مناف الحمد
لا تستنفد الدولة الثيوقراطية كل مفهوم الدولة الدينية، وان اعتبا رهما مترادفين يأتي في سياق توظيف تيارات الإسلام السياسي لطرحهم المتمثل في أن
الدولة في الإسلام ليست مطابقة لدولة الكهنوت في العصور الوسطى الأوربية ؛ لخلو الإسلام من الاكليروس الذين كان يمثل في ذلك السياق واسطة بين المؤمن وربه والوصي على شؤونه الروحية والزمنية على السواء ، وهو توظيف إذا افترضنا حسن النية يغفل عن الفرق بين جوهر الظاهرة وأعراضها ؛ فالدولة الثيوقراطية كما تجسدت في أوربا العصور الوسطى ليست إلا عرضا من أعراض الدولة الدينية ظهر في سياق تاريخي معين بشروط اجتماعية وسياسية وثقافية معينة فهي والخالة هذه نوع لجنس هو الدولة الدينية.
إننا نسمي دولة دينية تلك الدولة التي يعتبر صاحب السلطة فيها نفسه ممثلا لمبدأ مفارق متسام وقد كلّف من قبله بالعناية بشعبه
وبتفكيك هذا المفهوم للدولة الدينية إلى مكوناته نجد أن المبدأ المفارق، وواقعة التمثيل، وهوية صاحب السلطة ليست معطيات طبيعية، كما أن تركيبها كذلك ليس معطىً طبيعياً ولأنها معطيات اصطناعية فهي بحاجة إلى أيديولوجيا تسوغها، وليس سراً أن هذا التسويغ قد رافق كل أنظمة الحكم الديني التي حاولت أن تسوغ مكانة الممثل للمبدأ المتسامي.
فبرغم ادعاء جل تيارات الإسلام السياسي نبذ فكرة الدولة الدينية التي يقدمونها عن جهل أو تجاهل على أنها مطابقة للدولة الثيوقراطية فان طرحهم الأساسي المتمثل في أن كلام الله هو المرجع المطلق في الأمور الدينية والدنيوية ليس إلا شكلاً من أشكال فكرة ” الحاكمية لله “ولا ينفع هنا التخلي الشكلي عن هذه الفكرة _الي اخترعها أبو الأعلى المودودي في سياق سياسي واجتماعي معين ثم قام سيد قطب باستيراده ومحاولة استزراعها في سياق آخر مختلف _ لأن الطرح السابق لا ينفصل عن فهم هذه جماعة ما لهذا الكلام المعد مطلقاٍ، وهو فهم مشروط بطبيعة الحال بظروف هذه الجماعة وبمصالحها ، مما يستلزم فرض هذه الجماعة في حال تقلّدت مقاليد السلطة لهذا الفهم على باقي الجماعات ، وهي النتيجة عينها التي تقتضيها فكرة الحاكمية لله والمضمون نفسه الذي تنطوي عليه دولة الكهنوت.
وتمثل الديمقراطية إحدى الوسائل التي يستفيد منها التيار الديني لاجتراح أيديولوجيا التمثيل هذه فلأن أساليبها متنوعة وهي لا ترجح اختيارا لأحدها على الآخر وتعتبرها جميعا مشروعة وجديرة بالاعتبار يأخذ هذا التيار أسلوباً واحداً منها ويشرحه شرحاً وحيد الجانب فتكون نتيجة هذه المعالجة الهرطقية هي الايدولوجيا.
ولان هذه الايدولوجيا مرتبطة حتماً بالتراث فإنها كفيلة بمسخ فردية الفرد وإلغاء ذاتيته لأنها تعتبر التراث –وهو هنا الإسلام مجرداً عاماً – كائناً كليّ القدرة مجرداً محركاً للتاريخ قادراً على حل كل المشاكل الراهنة والمستقبلية.
