كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

يشير «المركز اللبناني للدراسات» إلى أنّ 55 نائباً لبنانياً لم يقترحوا أيّ قانون بين أعوام 2009 و2016، وأنّ واحداً من كلّ عشرة نوّاب لا يؤمن بأنّ الفقر مسألة وطنية ملحة، وأنّ 34٪ من الشباب اللبناني يستخدمون الصلات السياسية كوسيلة للعثور على عمل، لأنّ 73٪ منهم على يقين بأنّ تلك الصلات عامل هامّ في تدبّر وظيفة. وكان المركز ذاته قد صاغ عريضة تجريبية تطالب بإلغاء نظام المحاصصة السياسية المعمول به في لبنان منذ الاستقلال، فوافق على توقيعها 70٪ من الذين عُرضت عليهم؛ وحين علموا أنّ أسماءهم سوف تُنشر أيضاً، هبطت النسبة إلى 50٪.
هذه واحدة من عشرات الخلفيات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ثمّ الثقافية والدينية والطائفية والمذهبية، التي تجري في سياقاتها الانتخابات النيابية اللبنانية؛ ضمن مستجدّ كبير يتجاوز مفهوم الخلفية وينذر بسلسلة احتمالات متقاطعة ومفاجآت غير محسوبة، هو اعتماد نظام التمثيل النسبي والصوت التفضيلي للمرّة الأولى في تاريخ انتخابات المجلس. ثمة مَن يراهن على أنّ كبار زعماء نظام المحاصصة القائم سوف يكونون أوّل الخاسرين، وثمة من يؤكد أنّ «حزب الله» وحليفته حركة «أمل» هم أوائل الرابحين، وثمة رأي ثالث يتمهل الجزم من منطلق بسيط ومنطقي: النظام الانتخابي المستحدث لم يُختبر بعد، وقد يسفر عن الجديد من الغرائب والعجائب، أو يعيد إنتاج القديم من النوائب والمصائب!
جديد آخر، يتوجب أخذه في الحسبان من منطلق أنه وافد طارئ على الأقلّ، هو هذا المقدار الملموس من حراك «المجتمع المدني»، وما يقترن به من حماس عشرات المرشحين، ثمّ (ولعلّ التفصيل هذا يحمل دلالة أهمّ) إقدام 111 امرأة على الترشيح (مقابل 12 مرشحة فقط في انتخابات 2009)، بينهنّ شهيرات يعملن في وسائل الإعلام المختلفة، وينشطن عبر وسائل التواصل الاجتماعي أساساً، خارج لوائح الأحزاب السياسية التقليدية. البعض يساجل بأنّ مفهوم «المجتمع المدني» في لبنان ليس غائماً ومضللاً بالمعنى الاصطلاحي، فحسب؛ بل هو، ببساطة، غير موجود بالمعنى الفاعل والفعلي الذي ينطوي عليه المصطلح. رأي مخالف يرى أنّ هذا الإقبال الواسع على الترشيح هو علامة أولى على حضور المجتمع المدني، أو على استفاقته، أو حتى انتفاضته؛ خاصة حين يجتذب حركات احتجاج شبه منظمة، مثل «طلعت ريحتكم» و»لبلدي».
في المقابل يمكن أن تتكرر نوائب الماضي ومصائبه، تماماً على نحو يؤكد بأنّ لا جديد تحت شمس لبنان في ما يتصل بنظام المحاصصة السياسية، والانتخابات النيابية استطراداً. على سبيل المثال، سوف يُعاد انتخاب «الأستاذ» نبيه برّي، لكي يترأس المؤسسة ذاتها التي عطّل وظائفها وأصابها بالشلل التامّ، عن سابق قصد سياسي؛ وسوف يستأنف سعد الحريري التحالفات القديمة التي كان والده القتيل قد أبرمها مراراً وتكراراً تحت قبة هذا المجلس، خلال أزمنة الولاء المشترك لهيمنة النظام السوري الأمنية والسياسية والعسكرية في لبنان. وأياً كانت مكاسب «أمل»، أو كانت خسائر «المستقبل»، فإنّ آثار نظام التمثيل النسبي الجديد لن تشكّل عائقاً أمام إعادة تدوير تحالفات الماضي.
في المقابل، وأياً كانت احتمالات نجاح الاختراق العوني لقلاع وليد جنبلاط في الشوف، أو توغل «حزب الله» في كسروان على حساب «القوات اللبنانية»، أو صعود رجل مثل جميل السيد نائباً عن بعلبك الهرمل، أو (مَنْ يدري!) تمكّن بولا يعقوبيان من اختطاف بطاقة أرمنية تحت مسمى الأقليات… الثابت، في هذا كله وسواه، هو مبدأ «لا غالب ولا مغلوب» على مستوى التمثيل السياسي، حتى بعد أن تسفر الانتخابات عن فريق أغلبية وفريق أقلية على المستوى العددي. والثابت، تالياً، هو النظام القديم الذي لا يفنى ولا يتجدد، على المنوال الجدلي الذي اقترحه أنتونيو غرامشي ذات يوم: قديم لا يموت بسهولة، وجديد ولادته عسيرة!