كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

في سنة 1973 أصدر زكريا تامر، القاصّ السوري الرائد، مجموعته «دمشق الحرائق»؛ التي كانت الثالثة بعد «صهيل الجواد الأبيض»، 1960؛ و«الرعد»، 1970. احتوت المجموعة على 30 قصة قصيرة، متوسطة الطول إجمالاً، وتواصل ما كان تامر قد اختطه لنفسه من أسلوبيات خاصة في كتابة هذا الفنّ الشاقّ؛ ابتداءً من العناوين التي بدت لافتة في زمنها («يا أيها الكرز المنسي»، «التراب لنا وللطيور السماء»، «أرض صلبة صغيرة»، «موت الشعر الأسود»، «شمس للصغار»… على سبيل الأمثلة). خصائص أخرى تمثلت في شحن البرهة البشرية، أكانت واقعية أم رمزية أم سيريالية، بمزيج من الكابوس المألوف أو العجائبي، وموضوعات العيش الفعلي والوجود المتخيَّل، على نحو يدحر خطوط الفصل بين التوثيق والتخييل؛ كما تمثلت في استخدام لغة عالية المزاج، شعرية وشاعرية تدني السرد من روحية قصيدة النثر، لكنها لا تتنازل عن حرارة القاموس اليوميّ، بل تُحسن توظيفه أو تسخيره حين تقتضي المعادلة الفنية.
وفي مناسبات سابقة، كان آخرها نصّ باللغة الإنكليزية ضمن دراسات العدد الخاصّ الذي كرّسته «بانيبال» لتكريم تامر؛ أشرت إلى أنّ هذه الحصيلة الأسلوبية ميّزت تامر عن أساتذة كبار من كتّاب القصة القصيرة السورية، أواخر الخمسينيات وحتى منتصف السبعينيات؛ أمثال عبد السلام العجيلي، ألفت الإدلبي، عبد الله عبد، جورج سالم، سعيد حورانية، حسيب كيالي… الجدير بالإشارة، في هذا السياق تحديداً، أنّ قصة تامر كانت ــ في مستوى النثر، كوسيط تعبيري حداثي ــ خير حليف لقصيدة النثر العربية يومذاك، ضمن تيارات مجلة «شعر» خاصة (ولم يكن غريباً أن تبادر المجلة إلى نشر مجموعة تامر الأولى، بحماس بالغ من يوسف الخال)، ثمّ قصيدة محمد الماغوط على وجه أخصّ. كذلك، من جانب آخر، توجّب أن ينشقّ تامر عن المواضعات الراسخة في فنون كتابة القصة القصيرة العربية، كما وضعها كبار من أمثال نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس وتوفيق يوسف عواد؛ في الخصائص الأسلوبية سالفة الذكر أوّلاً، ثمّ في المزج بين الواقعية والرمزية في استعادة التاريخ والتراث ثانياً.
وفي قصة بعنوان «البدوي»، من مجموعة «دمشق الحرائق» يقرر يوسف السير وراء جنازة عابرة لا يعرف عنها شيئاً، إذْ «لم يكن لديه ما يفعله». غير أنّ مشاركته، العبثية في دافعها الأوّل، سرعان ما تتفرع إلى سلسلة من الدوافع المركزية، الممتدة كشريط طويل يلتف حول المحاور الأساسية لحركة القصة، لينتهي إلى إشكالية إنسانية مركزية تتجمع عندها الأفعال والاحلام والتداعيات والمصاحبات. إنها تبدأ بوقوف يوسف بين الأضرحة البيضاء، تحت شمس صفراء وسماء زرقاء، بمتابعته المحايدة لدفن الميتة (ونعرف من صيحات النساء أنها ليلى)، التي «وافتها المنية، وهي لا تزال في مقتبل العمر، وتوارت قبل أن تعرف مسرات الدنيا»؛ لينتهي الموقف المحايد بانتهاء مراسم الدفن، ويبدأ الطور الأول من تماس يوسف مع تنويعات متخيّلة لموت داخلي «أبصره، وحملق إليه بشراهة وغيظ».
في المدينة، لاحقاً، تنتظره الحياة بكائناتها وأماكنها، فيستلقي قرب النهر متثائباً ومنتظراً أن يهرم ويموت؛ ثمّ يعود إلى مسكنه، حيث يتخيّل القبو قبراً، فيغازل سميرة بنت مالك البناية، وتراوده الأحلام، ويحقد على الآلات في العمل. وحين يخرج مجدداً إلى العراء، في الشارع ونحو المقهى العمالي، يستيقظ في أعماقه «بدوي جلف، مشعث الشعر، يملك خنجراً مقوس النصل، ويملك خيمة في صحراء مجدبة، ولا يملك امرأة، وها هو ذا الآن ينحدر إلى المدينة تقوده رغبة هوجاء في بيع عينيه من أجل ضحكة امرأة»… وفي الختام، وبعد تطواف حافل بين طبقات شتى في باطن المدينة، يمشي يوسف بين البيوت الطينية، فيداهمه إحساس بأنه «يستنشق بعد مرض طويل هواءً حقيقياً ممتزجاً بضياء الشمس، وبدا الأمس مجرد حلم أسود بدّده الصباح». وهكذا يترك البدوي تمثالاً جاثماً في القبو، ويقرر العودة إلى بيت أهله القديم حيث ولد.
يبقى العالم الخارجي بالطبع، أو يُبقيه تامر، نابضاً بالحياة والموت معاً، حافلاً بطبقات ونماذج بشرية ومشكلات عيش ومآزق وجود، وفي حال اشتباك دائم بين المأساة والملهاة. وإذْ يلتقط تامر هذه المشهدية الزاخرة بأدوات القاصّ المعلّم، فإنه يلجأ إلى توزيع محمولات القول، وبعضها إيديولوجي الدلالة بالطبع، على وحدات الحركة في القصة، فيقيم توازناً كميّاً في عدد كلمات مشاهد السرد، هو أقرب إلى التوازن الخفي الذي يتقاسم الاستحواذ على حساسية القارئ مع العمليات الفنية الأخرى: مشهد الجنازة، 426 كلمة؛ الشوارع، 120، القبو، 2900؛ الحوار المباشر، 335، الحلم الأول، 150؛ الشوارع، 115؛ القبو، مجدداً، 265؛ المقهى العمالي، 324، الشوارع، مجدداً، 228؛ القبو ثالثاً (وضمنه الحلم الثاني)، 340؛ الفندق (وضمنه الحلم الثالث)، 358…
وهذه، إذن، واحدة من ذرى «دمشق الحرائق»، المجموعة التي بلغت سنّ الخامسة والأربعين هذا العام، والنيران التي أشعلتها 30 قصة على مستوى التخيّل يتواصل أوارها فيجبّ الواقعُ الخيالَ. وهكذا، لا يعدم المرء يوسف العظمة، بطل قصة «الاستغاثة»، تائهاً في شوارع دمشق، ذاهلاً ومغترباً وملاحَقاً من أجهزة النظام؛ أو… شهيداً، مجدداً!