(برلين) – قالت “هيومن رايتس ووتش” اليوم إن بدء محاكمة تاريخية في ألمانيا لشخصين، يُزعم أنهما مسؤولان سابقان في المخابرات السورية، بتهم تتعلق بجرائم ضد الإنسانية، يمثّل فرصة مهمة لتحقيق العدالة للضحايا. سيبدأ القضاة في مدينة كوبلنز سماع الأدلة في 23 أبريل/نيسان 2020 في المحاكمة الأولى حول التعذيب الذي ارتكبه أعوان الدولة خلال النزاع المسلح الوحشي المستمر منذ نحو عقد من الزمن في سوريا.
قالت بلقيس جراح، مستشارة في برنامج العدالة الدولية في هيومن رايتس ووتش: “هذه المحاكمة هي لحظة فاصلة بالنسبة إلى الضحايا المصممين على تحقيق العدالة عن الجرائم التي ارتُكبَت بحقهم في سوريا. ينبغي أن تكون إجراءات اليوم بمثابة تذكير مهم بالحاجة إلى القيام بالمزيد لضمان المساءلة عن الفظائع المروعة للصراع”.
المتهمان في القضية هما أنور ر. وإياد غ. ويُزعم أنهما ضابط مخابرات سابق وآخر أدنى منه رتبة في “إدارة المخابرات العامة” السورية، إحدى وكالات المخابرات الرئيسية الأربعة في البلاد والتي يشار إليها بشكل جماعي باسم “المخابرات”. حجب المسؤولون الألمان الأسماء الكاملة للمتهمين تماشيا مع قوانين الخصوصية الوطنية. يُمكن محاكمتهما في ألمانيا لأن قوانين البلاد تعترف بالولاية القضائية العالمية على بعض الجرائم الأكثر خطورة بموجب القانون الدولي، مما يسمح بالتحقيق في هذه الجرائم وملاحقتها قضائيا بغض النظر عن مكان ارتكابها وعن جنسية المشتبه فيهم أو الضحايا.
قالت هيومن رايتس ووتش إن قضايا الولاية القضائية العالمية جزء متزايد الأهمية من الجهود الدولية الرامية إلى محاسبة المسؤولين عن الفظائع، وتوفير العدالة للضحايا الذين ليس لديهم مكان آخر يلجؤون إليه، وردع الجرائم المستقبلية، والمساعدة في ضمان عدم تحوّل البلدان إلى ملاذات آمنة لمنتهكي الحقوق.
أعتُقِل الرجلان في ألمانيا في فبراير/شباط 2019 في إطار تحقيق مشترك مع مسؤولين قضائيين فرنسيين. التحقيق الذي أدى إلى الاعتقالات كان أيضا نتيجة لسلسلة من الشكاوى الجنائية التي رفعتها المنظمة الحقوقية الألمانية -“المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” (المركز)- مع محامين ونشطاء سوريين وناجين من التعذيب وأقاربهم. ساهمت شهادات الشهود المدعومة من المركز بإصدار مذكرات توقيف بحق أنور ر. وإياد غ. . هناك جماعات أخرى زوّدت السلطات أيضا بمواد ذات صلة للتحقيق.
أنور ر. هو أرفع مسؤول سوري سابق مزعوم يُحاكم في أوروبا بتهمة ارتكاب جرائم خطيرة في سوريا. يتهم المدّعون الألمان أنور بالإشراف على تعذيب محتجزين بين أبريل/نيسان 2011 وسبتمبر/أيلول 2012 بصفته المزعومة كرئيس لقسم التحقيقات بـ”فرع الخطيب” التابع لإدارة المخابرات العامة في دمشق، والمعروف أيضا باسم “الفرع 251”. يزعم الادعاء أن مرؤوسي أنور عذّبوا 4 آلاف شخص على الأقل أثناء الاستجواب في الفرع، بما في ذلك الضرب والصدمات الكهربائية. اتُهِم أنور ر. أيضا بـ 58 تهمة بالقتل والاغتصاب والاعتداء الجنسي الجسيم.
المشتبه به الثاني، إياد غ.، مسؤول أدنى رتبة في إدارة المخابرات نفسها، مُتَّهم بالمساعدة والتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. يزعم الادعاء أن إياد احتجز محتجين عام 2011 وسلمهم إلى فرع الخطيب، حيث تعرضوا للتعذيب لاحقا.
