كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

حين صوتت الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، ولاح أنّ منطق الدولتين لا محيد عنه؛ سارع قادة الصهيونية العالمية، وعلى رأسهم دافيد بن غوريون، إلى قبول الخطة رغم أنّ «الدولة» التي اقترحها القرار كانت أقلّ بكثير من اشدّ أحلامهم تواضعاً. ولقد عوّلوا، يومذاك، على أنّ مفتي القدس، الحاج أمين الحسيني، سوف يرفض خطة التقسيم، وبالتالي سوف يُحمّل عبء مواجهة «المجتمع الدولي».
وفي سنة 1977، حين وصل حزب الليكود إلى السلطة، كان رفض التقسيم في طليعة القرارات «الكبرى» التي اتُخذت على الفور، ومعه ارتفعت دعوات ضمّ الضفة الغربية إلى «إسرائيل الكبرى». وحين عقدت إدارة جورج بوش الأب مؤتمر مدريد (تحت ضغط مناخات «عاصفة الصحراء»، ومبدأ «الربط بين الاحتلالات» الذي أعلنه صدّام حسين)؛ توجّب على جيمس بيكر، وزير الخارجية الأمريكي يومها، أن يذكّر الإسرائيليين برقم هاتف الوزارة في واشنطن… إذا ارتأوا الانخراط في العملية السلمية.
لكنّ الدولة الغاصبة، التي زرعتها قوى عظمى في المنطقة بقوّة السلاح، هي نفسها الدولة التي تدير ظهرها لاتفاقات ومواثيق رعتها واحتفلت بالتوقيع عليها القوى العظمى ذاتها. وهي دولة لا تطيق عتاباً من حليف، فكيف بنقد أو ملامة أو ضغط: إسرائيل ليست جمهورية موز، قال أرييل شارون في توبيخ الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، أحد أكثر رؤساء أمريكا انحيازاً إلى الدولة العبرية؛ وإسرائيل ليست تشيكوسلوفاكيا، كما قال شارون نفسه في توبيخ جورج بوش الابن. وإسرائيل، تابع جنرال اجتياح لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، ليست معنيّة بحاجة البيت الأبيض إلى عمليات الضحك على لحي العرب ودغدغة مخاوفهم (قبيل اجتياح العراق)؛ وإنّ تنظيف جنرال ـ دكتاتور مثل الرئيس الباكستاني برويز مشرّف، أمرٌ لا يبرّر أبداً غسل ياسر عرفات من صفة «أسامة بن لادن إسرائيل».
هذا غيض من فيض إسرائيل، وأمّا على الجانب الأمريكي، وخلال العقود المعاصرة وحدها؛ ظل حلّ الدولتين يراوح في المكان تارة، وتارة أخرى يتقدّم خطوة إلى الأمام، لكي يتراجع ثلاث خطوات! ومن الرئيس الأمريكي بوش الأب، إلى خَلَفه بيل كلنتون، ثمّ بوش الابن، وخَلَفه باراك أوباما، لكي نضع جانباً ريشارد نكسون وجيمي كارتر ورونالد ريغان؛ ومن واشنطن إلى كامب دافيد ومدريد وأوسلو، ومن واي بلانتيشن وشرم الشيخ إلى طابا وأنابوليس… ظلّ إنزال القمر إلى الأرض (كما في عبارة ياسر عرفات الشهيرة: «نحن لا نطلب القمر»)، أسهل منالاً من زحزحة إسرائيل قيد أنملة في مسائل تعريف الدولة العبرية لأمنها، وتفسيرها لمفهوم المستوطنة، وقراءتها لحقّ العودة، وتحديدها لجغرافية مدينة القدس بوصفها «عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة».
وفي الأساس، حين لا يراوح في المكان، أو يتقدّم ليتراجع أكثر؛ كان حلّ الدولتين بمثابة الـ»جوكر» في تسعة أعشار الحلول السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً، والفلسطيني ـ الإسرائيلي خصوصاً؛ مع فارق أنّ هذه الورقة ليست محض لافتة للزخرف والمناورة والاستغفال، فحسب؛ بل هي عملياً فاقدة الفاعلية، مائعة الوظيفة، وغامضة المحتوى. أكثر من هذا وذاك، مضى زمن فقد فيه الحلّ صفته الثنائية ذاتها، وصار «حلّ الدول الثلاث»، حين طُرح الأردن لإدارة الضفة الغربية، ومصر لإدارة قطاع غزّة!
وسواء كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جاداً في تخلّي إدارته عن «حلّ الدولتين»، أم كان قد انخرط في واحدة من شطحاته الكثيرة، التي من قبيل كلام ليل يمحوه النهار التالي؛ فإنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، حتى دون الإعلان صراحة، منخرط في هذا الخيار منذ عقود، وربما منذ انتمائه إلى الليكود. وبذلك فإنّ قمر عرفات، الذي في الأعالي، يظلّ أسهل منالاً من دولة فلسطينية، سيّدة مستقلة!

القدس العربي