تقول الأسطورة الشيعية إن رجلًا يدعى “شمرًا” يذرع الصحراء جيئة وذهابًا في بحث يائس عن شربة ماء، وكلما أشفق عليه سيارة عابرون تبخر الماء الذين يحملونه؛ لكي تكتمل مأساة “شمر” الذي لا يقضى عليه فيموت، ولا يخفّف عنه العذاب.
شمر هذا هو “شمر بن جوشن” الذي أجهز على “الحسين بن علي” وقتله في المعركة التي تمرد فيها الحسين على بني أمية مغتصبي حقه في الخلافة كما يقول.
ليس المخيال الشعبي الشيعي الذي نسج أسطورة شمر اللعين هذا إلا تجليًا من تجليات رؤية عقدية مغلقة تحتكر الحقيقة، وتعدها مقتنىً من مقتنياتها، والحال أن شمرًا لم يصدر فيما فعله عن دافع إجرامي، وإنما عن دليل أفصح هو عنه فيما ينقله “الذهبي” الذي يذكر أن شمرًا شوهد مرة وهو يقول: إن قتله للحسين كان اتباعًا لحديث نبوي يأمر بقتل من يخرج على الأمة إذا كان أمرها مجتمعًا كائنًا من كان.
وليس غريبًا أن يقدح النص المقدس فهومًا مختلفة لدى المؤمنين به، وأن يستثمر لاحقًا استثمارًا يخدم رؤى المذاهب المتخاصمة.
لكن أن تلتبس الرؤية على معاصرين لحدث لا يحتمل التأويلات، وأن يبحثوا في تفاصيله عن مسوغات للجريمة، فإن مصير الشقاء سيكون حتمًا لازمًا مصيرهم الذي لا يحتاج إلى صانعي الأسطورة لنسج حبكته.
لا شك أن الحدث السوري قد دخل في منعطفات خطيرة، وأنه قد شابه من الأدران الكثير مما يلطّخ نقاءه، وأن الأفعال التي نتجت عن بنية مجتمعية أمعن نظام الاستبداد في تصديعها أفعال قد تجعل المراقب التجزيئي في نظرته يكفر بالجذر الثوريّ لهذا الحدث.
ولكن النصّ الذي يمثله هذا الحدث ليس نصًّا منفتحًا على تأويلات تضع طرفي الحدث في موضع المتكافئين اللذين يملك كل منهما وجهة نظر كفيلة بالاحترام.
فقبل أن يثور السوريون على نظام الاستبداد كانت زنازين النظام قد شهدت فقء الأعين، والتعذيب حتى الموت، وأطفالًا يستهلون صرخة الحياة في الأقبية الموبوءة بفعل عمليات اغتصاب.
وقبل أن يصدح السوريون بهتاف الحرية كان أبناؤهم قد ساحوا في الأرض بحثًا عن لقمة عيش لا يجدونها في وطنهم؛ لأن النظام الاشتراكي كان منشغلًا بالقضية المركزية قضية فلسطين التي هادن محتليها عشرات السنين، وباحتلال لبنان وإذلال أبنائه، وبمركزة الثروة في يد زبانيته؛ لأن هذه هي الوسائل الكفيلة بتطبيق الاشتراكية، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
وبعد أن ملؤوا الساحات مطالبين بالحرية والكرامة اخترق أجسادهم الرصاص، وقتلوا خنقًا بالسلاح الكيماوي.
لهذا النص معنى واحد لا يقبل التفسيرات، وما الهوامش التي أضيفت إليه بفعل الصدام بقادرة على فتحه على تأويلات تقبل الأخذ والرد، ويتخذ بموجبها كل طرف موقع المناظر النديّ لخصمه.
التذرع بما يمكن أن يحدثه تصدر الإسلاميين للمشهد من عواقب ليس إلا هروبًا جبانًا من إلزامات يفرضها نصّ لا يحتمل إلا معنى واحدًا هو حق السوريين في إسقاط نظام مجرم حرمهم حريتهم وامتهن كرامتهم وسرق ثروة بلادهم ودفع بها قرونًا إلى الوراء.
ولهذا فإن العائدين إلى حضن الوطن سيلتقون مع شمر اللعين في صحرائه اللامتناهية، وسيحكم عليهم بالشقاء الأبدي، ولكنهم لن يملكوا مثله تأويلًا يساعد في تبرير جريمتهم كما يملك هو.
صحراء شمر المجدبة سوف لن تكون بمرتبة واحدة، وستكونون أيها العائدون إلى حضن الوطن في دركها الأسفل فهذا هو الموقع الذي تستحقونه، وإن غدًا لناظره قريب.
رئيس التحرير