ما الذي تسعى روسيا حقيقة لتحقيقه من خلال اختراع «مناطق تخفيف الصراع» وماهي الأسباب والمسوغات وراء هذا التحول الروسي الذي طالما وقفت موسكو بشدة امام أي طرح مماثل من قبل تركيا او أمريكا في ما سبق.
لو بحثنا في الظروف والمناخ السياسي الذي دفع الروس إلى هذه الخطوة لابد لنا من الاصغاء بتمعن إلى اعلان تصريح ترامب بانه قام بتغيير موقفه من تنظيم بشار الأسد، ووصفه بـ»الحيوان وانه ضار للبشرية».
على المقلب الآخر اعلن الرئيس التركي في عديد المناسبات ان القوات التركية في صدد الاعداد لعملية عسكرية في سوريا ضد التنظيمات الإرهابية «الكًردية» التي تهدد امنها على غرار ما قامت به خلال «درع الفرات» التي اجبرها التوافق الأمريكي الروسي على وقفها.
أما على الصعيد الدولي وخاصة بريطانيا التي أعلن وزير خارجيتها «جونسون» ان بلاده مستعدة لدعم عملية عسكرية تقودها بلاده لمعاقبة الأسد.
فرنسا من جانبها قالت استخباراتها في تقارير رسمية إن تنظيم الأسد هو من يتحمل المسؤولية عن مجزرة خان شيخون الكيميائية.
كذلك فعلت منظمة «هيومن رايتس ووتش» التي أعلنت توصلها نتيجة تحقيقات ان تنظيم الأسد هو من يتحمل المسؤولية عن مجزرة الخان.
وقبل هذا كله كان الرئيس ترامب قد طرح إقامة مناطق آمنة في سوريا ولقي هذا المقترح دعما عربيا واقليمياً «تركيا» ودولياً.
لنعود لجلسة مجلس الأمن حول مشروع ادانة تنظيم الأسد على خلفية استخدام غاز الاعصاب السارين في خان شيخون، هل تتذكرون التلاسن بين المندوب الروسي والبريطاني، وكيف كانت روسيا في تلك الجلسة موضع الشك والاتهام ووجدت نفسها دولة منبوذة دولياً، بل وجهت لها الاتهامات بشكل مباشر بارتكاب جرائم حرب في سوريا وبدأ الحديث عن محاكمة روسيا على جرائمها في سوريا بينما كانت المواقف السابقة ترجو وتناشد روسيا لتغيير موقفها من تنظيم الأسد.
هذه الأجواء التي سبقت الانقلاب الروسي على موضوع إقامة مناطق آمنة في سوريا.
قد يطرح احدهم تساؤلا يقول فيه وما هي مكاسب موسكو من وراء هذا التحول من ضد إلى تبني مناطق آمنة أو منخفضة التصعيد في سوريا.
بكل تأكيد نحن نحتاج لوقف إطلاق النار لكن من أجل البدء في عملية سياسية انتقالية هذا ما نريده، ولا نريد وقف اطلاق نار بهدف تثبت مواقع أمراء حرب والتحالف مع تنظيم الأسد لمحاربة تنظيم الدولة وجبهة فتح الشام، كما تريد موسكو.
هل نحن في حاجة لمناطق آمنة وحظر طيران، للوهلة الأولى نقول نعم دون تردد ولكن لو نظرنا نظرة استراتيجية لموضوع المناطق الآمنة سنكتشف أنها ليست مناطق آمنة بل معتقلات نازية تهدف لوقف تدفق اللاجئين إلى الغرب وستكون بؤرة لتفريخ الإرهاب وتجارة المخدرات والأعضاء البشرية، نتيجة عدم وجود سلطة شرعية تستطيع فرض أي قانون او سلام مستدام على ارض الواقع.
يمكننا الذهاب بعيداً بالقول إن موسكو استطاعت من خلال اختراعها «تخفيف الصراع» تحقيق ما عجزت عنه عبر سنوات دعمها لتنظيم الأسد سياسيا وعسكرياً.
موسكو لم تتحدث عن تخفيف التصعيد فقط بل تابعت، ندعو جميع القوات لمحاربة الإرهاب ودعم «الحكومة» السورية في سبيل ذلك وطلبت من الفصائل المسلحة دعم هذه العملية ويبدو أن هنالك من الفصائل من هو مستعد للمشاركة الجديدة في هذا الأمر بغرض عدم المطالبة بتصنيفها على قوائم الإرهاب الروسية، وربما السماح بإدخال قوافل مساعدات إلى دوما كان الجزرة التي قدمت لبعض الفصائل للموافقة على اتفاق وقف التصعيد وقد لاحظ الجميع تغيب رئيس وفد الفصائل «محمد علوش» عن المؤتمر الصحافي الذي عقده بعض أعضاء وفد الفصائل وكان المتحدث الرئيس فيه اسامة أبو زيد «المستقيل « كما لاحظ جميع من تابع لحظة توقيع اتفاق استانة لتخفيف التصعيد وليس لوقف اطلاق النار او مناطق آمنة، كيف انسحب اربع أعضاء من الوفد بينما استمر الآخرون في الحضور وربما التصفيق، في مشهد يعيد للأذهان مغادرة رئيس الوزراء التركي حينها اردوغان، دافوس غاضبا بعد مشادة كلامية مع رئيس الكيان الصهيوني بينما ظل الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى جالساً في مكانه يمارس التصفيق.
