كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

بدأ العام السوري، 2016، بمباحثات جنيف، التي اختزلها بشار الجعفري، ممثل النظام السوري في تلك المباحثات، من النقطة الأصدق وصفاً للحال: لقد أعلن أنه لا تفاوض ولا من يحزنون، ومن الخير للرعاة الثلاثة، واشنطن وموسكو والأمم المتحدة، أن يرتاحوا ويريحوا. تلك، في عرف جعفري، لم تكن مفاوضات، بل محض محادثات غير مباشرة على شكل حوار سوري ـ سوري، دون شروط مسبقة، ودون تدخل خارجي». أكثر من هذا وذاك، قال الجعفري إنّ هذه الخلاصة هي «الفاتحة» في «القرآن تبعنا»، أي قرآن سيّده بشار الأسد؛ والأرجح أنّ الأخير وجّه الأوّل إلى أنّ روح جنيف ـ 3 هذه لا تتجاوز اللعب في الوقت المستقطع، والضائع المضيّع، أو هكذا تقول الترجمة العملية لما سُمّي بـ»التفاهمات» بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، ونظيره الروسي سيرغي لافروف.
ثمّ، بعد انقضاء أسابيع قليلة من عمر هذا العام السوري، 2016؛ جاءت «مفاجأة» الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: توجيه أمر إلى وزير الدفاع الروسي بسحب الوحدات العسكرية الروسية من سوريا، بعد أن أنهت مهامها في «محاربة الإرهاب». لم تكن تلك لعبة مناورة عادية، بل أدنى مستوى بكثير في الواقع، لأنها كانت أشبه بمناورة كاذبة مفتوحة، إذْ أنّ «المهامّ» إياها لم تكن قد اكتملت، أوّلاً؛ وتوجّب أن تُضاف إليها «واجبات» أخرى أبعد أثراً، وأطول عمراً. وحين سيوشك العام على الانصرام، سوف تكون عمليات القصف الجوي الروسي في أجواء حلب وريفها قد بلغت ذروة وحشية غير مسبوقة، طالت المشافي والمستوصفات، حتى تلك التي تديرها منظمات دولية محايدة مثل «أطباء بلا حدود»، فضلاً عن رياض الأطفال والمدارس والمساجد والأسواق الشعبية، وأودت بحياة قرابة 2000 مدني سوري أعزل. كان القصف عشوائياً، لكنه نهض على تكتيك ممنهج استهدف دفع آلاف المدنيين إلى إخلاء المدينة قسراً، وتشكيل ضغط ديمغرافي وإنساني قاهر يربك فصائل المعارضة المسلحة (التي لم يكن ينقصها إرباك الصراعات الداخلية، أصلاً).
وهكذا واصلت موسكو تنفيذ المهمة الأهمّ على جدول اعمال تدخلها العسكري في سوريا، أي انتشال ركام جيش النظام من حافة الهاوية، ثمّ إصلاح التوازنات على الأرض عبر معادلة تقول بإمكانية ترجمة القصف الجوي (ضدّ المعارضة وفصائل الجيش الحرّ، تحديداً) إلى مكاسب ميدانية: سواء عن طريق استعادة ما تمّ خسرانه من مناطق، أو وقف خسران مناطق أخرى ذات أهمية فائقة للنظام (الساحل وشمال حلب وسهل الغاب، أساساً)؛ إنْ لم يكن عن طريق ركام الوحدات النظامية والميليشيات الموالية، فعلى الأقلّ عن طريق مقاتلي «حزب الله» ومرتزقة الميليشيات المذهبية الإيرانية والعراقية والأفغانية وسواها. الحصيلة بدت هزيلة تماماً، بالقياس إلى الحجم الهائل من القوّة التدميرية التي استخدمتها موسكو؛ كما بدت، أيضاً، فاضحة بالمعنى العسكري الصرف، لأنها أظهرت الكثير من عيوب الجيش الروسي، التي لم يكن أبرزها سقوط الصواريخ، عابرة القارات إلى سوريا، في الباحة الإيرانية!
وفي المقابل، لم يكن لأيّ تطور داخلي حاسم على الباحة التركية أن يظلّ بمنأى عن ممارسة التأثير على الباحة السورية، إجمالاً؛ أو على جبهة حلب الشمالية، ومناطق سيطرة القوى الكردية، خصوصاً. وهكذا كان الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا قد أعاد خلط الأوراق على صعيد السياسة التركية تجاه الملف السوري، كما أعاد ترتيب أولويات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليس على صعيد حزب «العدالة والتنمية» فقط، بل كذلك في ما يخصّ حسابات الرئاسة الشخصية. صحيح أنّ الانقلاب زوّد أردوغان بذرائع شتى لتصفية خصومه المباشرين من أنصار فتح الله غولن، وتشديد القبضة الأمنية على مختلف جيوب المعارضة في المجتمع المدني؛ إلا أنّ الانقلاب استوجب إعادة التموضع في ملفات ثلاثة عاجلة: العلاقات التركية ـ الأمريكية، والتركية ـ الروسية، ثمّ ضرورة ترقية التدخل العسكري التركي في سوريا بما يكفل الذهاب بعمليات «درع الفرات» إلى المدى الأقصى الممكن، ضدّ مناطق انتشار الأكراد تحديداً.
