كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي
Jun 03, 2017

لعلّ قراءة مشهد الإرهاب الدامي الذي يخلّفه تنظيم «داعش» في مصر منذ ثلاث سنوات ونيف، خاصة من حيث استهداف أفراد الجيش المصري في شمال سيناء، والأقباط في مدن كبرى وبلدات وقرى مختلفة؛ تستوجب الذهاب أبعد، وأعمق، من مجرّد استعراض الأسباب المألوفة خلف الانقضاض الداعشي على أرض الكنانة. وفي هذا، فإنّ التلمّس الصائب، والشامل ما أمكن، لجذور التوجهات الراهنة للتنظيم، يقتضي ربط العمليات الإرهابية ذاتها بتغطياتها العقائدية كما يبشّر بها دعاة «داعش» ومرجعيات التنظيم ومنظّروه.
هنالك، على سبيل المثال الأوّل، وثيقة بعنوان «سرّ الأحجية المصرية»، كتبها أبو مودود الهرماسي، وتعود إلى عام 2014، وكشف النقاب عنها موقع «24» الإماراتي؛ تقترح سلسلة تكتيكات وطرائق عمل وخيارات ميدانية، لتحقيق غاية كبرى هي «فتح القاهرة» و«فتح مصر». وتشير الوثيقة إلى أنّ مصر «ستظل محور اهتمامات القاصي والداني، الشرقي والغربي، فهي رمانة ميزان الاستقرار للغرب الكافر ببلاد المسلمين ومنطلق فوضى الانهيار العالمي؛ لذلك هي أم الدنيا فعند استقرارها تستقر الدنيا وعند انشطارها تنشطر الدنيا وهنا تكمن أحجية الساسة والعامة من مثقفين وسياسيين ومنظرين».
وأمّا الخطوة «الأهمّ»، وفق الهرماسي، فإنها «استهداف كل النصارى مباشرة بلا استثناء، فجلهم أصبحوا محاربين للإسلام وأهله؛ ولعل فطنة المجاهدين بأهمية إثارة الطائفية التي يهددنا بها الغرب ومؤسسات الأجهزة المرتدة العميلة، بل والنصارى أنفسهم، لها ثمرة بالغة في إظهار حقيقة الصراع واستثارة عواطف المسلمين الكامنة تجاه عقيدتهم». وتضرب الوثيقة مثلاً من العراق («فما استنفر للجهاد بالعراق إلا بعد دخول الأمريكان واستأنف بقوة إلا بعد تغلب الروافض الكفرة على السلطة وتعديهم على السنّة من أهلنا»)؛ ثمّ من سوريا («ما قدره الله بالشام بعد أن ركد عن الجهاد مدة قرن من الزمان أحياه الله بغباء النصيرية الذين اشعلوها بأنفسهم مع أهلينا من السنّة بالتعذيب والاغتصاب والقتل والهدم»)؛ وأخيراً من اليمن («المظلوم الذي ظل المجاهدين [كذا] فيه محاربين من كل النواحي إلى أن أعمى الله الحوثيين الروافض ليعيثوا فيها فساداً»).
واضح، استناداً إلى هذا التنظير، أنّ تكتيكات عمل «داعش» في مصر لا تقتصر على الجهاد المحلي بطرائقه المختلفة (إشعال الحرب الطائفية، استهداف الأقباط والكنائس أسوة بعناصر الجيش والجامعات الأجنبية، واختراق المواقع الإلكترونية، وتسميم مواسير المياه المتوجهة إلى معسكرات الجيش، والنشاط التحريضي في المناطق القبلية والصعيد عموماً وفي المنيا بصفة خاصة، واغتيال «أئمة الكفر»، و«تطفيش» الاستثمارات الأجنبية والعربية، و«إنهاك منظومة المال باستهداف مباني البورصة والبنوك وإضعاف الجنيه»…)، فحسب؛ بل تربط هذا المشهد، في شموليته، بالمشهد الأعلى والأعمّ الذي يخصّ جهاد الخلافة في مواقع عربية أخرى ويشدد خصيصاً على بُعد التفرقة الطائفية والمذهبية.
وإذْ يأمل المرء في أن تكون مراهنة الهرماسي على إشعال الفتنة الطائفية خاسرة، أو غير قابلة للتحقق على النحو المفزع الذي ينتظره؛ فإنّ أوضاع مصر الإجمالية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وسلوك نظام عبد الفتاح السيسي، تجاه معيشة المواطن وسياسة الأسعار وتدني القدرة الشرائية وانحطاط العملة الوطنية وخنق الحريات العامة… لا تبشّر بالخير في قدرة النظام على قطع الطريق أمام مخططات «داعش» الأخطر والأعرض والأوسع نطاقاً؛ قياساً، أيضاً، على عجز النظام عن تعطيل العمليات الإرهابية الدامية التي تواصل استهداف الأقباط وعناصر الجيش.
وبذلك فإنّ تفكيك أحجية «داعش» المصرية، قبل أحجية مصر ذاتها، يقتضي النظر في واقع نظام السيسي، والآثار المدمرة المتعاقبة للانقلاب العسكري الذي جاء به إلى سدّة الحكم، وبؤس أداء السلطة إزاء مختلف الضرورات الوطنية، وليس تلك الأمنية وحدها؛ كما يتطلب، استطراداً، ربط مخاطر اهتراء اللحمة الوطنية، بمسببات صعود التطرّف الجهادي، في الجذور أوّلاً وليس على السطوح وحدها.