حيث ثمة دولة متمكنة في المجال العربي أقصي الإسلاميون من السياسة. لكن هذا الواقع المستمر منذ نصف قرن وأزيد يحجب مسألة بدأت تظهر بوضوح بعد الثورات العربية، وبخاصة في المختبر السوري: هل يطلب الإسلاميون السياسة؟ هل يريدون أن يكونوا منظمات سياسية مثل غيرهم تعمل في إطار تعددي؟ ما ظهر بعد الثورات هو أن ما يطلبه الإسلاميون هو السيادة وليس السياسة، أعني الولاية العامة (بعد تعريف العام بأنه إسلامي) والتحكم بأدوات العنف. يشكو الإسلاميون بحق مما تعرضوا له من تمييز وتعذيب ومجازر، لكنهم لا يريدون أن يكونوا أحزاباً أو منظمات إلى جانب أحزاب ومنظمات أخرى في دولة تنفي التمييز والتعذيب والمجازر: يريدون أن يكونوا الدولة. وهو ما يعني ببساطة أن الإسلاميين لا يقبلون المساواة حتى وهم يعترضون على التمييز ويتطلعون إلى التغيير. قد يكونون قوة احتجاج فعالة، لكنهم سلطة سياسية خطرة، بل مميتة، مثلما شهدنا في سوريا منذ عام 2013. العنصر الاحتجاجي تحطم نسقياً في مواطن سلطة الإسلاميين، و»عوام المسلمين» عانوا من حكمهم أكثر من غيرهم.
طلب السيادة ظاهر في حالة التشكيلات السلفية الجهادية التي يتمحور تفكيرها حول مفهوم الحاكمية الإلهية، لكن الطلب ذاته يبطن تطلعات الإسلاميين السياسيين الذين يتمحور تفكيرهم السياسي حول تطبيق الشريعة. يريد الإسلاميون ولاية عامة للشريعة، أي تطبيقها على غيرهم وعلى الجميع. يريدون أيضاً لأنفسهم نفاذاً إلى وسائل الإكراه لأن تطبيق الشريعة على العموم لا يتحقق دون ذلك، ولأن طلب الشريعة طوعياً من العموم ممتنع.
من المحتمل أن الأساس في طلب السيادة (أي الدولة) هو التكوين الامبراطوري لإسلام الإسلاميين، المستبطن في الشريعة. الشريعة تشكلت في إطار امبراطوري يقوم على السيادة الإسلامية، أي على علو وسؤدد رموز الإسلام وعلاماته، دون أن يعني ذلك بحال رفاه المسلمين أو العدالة لهم وفيما بينهم. الإسلاميون ورثة الامبراطورية وليسوا ورثة تاريخ الإسلام الذي كان تاريخ التحول من دين الفاتحين إلى دين مجتمعات واسعة، في غيبة الدولة وبعيداً عنها، وضدها في أحيان كثيرة. وفي هذا التاريخ فاوض الناس إلزامات الشريعة، والتزموا بها بمقادير متفاوتة. الشريعة، كقانون ملزم تطبقه الدولة، اختراع حديث لم يسبق له وجود في تاريخ الإسلام، بما في ذلك في تاريخ الدول. كان المسلمون مسلمين، مالكين لدينهم ومراعين ما استطاعوا لآدابه وحرماته. في سوريا أظهرت الجماعات الجهادية، و»داعش» على نحو خاص، عداء عنيفاً لهذا الإسلام الشعبي الذي يمتلكه العموم، وافتتحت في مناطق سيطرتها دورات شرعية لأسلمة السكان. نزع ملكية الإسلام من المسلمين تحقق على يد الإسلاميين لا على يد غيرهم، وإن يكون استئنافاً لتملك الدولة للدين في دولنا المعاصرة.