يُعتقد أن كلا المتهمين انشقا في 2012. قالت السلطات الألمانية إن أنور ر. وإياد غ. دخلا ألمانيا كطالبَيْ لجوء في يوليو/تموز 2014 وأبريل/نيسان 2018 على التوالي. إذا أدينا، قد يواجه أنور ر. السجن مدى الحياة، بينما يواجه إياد غ. السجن بين 3 و15 سنة.
تعترف القوانين الألمانية بالولاية القضائية العالمية على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. بسبب العدد الكبير من طالبي اللجوء واللاجئين السوريين في ألمانيا، المعلومات حول الضحايا والشهود والأدلة المادية التي لم تكن متوفرة من قبل، وحتى بعض المشتبه بهم، أصبحوا الآن في متناول السلطات القضائية هناك. تُحقق سلطات العدالة الجنائية في عدة دول أوروبية أخرى أيضا، بما في ذلك السويد وفرنسا، بشأن الأشخاص الذين يُزعم أنهم ارتكبوا جرائم خطيرة في سوريا.
قالت هيومن رايتس ووتش إن القضية في كوبلنز ينبغي أن تكون بمثابة تحذير صارخ لأولئك الذين يرتكبون انتهاكات في سوريا حاليا، بأن لا أحد بعيد عن متناول العدالة. عشرات الآلاف من الأشخاص اعتُقِلوا أو أُخفوا في سوريا منذ 2011، بالغالب من قبل القوات الحكومية عبر استخدام شبكة واسعة من مرافق الاحتجاز في أنحاء البلاد. لقي الآلاف حتفهم أثناء احتجازهم لدى الحكومة السورية بسبب التعذيب وظروف الاعتقال المروعة.
تواصل الحكومة السورية اعتقال وإساءة معاملة الأشخاص في المناطق الخاضعة لسيطرتها. اعتقلت قوات الأمن السورية في المناطق التي استعادتها مؤخرا من الجماعات المناهضة للحكومة، المئات من النشطاء وقادة المعارضة السابقين وأفراد أسرهم، رغم أنهم وقّعوا جميعا اتفاقيات مصالحة مع السلطات تضمن عدم اعتقالهم.
العدالة الشاملة لهذه الفظائع وغيرها من الفظائع في سوريا كانت صعبة المنال. في 2014، عرقلت روسيا والصين جهود “مجلس الأمن” التابع للأمم المتحدة الرامية إلى منح “المحكمة الجنائية الدولية” تفويضا بشأن الجرائم الخطيرة هناك. بعد ذلك بعامين، استجابت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من خلال إنشاء آلية دولية جديدة لجمع وتحليل وتأمين الأدلة على الجرائم الخطيرة للمحاكمات في المستقبل. سيكون عمل الآلية، إلى جانب جهود التوثيق الأخرى، حاسما لعمليات المساءلة المحلية المستقبلية في ألمانيا وأماكن أخرى. قالت هيومن رايتس ووتش إن على الحكومات الملتزمة بالعدالة في سوريا دعم وتعزيز هذه الجهود.
بعيدا عن الجرائم المرتكبة في سوريا خلال العقدين الماضيين، نظرت المحاكم الوطنية في عدد متزايد من الدول في قضايا تتعلق بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، والتعذيب، والاختفاء القسري، والإعدام خارج نطاق القضاء التي ارتكبت خارجها. تظهر تقارير هيومن رايتس ووتش في بلدان مختلفة أن الممارسة العادلة والفعالة للولاية القضائية العالمية يمكن تحقيقها عندما يوجد مزيج صحيح من القوانين المناسبة، والموارد الكافية، والالتزام المؤسسي مثل وحدات جرائم الحرب المخصصة، والإرادة السياسية.
قالت جراح: “مع منع سبل العدالة الأخرى، تقدّم المحاكمات الجنائية في أوروبا الأمل لضحايا الجرائم في سوريا الذين ليس لديهم مكان آخر يلجؤون إليه. تُظهر المحاكمة في كوبلنز أن المحاكم – حتى على بعد آلاف الأميال من مكان حدوث الفظائع – يمكن أن تلعب دورا حاسما في مكافحة الإفلات من العقاب”.