيران؟
أميركا وإيران
لم تتأخر إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن فتح أبواب الصراع الذي وعدت به ضد طهران، وتم، في الأيام القليلة الماضية، تصعيد أميركي ميداني عبر إرسال سفينة حربية إلى باب المندب، وإجراء مناورات بحرية وجوية مكثفة في الخليج العربي وبحر العرب، رافقه تصعيد كلامي متسارع، حتى أنه لم يعد لدى متابعيه غير سؤال واحد: متى يقع الصدام الأميركي/ الإيراني المسلح الأول الذي تعاظم توقعه في الآونة الأخيرة، وسط أحاديث أميركية عن ضرورة إخراج إيران من البلدان العربية، وإلغاء الاتفاق النووي معها، وتشديد العقوبات عليها، واستنزافها ماليا عبر إجبارها على مزيدٍ من العسكرة والتسلح، وإهمال التنمية البشرية وكل ما يتصل بها من تقدم المجتمعات؟
ثمّة مؤشرات تدل على الاتجاه المحتمل لصراعٍ يبدو حتميا، أهمها إعلان واشنطن تنظيم الحوثي منظمة إرهابية تابعة لايران، وإيران البلد الأكثر دعما للإرهاب في العالم، والذي تجب معاملته باعتباره محكوما بنظام غير شرعي، الإرهاب أحد منتجاته. لذلك، من الخطأ الإبقاء عليه نظاماً غير شرعي، منجباً للإرهاب، ولا بد من القضاء عليه قبل التفرّغ لمنتجه. إذا ما أضفنا إلى ذلك أن لإيران وضعا خاصا يختلف عن أوضاع الدول الأخرى جميعها، يجسّده وجودها طرفاً سيادياً في البلدان العربية التي تسيطر مليشياته عليها، حيث يصعب، ويستحيل، اعتبارها جهة خارجية، بل هي كيان غدا داخليا من خلال اندماجه بالمليشيات التابعة لها، بدلالة ما يقوله الملالي وعسكرهم حول امتداد حدوده دولتهم إلى البحر الأبيض المتوسط في لبنان والأحمر في اليمن، وعن سورية باعتبارها محافظتها الخامسة والثلاثين، انتهى وجودها دولة مستقلة وكياناً وطنياً خاصاً بشعبه. يعني هذا بالنسبة لأية معركة محتملة بين واشنطن وطهران أن الأولى لن تحتاج إلى مهاجمة المركز الإيراني، لأنها تستطيع قضمه بدءاً من أطرافه واسعة الانتشار وضعيفة الحماية التي يحول الهجوم عليها بين إيران واستخدام ترسانتها العسكرية المباشرة لدعم وجودها المليشياوي في اليمن قبل كل شيء، حيث يمكن تقديم دعم فوري وقوي للكتلة اليمنية الوطنية الكبيرة التي تقاتل ضد إيران، وتأييد للتحالف العربي الذي يقلب موازين القوى لصالح الدولة اليمنية الحرة والمستقلة، واستنزاف جزء كبير من قدرات الحوثيين وصالح، ولا تستطيع إيران مجاراة أميركا في الانخراط المباشر في اليمن، في حال دعمته واشنطن، ولو بجزء من قدراتها العسكرية المتفوقة والحاسمة.
بسبب التماهي بين إيران ومليشياتها، وحقيقة أن الأخيرة جزء من مؤسستها العسكرية ينشط خارجها لصالحها، مهمته توطينها في بلدانه التي يتعامل معها وكأنها صارت جزءا تكوينيا من دولة الملالي، لا تحتاج واشنطن إلى مهاجمة إيران بصورة مباشرة، كما سبق القول، وإنما تستطيع جرّها إلى معركة غير متكافئة في أطراف كيانها العربية، المعادية لها باعتبارها قوة أجنبية تستعمرها، وتستطيع قضم وجودها ونفوذها بأقل تكلفة عسكرية، وصولا إلى إخراجها منها، وكأنها تخرج سلطتها من دولتها الخاصة الإيرانية. ستكون هذه المعركة غير متكافئة بالمطلق، وستنزل فيها هزيمة مؤكدة وقاتلة بمتبجحي طهران ومليشياتهم التي لن تتمكّن من القيام برد عسكري، يعتد به دفاعا عن دولة الملالي، خارج ربما العراق الذي سيأتي دوره في مراحل تالية، على الرغم من أن تأخر معركته لن يحدّ من قدرة واشنطن والتحالف العربي على استنزاف إيران إلى حدٍّ يبدو معه كأن الحرب تخاض ضدها مباشرة وعلى أراضيها. بإعلان الحوثيين تنظيما إرهابيا، وإيران داعما أكبر للإرهاب في العالم، يمكننا القول إن هذه الحرب ضدهما، بدءا من اليمن، قد تبدأ في أية لحظة، لأنها لا تتطلب موارد وقوى أميركية كبيرة.
سيصاب كل من يتابع التصعيد الأميركي الإيراني بالدهشة من ردود أفعال ملالي إيران وعسكرها الذين يرون الحرب ضد الدولة الأقوى عالميا بمنظار داخلي، و”يبعبعون” لطمأنة أنفسهم وردع الإيرانيين وتخويفهم، مع أن هؤلاء يعرفون أن جيشهم قوي عليهم وضعيف في مواجهة الأعداء، وأن اختراقاته المليشياوية لن تسدّ نواقصه الخطيرة، أو تصمد في حرب يرجح أن تكون شاملة بمعنى من المعاني، لكونها لن تقتصر على أميركا ودول عربية كثيرة، بل ستشارك فيها أيضا شعوب بلدانها التي تتعرّض لحرب إبادة يشنها مرتزقتها عليها، فضلا عن إسرائيل التي تنتظر فرصة كهذه لتصفية حساباتها معها.
هل تبادر إيران إلى التعهد بتفكيك وجودها في لبنان وسورية والعراق واليمن، أم تواصل احتلال هذه البلدان، وترتكب خطأ قاتلا بالتعامل معها وكأنها بالفعل جزء منها، فتحل بها هزيمة، لا بقاء لنظامها بعدها؟
العربي الجديد