قاد الطموح السيادي الإسلاميين إلى الاصطدام المتكرر بهذه الدول المعاصرة، وإلى مذابح وكوارث كبيرة فيما قد يمكن تسميتها حروب السيادة، أو حروب الدين والدولة. وطول جيلين كان يثبت هذا التطلع إلى امتلاك السيادة من قبل الإسلاميين كون دولنا المعاصرة مملوكة بالفعل ملكا فئوياً، لحزب أو لنخبة أو أسرة. السيد في سوريا ليس الشعب ولا الدستور ولا أية مؤسسات عامة، بل هو أسرة بعينها من ورث حافظ الأسد ابنه بشار حكم البلد (قبل ذلك كان حافظ هو السيد). الولاية العامة استأثرت بها هذه الأسرة التي تدهور العام ومقادير العموم في عقود حكمها؛ وعنف الدولة مورس لحماية الملك الخاص على نحو يسوغ كل التسويغ كسر احتكاره من قبل من يقع عليهم غرم العنف. كان كسر احتكار الدولة الأسدية لوسائل العنف بعد طور الثورة السلمي تحولاً ثورياً بكل معنى الكلمة، ولم يكن عنه بديل في مواجهة عنف الدولة الخاصة. واليوم تسير الأمور فيما يبدو باتجاه استعادة احتكار العنف لمصلحة الدولة الخاصة، وإعادة السوريين إلى العبودية السياسية بعد تحطم بلدهم.
على أن تجنب التكرار اللانهائي لحروب الدين والدولة يوجب التفكير بتسوية تاريخية، يتخلى بموجبها الإسلاميون عن السيادة مقابل السياسة، أي عن محاولة امتلاك الدولة مقابل أن يكون لهم إقامة منظماتهم السياسية المساوية لغيرها في دولة تعددية. وهو ما يوجب من وجه آخر تحول الدولة الخاصة إلى دولة عامة، لا تورث ولا تحكم إلى الأبد، ولا يستأثر بحكمها حزب أو نخبة أو أسرة. لا يستقيم أن تبقى الدولة دولة خاصة بينما يطالب الإسلاميون بالاكتفاء بالسياسة، أو حتى تنكر عليهم السياسة نفسها على ما يفضل إيديولوجيون فئويون، يتلطى بعضهم وراء العلمانية. بالمقابل، لا يستقيم أن تصير الدولة دولة عامة بينما يثابر الإسلاميون على التطلع إلى السيادة، في صيغة تطبيق الشريعة أو النص على امتيازات إسلامية في الدستور (دين الدولة، أو دين رئيس الدولة)، دع عنك في صيغة الحاكمية الإلهية. يكسب الإسلاميون من هذه التسوية الوجود كمنظمات سياسية علنية تنشط في المجال العام بأدواتها الخاصة، ونكسب كمجتمعات انتهاء الأزمة التاريخية التي تتفجر في شكل حروب على السيادة، وربما ندخل زمن السلم الذي يعم نفعه الجميع بعد طول تمزق وصراع.
من يخسر؟ يخسر الحاكميون الإلهيون حتماً، يخسر الحاكميون الدنيويون من مثل الأسرة الأسدية وأهل ولائها، وتخسر الدعوة العلمانية المزعومة إلى الفصل بين الدين والسياسة، كما يخسر تطلع أي «إسلاميين سياسيين» إلى موقع خاص لهم في الدولة العامة. تعدد الخاسرين ونفوذهم قد يحول دون ترجمة هذه التسوية التاريخية إلى مبادرة سياسية، لكن لا ينبغي لشيء أن يحول دون طرح القضية من باب تنظيم التفكير في شأن بالغ الخطر.
وعلى كل حال اليوم تفتقر سوريا إلى قيادات وازنة يمكن أن تكون سياستها هي التسوية التاريخية التي تطوي صفحة التفجر الدموي الذي دفع إليه البلد، تطويه بكرامة وبمستوى تاريخي، خلافاً لألاعيب جنيف وأستانة العقيمة.