وهكذا، أخذ المشهد يتغير بصدد العلاقات التركية ـ الأمريكية، خاصة بعد اتضاح صمت الولايات المتحدة الرسمي، طيلة ساعات سبقت إعلان فشل الانقلاب؛ ومسارعة السفارة الأمريكية في أنقرة إلى توصيف الانقلاب بـ»الانتفاضة»، ولجوء السلطات التركية إلى إجراء غير عادي، وخطير بالمعنى الأمني التقني، هو قطع الكهرباء عن قاعدة إنجرليك… كل هذه كانت مؤشرات تُضاف إلى مناخ التباعد الذي هيمن على العلاقات الأمريكية ـ التركية خلال الأشهر الأخيرة. فإذا لم تكن المخابرات المركزية هي التي خططت مباشرة للانقلاب (وهكذا يقول المنطق السليم، مبدئياً)، فإنّ صلاتها الوثيقة مع حركة غولن وضعت الكثير من علامات الاستفهام على دور، وربما أدوار، غير مباشرة في تشجيع الانقلاب أو تسهيله.
وهكذا، أيضاً، جاءت زيارة أردوغان إلى بطرسبورغ، لتعيد إحياء العلاقات التركية ـ الروسية التي اتسمت بالتفاهم والتوافق، وبعض التواطؤ أيضاً، طيلة فترات حكم بوتين وأردوغان. عناوين تلك الزيارة تضمنت وضع الخلافات جانباً بصدد الملف السوري، بما في ذلك قراءة العاصمتين لطرائق محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وإغلاق أو ضبط الحدود التركية ـ السورية، ومستقبل بشار الأسد خلال المرحلة الانتقالية، ودعم موسكو لأكراد سوريا، وأوضاع التركمان شمال اللاذقية على مرأى من قاعدة حميميم… كذلك أتاح اللقاء لموسكو أن تعيد النظر إيجابياً في مشروعات نقل الغاز عبر تركيا وبلغاريا؛ وهذه أشغال دسمة تماماً اقتصادياً، وهي قيمة جيو ـ سياسية عابرة للقارات أيضاً. وقد يكون الأهمّ هنا، سورياً، هو نجاح أردوغان في إقناع بوتين بغضّ النظر عن توسيع عمليات «درع الفرات» في العمق السوري، حتى بلدة الباب؛ وأمّا الثمن المقابل، الذي قد تكون موسكو طلبت دفعه مؤجلاً، هو ما ستشهده حلب الشرقية من انفراط فصائل المعارضة المسلحة أمام تحالف النظام و»حزب الله» و»الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات الشيعية العراقية، فضلاً عن الطيران الحربي الروسي.
وفي قلب شبكات الشدّ والجذب الإقليمية والدولية التي صنعت المشهد السوري خلال العام 2016، كانت الفصائل الإسلامية، وبعض فصائل الجيش الحرّ، قد جرّبت فكّ الحصار عن مناطق حلب الخاضعة لسيطرة النظام، أو الواقعة تحت حصار حلفائه؛ ونجحت، بالفعل، على نحو بدا دراماتيكياً ومفاجئاً للوهلة الأولى. ولأنّ السبب الجوهري الأول كان يتمثل في الحال العسكرية المزرية التي تعيشها قوات النظام، في محيط حلب والمدارس العسكرية، وليس بأس الفصائل أو حسن أدائها وجودة عدّتها؛ فإنّ المشهد سرعان ما انقلب رأساً على عقب، ليس جراء القصف الجوي الروسي المكثف وحده، بل كذلك لأنّ القوى الحليفة للنظام كانت أفضل عتاداً وعدّة، وأكثر ذكاء في استغلال تشرذم الفصائل وانقساماتها.
عام كارثي آخر، إذن، لم تكن تنقصه سوى رهانات «المعارضة الرسمية»، ممثلة في الائتلاف أو هيئة التفاوض، على سلّة «أصدقاء سوريا» التي أخذت تفرغ شيئاً فشيئاً، حتى باتت خاوية؛ وتعليق الآمال على مجيء هيلاري كلنتون، بدل دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض؛ والارتهان، أكثر فأكثر، إلى إرادات خارجية تكفلت خمس سنوات من عمر هذه الانتفاضة الشعبية بفضح عجزها، إذا لم يتحدث المرء عن تواطؤها، إزاء سيرورات الحرب المفتوحة، متعددة الأطراف والأجندات، ضدّ الشعب السوري.
لكنه عام كارثي آخر ينضمّ، أيضاً، إلى ما تبقى من أشلاء نظام تابع، لم يعد أسير القوى الخارجية التي تؤجل سقوطه حيناً بعد حين، فحسب؛ بل حوّل انتفاضة الشعب السوري إلى حرب تحرير ضدّ الاستبداد والغزو الخارجي، معاً، سواء بسواء.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

“القدس العربي”