حينها قال اردوغان لجمهور المصفقين في القاعة.»من المحزن جدا أن يصفق أشخاص لموت الكثيرين»، نحن اليوم نقول من المحزن ان يصفق البعض للروس ويبارك مخططاتهم المتوحشة ويحاول تبييض صفحة جرائمهم وربما التحالف معهم.
بالعودة للمخطط الروسي وابعاده وأهدافه نجد انفسنا امام علم يقين.
استطاعت موسكو من خلال هذا المنتج التضليلي إفراغ المطالبة في إقامة مناطق آمنة في سوريا بقرار من مجلس الأمن وإفراغ ما طرحه الرئيس ترامب حول هذا الموضوع وماسبقته اليه الحكومة التركية.
استطاعت موسكو ايضاً امتصاص الحنق الدولي المتصاعد تجاه تنظيم الأسد والحديث بصوت عال عن ضرورة رحيل بشارالأسد، كأساس للحل المستدام العادل. بالمقام نفسه التفت على تصاعد النبرة الامريكية اتجاه الأسد التي تجسدت فعلا بقصف مطار الشعيرات المحتل روسيا ايرانياً.
أيها السادة روسيا تجيد لعب الأدوار القذرة التي تفضل ممارستها او التي تناط بها دوليا وأصبحت تشكل ملاذا آمنا لكل فاشي متوحش ثار ضده الشعب.
بكل وضوح روسيا افرغت كل المبادرات الدولية الرامية إلى التحول السياسي في سوريا بعيدا عن تنظيم الأسد وجففت حدة النبرة الامريكية والدولية ضد تنظيم الأسد، ومن خلال مباركة الأمم المتحدة للمنتج الروسي «تخفيف التصعيد» والتصريحات الصادرة عن موسكو أن مناطق تخفيف الصراع لن يسمح بطيران فوقها حتى امام طائرات التحالف الدولي تكون روسيا ضمنت إلى حد بعيد جدا عدم إمكانية استهداف مواقع تنظيم الأسد دولياً او محلياً.
كما انها تركت الباب موارباً لها ولتنظيم الأسد لاستخدام العقاب والقصف حسب مقتضيات المصلحة فهي تقول تخفيف التصعيد وليس وقفه نهائياً وبالمناسبة هذا إقرار رسمي من الروس أن وقف إطلاق النار لم يحترم من قبلهم ومن قبل حليفهم تنظيم الأسد ومرتزقته الإيرانيين.
وبالمقام نفسه يسمح المنتج الروسي لتنظيم الأسد دون عائق بنقل قواته لمحاربة ما يسمونه الإرهاب في الرقة ودير الزور بالتعاون مع الطائرات الروسية بصفته حكومة شرعية تقاتل إرهابيين او متمردين بالتأكيد المناطق التي ستدمرها الطائرات الروسية وتحتلها ميليشيا الأسد ستزيد من مساحة الأرض التي يسيطر عليها وتعيد انتاجه كشريك في محاربة الإرهاب وبصفته القوة الحقيقية والرسمية في أي تفاوض وبعد الانتهاء مما يسمونه حرب تنظيم الدولة سيتفرغ تنظيم الأسد لمحاربة من استطاع أن يصمد في صراع الاخوة الأعداء «الفصائل» فيما بينهم وقد تناقل ناشطون أنباء تحدثت عن نية كل من فصيل أحرار الشام وهيئة تحرير الشام الهجوم على كافة مقرات فيلق الشام شمال سوريا بهدف القضاء على ثالث أكبر فصيل ثوري في المنطقة، فضلا عن «صراع التيوس» في غوطة دمشق.
أيها السادة بهذه الطريقة استطاعت موسكو أن تلعب الدور نفسه القذر الذي لعبته إبان مجزرة الكيميائي 21 آب/ أغسطس 2013 بنفس المنطق القذر استطاعت انقاذ تنظيم الأسد حينها واليوم تكرر الدور نفسه والقذارة نفسها.
ولسان حال بوتين يقول اذا كان ترامب مستعدا لمقابلة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون «في ظل الظروف المناسبة».
فمن باب أولى أن يلتقي بشار الأسد المحارب للإرهاب بعد ان تنتج موسكو الظرف المناسب.

كاتب وباحث سوري