كانت سرعة الإنجاز لافتة بالنسبة لقرار مجلس الأمن الأخير المتعلق بسوريا، بالقياس إلى محاولات سابقة ومشاريع قرارات أوقفها الثنائي الروسي – الصيني بحائط الفيتو. كذا كان التوافق الأمريكي – الروسي سريعاً في زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى موسكو عشية اجتماع نيويورك لمجموعة العمل الدولية من أجل سوريا (17 دولة بينها الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن) التي ستمهد لاجتماع مجلس الأمن وتصويته بالإجماع على مسودة القرار التي أعدتها الولايات المتحدة.
لا بد أن الحليف الروسي أحاط السفاح القابع في دمشق بما تم الاتفاق عليه مع جون كيري، أي بمحتوى القرار الأممي الذي سيصدر بعد يومين، ليتواقح أمام وسيلة إعلام هولندية بالقول إنه كان قد حزم حقائبه ليرحل، لكنه أعاد فتحها بعدما تراجعت الدول الغربية الرئيسية عن هدف تنحيته وباتت موافقة على بقائه في الحكم في المرحلة الانتقالية.
هذه هي القراءة الصحيحة للقرار الأممي، على رغم أنه أول قرار لمجلس الأمن يتخذ بشأن «حل سياسي» في سوريا، ويبدو، لهذا السبب وحده، كأنه الضوء في آخر النفق المظلم. قد لا يكون من الحصافة استباق الأحداث والحكم بموت القرار بسبب محتواه الهلامي أولاً، وعدم إلزامية تطبيقه بالنسبة للأطراف ثانياً، لكن سوابق قرارات مجلس الأمن بشأن فلسطين ومصيرها تعطينا ما يكفي من التشاؤم بخصوص هذا القرار الجديد.
فهو، قبل الحديث عن خلوه من أي إشارة إلى مصير لب المشكلة في سوريا، أعني نظام الكيماوي والبراميل القاتلة، لم يشر ولو بكلمة واحدة إلى الحرب الروسية على المدنيين السوريين والجيش الحر، ولو من باب العتب على أحد الأعضاء دائمي العضوية في المجلس المسؤول –نظرياً- عن الأمن والسلم الدوليين. وما كان له، طبعاً، أن يشير، ما دامت الموافقة الروسية المسبقة ضرورية لصدور القرار، وما دام القطب الآخر منغمساً بدوره في حرب أخرى على الأراضي السورية (التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة لضرب داعش).
منذ صفقة الكيماوي التي أنجزها الثنائي الأمريكي – الروسي، في 2013، وتخلى النظام الكيماوي بموجبه عن مخزونه من السلاح المحرم دولياً مقابل ضمان استمراره في قتل السوريين بوسائل أخرى، استسلمت الإدارة الأمريكية لأولوية الدور الروسي في سوريا، وتم تتويج هذا المسار في قرار مجلس الأمن الذي يعكس الرؤية الروسية لـ»الحل السياسي» بصورة مطلقة تقريباً. والحال أن موسكو لا تملك رؤية سياسية للحل، بل هي تتبنى «الحل» العسكري المدفوع إلى نهاياته القصوى. فجميع الفصائل العسكرية التي تقاتل النظام هي «مجموعات إرهابية» كما أعلن بوتين قبل توجهه إلى نيويورك، في أيلول/سبتمبر 2015، أي عشية بدء الحملة العسكرية الروسية في سوريا المتواصلة إلى اليوم. وبلغ الجنون بالرجل حد التهديد علناً باستخدام السلاح النووي في حربه على «الإرهاب» في سوريا. وبلغت الوضاعة بأقوياء العالم أنهم لم يتفوهوا بكلمة واحدة بحق هذا التصريح من شريكهم الروسي الذي يتصرف كقبضاي الحارة، على رغم اهترائه الذاتي متعدد الأوجه في العقود الأخيرة. في النتيجة يمكن القول أن «العالم» قد سلم، إلى حد بعيد، برؤية النظام الكيماوي التي تختصر المشكلة في سوريا بكونها حرباً على الإرهاب. لا نفهم من قرار مجلس الأمن هذا إلا أنه توافق عالمي على أولوية الحرب على الإرهاب في سوريا، لا أكثر ولا أقل.
أما بصدد الحل السياسي، بمعناه الحقيقي، فهو متروك للسوريين أنفسهم، من غير أن يعني ذلك عدم تدخل القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الحرب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تحديد وجهته ومضمونه. بل إن قرار مجلس الأمن منح التدخل العسكري الروسي الشرعية الأممية، بتغييبه هذا العنصر في نصه. وتم استبعاد أي إدراج محتمل للميليشيات الشيعية التابعة لإيران التي تقاتل إلى جانب النظام الكيماوي من لوائح المنظمات الإرهابية التي كلف الأردن بإعدادها، في إطار مجموعة العمل من أجل سوريا التي باتت المرجعية الوصائية لمصير سوريا.
بل إن الطرف الاقليمي المناوئ للنظام الكيماوي هو الذي يتعرض لضغوط كبيرة ليكف يده عن التدخل، تركيا أولاً التي تم توريطها بإسقاط الطائرة الروسية وباتت بين فكي كماشة روسيا وحلف الأطلسي، والسعودية وقطر اللتين يطلب منهما الضغط على فصائل معينة لتحول بندقيتها من النظام باتجاه «الإرهاب»، داعشياً كان أو غير ذلك.
وهكذا أعلنت السعودية عن إنشاء تحالف إسلامي لمحاربة الإرهاب «بكافة أشكاله»، بعد احتضانها الناجح لمؤتمر المعارضة السورية الذي ضم، إلى الكيانات السياسية الأبرز، خمسة عشر فصيلاً عسكرياً معارضاً للنظام. يمكن الاستنتاج أن التحالف الإسلامي هذا يملك أجندته الخاصة فيما يتعلق بالمشكلة السورية، على خلاف مع الأجندتين الروسية المحاربة من أجل بقاء النظام، والأمريكية المحاربة ضد داعش. ذلك أن مفهوم الإرهاب مسيس إلى حد بعيد بين الأقطاب المختلفين، وإذا كان قرار مجلس الأمن منحازاً إلى الرؤية الروسية لمحاربة الإرهاب، فالرؤية السعودية ما زالت، إلى الآن، متمسكة برؤية مختلفة وأولويات مختلفة، لا نعرف إلى أي حد ستكون قادرة على فرضها. فتصريحات وزير الخارجية عادل جبير التي يكرر فيها على وجوب تنحي الأسد سلماً أو بالقوة، لا تتماشى مع «الروح الروسية» لقرار مجلس الأمن، وكذا هي حال «الهيئة العليا للمفاوضات» المنبثقة عن مؤتمر الرياض للمعارضة السورية. من المحتمل أن المفاوضات المفترضة بين النظام والمعارضة لن تبدأ بالسرعة والسهولة التي يوحي بهما القرار، وإذا بدأت، بعد كثير من لي الأذرع المتقابل بين الأوصياء على الطرفين، فهي لن تصل إلى النتائج المرجوة، لأن الطرف الذي يملك بداية الحل (النظام وحلفاؤه) لا يريده، والطرف الآخر لا يستطيع.
مع قرار مجلس الأمن ذي الهوى الروسي، انتهت آخر فصول الرهانات على ضغط دولي يجبر النظام على الدخول طرفاً في الحل. يبقى الرهان الوحيد المعقول هو على الميدان: هزيمة الحملة الروسية وإرغام بوتين على إنهائها، وإرغام النظام (أي إيران) على التفاوض على حل سياسي.

٭ كاتب سوري

بكر صدقي