“أثبت الإسلام انه قادر على النهوض بالأمة مرة تلو المرة بعد كل كبوة أو نكسة أو هزيمة أو انهيار…. وبهذا شكل الإسلام تلك القوة الجبارة التي تزود جسد الأمة بعوامل الدفاع والمقاومة والهجوم…. فالإسلام هو الذي يقوم اعوجاجها حين تعوج، ويشفيها من أمراضها حين تبتلى بالعلل، ويدفعها للجهاد حين يغزوها الأعداء، وينهضها حين تكبو ” (طرابيشي، المثقفون الغرب والتراث، ص29. )
هذا الاقتباس من مفكر إسلامي يظهر تماهيه اللا محدود مع التراث وهو تماه تذوب فيه حدود الأنا وتنزع فرديتها وهو خطاب يشتمل على وظيفة متمثلة في نداء العظمة لدى صاحبه فكما تخبرنا جانين سميرجل وفق منظورها التحليلي النفسي فإن ” تضييع حدود الأنا يجعل الفرد قابلا للتوحد والتماهي لا مع كل عضو في الجماعة فحسب، بل مع التكوين الجماعي بأسره. وفي هذا إرضاء لنداء العظمة عنده، لان أنا كل واحد يصير بمثابة امتداد للجماعة في جملتها. وعندئذ يفقد أعضاء الجماعة تفردهم، ويتشابهون تشابه النمل أو الدود “. (جانين سميرجل، مثال الأنا، ص98. )
كما إنها كفيلة أيضا بالقضاء على استقلالية الإنسان كفاعل أخلاقي وهي السمة المستمدة من طبيعة التفكير العملي، فاتخاذ الإنسان قراراً أخلاقياً هو بالضرورة نتيجة لممارسته حريته ومسؤولية هذا القرار تقع على كاهله وحده.
هذه الاستقلالية التي تنطوي على امتلاكه حرية الاختيار – الحرية الميتافيزيقية-ومسؤوليته عن اختياراته وأفعاله موضوعها هو الاختيار بين القيم، وهي بحكم كونها موضوعاً للاختيار الذي يشكل ماهيّة الاستقلالية لا يجوز أن تقنّن أو تمأسس لأن مأسستها تعني فرضها.
ولأن الايديولوجيا الإطلاقية الشمولية التي توحد بين النظام السياسي والإسلامي وبين رسالة الله التي تشتق منها صفتا الاطلاقية والشمولية تعتبر نفسها مسؤولة عن القيام بتشكيل شخصية الإنسان لأنها تحتوي على موقف من كل قضية أساسية من قضايا الإنسان فهي تقلّص بدائل الاختيار أمام الإنسان ، وتحوله إلى متلقّ سلبيّ لما تفرضه الجماعة صاحبة هذه الايديولوجيا من قيم تفرغ الحرية الميتافيزيقية من مضمونها لأنها تلغي المكونين الأساسيين الكفيلين بتحويلها من المجرد إلى الواقعي وهما الحرية السياسية والاجتماعية مما يعني سلب استقلاليته
والأثر الآخر المترتب على هذه الايديولوجيا هو تذويبها للحدود بين الخاص والعام ‘وهما المجالان اللذان لا تكتمل استقلالية الإنسان إلا بوضع حد فاصل بينهما، ومنع تدخل الدولة بتشريعاتها وقوانينها إلا في المجالات التي إذا تركت فيها حرية التصرف المطلقة للفرد أضرّ ذلك بالمنفعة العامة على المدى البعيد أو بتحقيق العدالة أو بالاثنتين معا. وهي تقوم بعملية التذويب هذه لأنها تريد أسلمة جميع جوانب الحياة استناداً إلى الاعتقاد أن هذه الأسلمة هي وحدها الكفيلة بتحقيق الخير حسب تصور متبنيها له.
ما جئنا على ذكره آنفاً يجعل من السهل استنتاج كون هذه الايدولوجيا حاضناً مناسباً جدا للتيارات المتطرفة فهي إذ تسلب الذاتية والاستقلالية تحول الإنسان الى جهاز يتلقّى التعليمات وتذهب به بعيداً إلى حيث ينسلخ عن واقعه المعاش -الذي يشكّل بالطبع إحدى علل التطرف-إلى زمن ماض محوّلة عقله إلى خشبة مسرح يمثّل عليها الأدوار أبطال من ذاك الزمان. وهي الحالة التي اعتبرها فرنسيس بيكون إحدى أوهام العقل لتي تعيقه عن مكاشفة الواقع ومحاولة القبض على مجرياته.