مناف الحمد

ربما يشكل أحد عوامل الحضور السطحي للحريات التي تنطوي عليها المفاهيم الليبرالية في عالمنا العربي هو أنها تؤخذ مفصولة عن الحرية الأكبر وهي الحرية الأنطولوجية ؛ حرية الإنسان باعتباره كائناً في الوجود، وهي حرية سدّت أمامها المنافذ قروناً طويلة بفعل المذهب الحتمي الذي ساد العلوم الطبيعية، والعلوم الإنسانية والذي يجد تأصيله في تراثنا في مذهب الطبائع الذي يعتبر القانون الطبيعي كامناً في طبيعة الأشياء

ومثل ما سبب انعدام الحرية الأنطولوجية بسبب مذهب الحتمية انفصاماً – شيزوفرينيا – في نفس الإنسان الغربي تجلى بصورته الأبرز في المذهب الرومانتيكي الذي كان رد فعل على تحكم الحتمية في مفاصل الحياة وجزئيات الطبيعة لأنه يعيق التحقق الكامل للحريات البعدية الجزئية المشتقة منه من سياسية واقتصادية واجتماعية، لعبت الطبيعيات في تراثنا عامل إعاقة مركب أمامها ولا زالت تلعب هذا الدور

وربما يكمن الجذر العميق للدور المدمر لعلم الكلام عموما وطبيعياته خصوصا في منع القدرة على التغلغل السلس لمفاهيم الحرية بسبب اعتماده على ما يرادف مفهوم الحتمية وهو مذهب الطبائع وما ينطوي عليه من علية وضرورة هو أنه وضع الطبيعيات في نظرية الوجود وجيّرها لحساب الثيولوجيا في مسعى المشتغلين فيه إلى إثبات عقيدة التوحيد ؛ ولهذا تجد أن محور طبيعياتهم هو دليل الحدوث الذي يقوم على تقسيم الوجود إلى جواهر وأعراض، والجوهر لا ينفكّ عن العرض، وبما أن الأخير حادث فالأول حادث مثله ؛ ما يعني بالضرورة أنه لا بد له من محدث. وهو استثمار للطبيعة والإنسان الموجود فيها في خدمة الثيولوجيا ؛ الأمر الذي جعل الطبيعيات خارج نظرية المعرفة، وجعلنا مستوردين دائماً لعلوم الطبيعة بعد انكفاء ايديولوجيتنا التي يمثل علم الكلام ممثلها الأساسي على ذاتها، ونفورها من الابستمولوجيا التي كان وضع الطبيعيات في صلبها كفيلاً بتجديدها وجعل تمحورها حول الألوهية لا يشكل عائقاً أمام تخلفها، وتخلف حامليها

إن فحص مفهوم السببية الذي شغل حيزاً كبيراً في مساجلات المتكلمين بين قائل بضرورته، وبين من اعتبره مجرد اقتران بين شيئين، ورغم التطور الكبير الذي طرأ على المفهوم، واستحالته من علاقة خطية أحادية البعد إلى علاقة متبادلة علائقية تأخذ أشكالاً عديدة منها الارتكاسية التي يرتد فيها المفعول إلى علته فيتحول إلى علة، والسببية السلبية التي لا تحدث فيها العلة مفعولها، والسببية الغائية التي تعمل فيها العلة بدالة الغاية قد يساعد في تسليط الضوء على معوق من معوقات الحرية الأنطولوجية في تراثنا، وفي الوقت عينه يستطيع التقصي المتأني في المساعدة على الإمساك بخيط رفيع في هذا التراث يمكن أن يشكل بذرة لم يقيض لها من يستنبتها لكي تثمر
فهذا المفهوم الذي يقوم على ضرورة نتوج المسبب عن السبب بالضرورة وفق قانون حتمي طبيعي لا يتخلف كامن في طبيعة الأشياء، والمثال الذي نال  الشهرة الأكبر في أدبيات علم الكلام هو
كلما لاقى الثوب النار احترق ؛ لأن من طبيعة النار الإحراق وهو مصوغ بالصيغة المنطقية إذا كان. ……. فإن دائماً ، فالاحتراق ناتج عن طبيعة النار، والعلاقة بين السبب والمسبب ثابتة لا تتخلف، فكلما وجد السبب وجد المسبب وهو يجعل المسافة بين طبيعيات تراثنا وبين درك الحرية الانطولوجية غاية في الاتساع ؛ فهو أولا لا يزال يتعامل مع الطبيعة على افتراض أرسطي بجواهر الأشياء التي فقدت وفق العلم الحديث جوهريتها بعد كشوفات الفيزياء الحديثة في أعماق المادة والتي أصبحت الشيئية وفقاً لها غير مطابقة بعد أن أصبح الجسم الذري محض بنية دينامية لها أعراض بلا جوهر .وهو ثانيا يحكم قبضة قوانين الطبيعة على كل الوقائع بحيث لا مناص من التقيد في أغلالها بحكم طبيعة الأشياء وهو انفصال عن روح العلم الحديث الذي تحكمه اليوم اللاحتمية والتي تجعل الاحتمالية كامنة في الوجود موضوعياً. وهو ثالثاً يتعامل مع مبدأ الضرورة كمبدأ حاكم لجميع العوالم الممكنة المشاهدة وغير المشاهدة البعيدة منها والقريبة