يستجيب هذا الطرح بكيفية عادلة لمخاوف «الأقليات». هذه المخاوف مفهومة ما دام الإسلاميون يريدون السيادة، غير مكتفين بالسياسة. السيادة، إن تكلمنا بلغة فظة، تعني الحق في القتل وفي حكم الجميع، وهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولاً من جميع مختلفين. بالمقابل، لا وجه منصفاً لمطالبة الإسلاميين بالاكتفاء بالسياسة في بلد مثل سوريا دون نزع الملكية الخاصة للدولة من الأسرة الأسدية، وتحويل سوريا إلى دولة عامة.
ليس أمر هذه التسوية تنازلاً من طرف لغيره، بل تنازلات متبادلة يمكن أن يقوم عليها «العقد الاجتماعي» السوري الجديد. يحب الإسلاميون عبارة العقد الاجتماعي، لكنهم يريدونه عقداً يعطيهم السيادة، أي عملياً الحق في ألا يكونوا مساوين لغيرهم. مما يستأنس به على كل حال أن نظريات العقد الاجتماعي أخذت بالظهور في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوضاع أزمة تاريخية تشابه أوضاعنا اليوم في غرب أوروبا، وشهد ثورات وحروباً كحالنا اليوم أيضاً، انخرط فيها كذلك الدين والدولة (ظهر مفهوم السيادة في ذلك الوقت أيضاً). أرجح فيما يخصنا أن التفجر الجاري مستمر لعقد أو أجيال، وإن تنقل بين البلدان. قد يكون مسرحه القادم هو الخليج. التفكير على مستوى تاريخي يفرض نفسه كحاجة سياسية اليوم.
يمكن لتسوية تاريخية تقوم على السياسة مقابل السيادة ونزع الملكية الخاصة للدولة، أن تكون أيضاً أساساً لتطلع دولنا إلى المساواة على الصعيد العالمي. الدولة في بلداننا تأسست على يد الامبريالية الأوروبية المتمتعة وحدها بسلطان أو سيادة حقيقية. صحيح. وهذا واقع يتمرد عليه الإسلاميون بعنف، ويريدون تغييره. لكنهم يواجهون الامبريالية بتطلعهم الامبراطوري أو الامبريالي الخاص، فيدخلون في صدام متكرر كان باهظ الكلفة على مجتمعاتنا. صراع الإسلاميين ضد الامبريالية هو في حقيقته صراع امبريالية مقهورة ضد امبريالية قاهرة، وليس صراع مقهورين ضد الامبريالية من أجل المساواة. لكننا لا نستطيع أن نقاتل من أجل المساواة على المستوى الدولي بينما نحن نقاتل من أجل الحق في القهر في بلداننا. الشرط الأنسب للسياسة دولياً هو السياسة محلياً، ويُعول على التسوية التاريخية التي تدخل الإسلاميين في السياسة وتجعل من الدولة ملكية عامة أن تؤسس للسياسة في بلداننا. هذا يقتضي الإبداع والتفكير على غير مثال سبق، سواءً كان مثال الإسلاميين، أو مثال «الدولة الحديثة» التي يميل أكثرنا إلى جعلها إطاراً ملزماً وحصرياً لكل تفكير سياسي.
دولنا اليوم في أزمة مزمنة بحكم كونها منقوصة السيادة في المجال الدولي، لكن «الدولة الحديثة» في أزمة في كل مكان، ومبدأ السيادة الجامد حامل للأزمة والصراع والنزعات المحافظة والعدوانية لأنه في الجوهر مطالبة بالحق في أن لا تكون مساوياً للآخرين (السياسة بالمقابل هي مجال المساواة). ما يتوافق مع عالم أكثر عدالة ليس الصراع على السيادة مثلما يريد الإسلاميون، محلياً وفي العالم، بل الدخول في السياسة، محلياً وعالمياً، وصولاً إلى زوال مجال السيادة نهائياً. هذا ما من شأنه أن يكون قطعاً لرأس الملك في الفكر السياسي على ما أمل ميشال فوكو يوماً.