إن الانفصال أو الهوة الشاسعة بيننا وبين الحرية الانطولوجية التي يمثل امتلاكها شرطا للحريات الليبرالية ناتج ليس فقط عما ذكرناه بداية من عدم اكتراث ايديولوجيتنا بالطبيعيات الا في سياق استثمارها للاهوت، وإنما من وقوعها تحت براثن الحتمية المطلقة الدوغمائية التي لا تفسح مجالاً لتخلف قوانين الطبيعة المفترضة ولا تفتح فضاء للإمكان

فالانفصال مسبّب بعبارة أخرى عن التقوقع داخل مفاهيم الحتمية التي فجرتها الميكانيكا الموجية، ونسبية اينشتاين العامة والخاصة التي ألغت مفهم الزمان المطلق والمكان المطلق وجعلت الزمن بعداً رابعاً وأدخلت المراقب كمتغير في المعادلة لا يمكن إغفاله، والتي أثبتت أن الاحتمالية من طبيعة الأشياء، وليست ناتجة عن قصور معرفة الباحث، ولا قصور ادواته وأن الجوهر الفرد بتعبير المتكلمين محض خيال بعد انشطار الذرة وتحول المادة الى طاقة، واكتشاف الطبيعة المزدوجة للأشياء الموجية والجسيمية، ومبدأ هايزنبرغ في اللاتعين الذي جعل الحتمية أثرا بعد عين وحول القضيم المنطقية المشار إليها سابقاً إذا كان. …….. فإن دائماً إلى الصيغة : إذا كان. …فإن بنسبة معينة

وبالرغم من أن ما حكم المذهب الاشعري في سياقه هو منطق العصر الذي جعل مؤسسيه ينكرون مذهب الطبائع وينكرون السببية الطبيعية من أجل رد كل الأسباب الى الله وتجريد الأشياء من أي طبيعة خاصة تنزيهاً للخالق، وخوفا من الشرك فإن مطوّر المذهب الاشعري أبا حامد الغزالي قد ناقش السببية نقاشاً يمكن أن يستثمر في السعي لزحزحة الطبيعيات الكلامية من علم الوجود إلى نظرية المعرقة ؛ فهو قام بتفكيك القضية السببية الى قضيتين شرطيتين ؛ الأمر الذي يتيح فتح فضاء للإمكان لما تتضمنه القضية الشرطية في مقدمها من طبيعة افتراضية، وقبل عرض جزئي القضية ربما يستحسن الإشارة إلى أن القضية الشرطية نوعان: قضية شرطية انية وهي التي تناقش العوالم القريبة والتي يكون مبتدأ المقدم فيها بالاداة إن ولذلك سميت بالإنية، ومثالها القضية إن كان العالم حادثاُ فله صانع ويكون مقدمها غير معلوم القيمة صدقاً أو كذبا، والقضية الشرطية لو وتسمى القضية الشرطية اللوية والتي يكون مقدمها معلوم القيمة الصدقية وهو الكذب ومثالها :لو امتلكت خياشيم السمك لعشت في الماء، وهي تعنى بالعوالم البعيدة او النظائر وفق المصطلحات الكلامية

:وعليه فإن القضية كلما لاقى الثوب النار احترق يمكن أن تقسم الى قسمين
أيا كان الشيء من قطن أو صوف أوكتان إن لاقى النار احترق
أيا كان الشيء من جلد أو غيره لو لاقى النار احترق
وواضح ان القضية الشرطية الأولى تختص بالثياب وهو العوالم القريبة، والثانية بالعوالم البعيدة وما كان يرفضه الغزالي ليس الاقتران الحاصل بين الاحتراق وملاقاة النار في العالم المشاهد والمحسوس والعوالم القريبة منه، ولكن تعدية هذا الاقتران الى العوالم البعيدة وغير المشاهدة على عكس ما يروج البعض من إنكاره للسببية التي لم يكن ينكرها أصلاً كمبدأ وانما كان ضد تطبيعها في سبيل رد الفعل كله لله في سياق انتظامه في مقولات مدرسته، وإنكار حتى تعدية مجرد الاقتران إلى العوالم البعيدة وهو إنكار للتعدية يمكن ان تعززه كشوف العلم الحيث التي فجرت مفهوم الحتمية وأثبتت أن الاقتران الذي كان يشاهد في عوالم الفيزياء الصلبة ليس ضروري الحدوث في عوالم الميكرو الفيزياء والتي كانت عالماً بعيد الإمكان بالنسبة إلى العصر الذي نوقشت فيه المسألة والتي كانت العلوم فيها تتعامل مع مورفولوجيا الجسم الصلب

إن تجديد علم الكلام بقطيعة معرفية تعمل على استيعابه وتجاوزه وتجسيد ذلك عملياً بوضع الطبيعيات في نظرية المعرفة، وليس في نظرية الوجود أولاً وهو ما يتطلب استيعاب ما تحقق في فلسفة العلم المعاصر من نفي للحتمية واستثمار بعض المحاولات التي ذكرنا مثالاً عليها ثانياً هو أحد الطرق التي نظنها مفضية إلى تصديع عوائق

انتشار الحريات الليبرالية وذلك لما تتيحه من إمكانية اكتساب الحرية الأنطولوجية التي تعد أصلها وشرطها الضروري بالمعنى  الواقعي

موقع الاوان