محمد عبدالرحيم

إن كان فعل الكذب يعد من الأفعال المستنكرة دوماً بين الناس، على الرغم من أنه أكثرها انتشاراً، إلا أنه في المجال السياسي لا يُنظر إليه من هذه الزاوية. فالساسة دوماً ورجال الحُكم يعتقدون أن دافعهم هو تحقيق المصلحة الوطنية، رغم أن ذلك لا يعني التصرف بحكمة في جميع الأحوال. فهناك الكثير من الأسباب تحمل القادة على الكذب على شعوبهم، وعلى الدول الأخرى. هذا المنطق العملي والبراغماتي يتجاوز دائماً القيود الأخلاقية المعروفة ضد الكذب. واللافت أن شعوبهم لا تعاقبهم بسبب خداعهم هذا، إلا إذا أدى فعلهم إلى نتائج وخيمة. فكل من القادة والشعوب توصلوا إلى أن الكذب يعد جزءا لا يتجزأ من السياسة. وقد سار العرف أن الكذب في السياسة كثيراً ما يكون مباحا، لهذا أدمنه الساسة. هكذا يحاول جون ميرشيمرــ أستاذ العلوم السياسية والمدير المشارك لبرنامج سياسة الأمن الدولي في جامعة شيكاغو ــ البحث عن حالات كذب السياسيين، وتداعيات ذلك على السياسة الدولية والشعوب التي تورطت في غفلة جرّاء هذه الأفعال.

قائمة الأكاذيب الدولية

وضع المؤلف قائمة بأشكال الأكاذيب الدولية التي يفتعلها الساسة لتحقيق أغراض عدة، نذكر منها على سبيل المثال، تعظيم قدرات دولهم بغرض ردع الخصم، مثلما حدث خلال الحرب الباردة،‮ ‬عندما ادعى الاتحاد السوفييتي إطلاقه قذائف صاروخية عابرة للقارات للمرة الأولى،‮ ‬كانت لمدى أكبر مما لدى الولايات المتحدة، ما جعل الأخيرة تستشعر حالة من الضعف الاستراتيجي، والحقيقة أن العكس هو الصحيح. أيضاً نشر الأكاذيب بغرض تهوين القدرات العسكرية،‮ ‬أو إخفاء سلاح بعينه‮.‬ والكاذب في هذه الحالة عادة ما يسعى إلى تجنب إثارة الرأي العام الدولي تفادياً لضربة قد تأتي على ما يملك من قدرات وإمكانات عسكرية، كالكذب الإسرائيلي على إدارة كيسنجر بشأن مفاعل ديمونة في ستينيات القرن الفائت. ثم محاولة التقليل من حدة الكراهية لأحد الخصوم بهدف تفادي هجمة محتملة‮، والمتمثل في ما ذهب إليه هتلر من ادعاء التزامه بالسلام في الفترة الممتدة من‮ ‬1933‮ ‬إلى‮ ‬‭‬1938‮. والتهديدات الفارغة التي تستهدف تغيير سلوك الدول الأخرى، وإن لم تقدم على ما ادعت،‮ ‬مثلما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية تجاه القذافي في آب/أغسطس ‬1986،‮ ‬عندما أعلنت نيتها توجيه ضربة عسكرية.‮ كذلك ‬عندما تشعر دولة أن الدول الحليفة لا تولي اهتماما لازما للدول المعادية لها، فإنها قد تنسج الأكاذيب حول قدرات تلك الدولة المعادية ونياتها لتجعل حلفاءها يستشعرون خطر الأخيرة‮ ــ ‬بوش وإدارته في‮ ‬2005، ‬عندما أثاروا حفيظة الصين واليابان ضد كوريا الشمالية ــ أو تسهيل التجسس وأعمال التدمير في وقت السلم،‮ وهو ما أقدمت عليه إسرائيل في ‬1954‮ ‬عندما حاولت إفساد العلاقات بين مصر من جانب والولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر. وأخيراً الكذب بهدف تحقيق أعلى عائد للدولة‮ ‬وتحسين وضعها في حالة التفاوض وإبرام المعاهدات، وهو ما فعلته اليونان حتى يمكنها الدخول في منطقة اليورو‮ ‬عندما كذبت بشأن حجم العجز في ميزانيتها.

سياسات الكذب الأمريكية

وإن كان الكتاب يركز أكثر على السلوك السياسي الأمريكي، إلا أنه من الممكن أن نستشف منه المثال الأعلى لهذه الحالات، وبالتالي رد الفعل المرتبط بهذه الأشكال الخداعية وتداعياتها. يبدو العراق المثال الأكثر وضوحاً لكذب السياسيين الأمريكيين، فأعضاء إدارة جورج بوش مهدوا طريقهم إلى العراق بالكذب، معتبرين أن «صدام قال الحقيقة حول قدراته من أسلحة الدمار الشامل قبل حرب العراق عام 2003 في حين أن كبار الشخصيات في إدارة بوش كذبوا بشأن ما كانوا يعلمون بشأن تلك الأسلحة». لتتواتر الأمثلة العديدة بعد ذلك، دون الاعتبار لتغيّر رئيس الدولة، فهو نهج عام تسير عليه الولايات المتحدة ولا تحيد عنه طوال تاريخها فقد ضلل ليندون جونسون على سبيل المثال الكونغرس بشأن هجوم مفترض على المدمرة الأمريكية في خليج تونكين حتى يتمكن من تأمين التفويض لحرب فيتنام. كما ضُبط أيزنهاور متلبسا بالكذب بشأن طلعات التجسس التي قامت بها «يو 2» في عام 1960 والتي بسببها تم الغاء القمة المزمعة مع خروتشوف وقتها.

التغطيات الاستراتيجية

تحت هذا العنوان نجد أن الساسة ورجال الحكومات ينتهجون الكذب، حتى يتمكنوا من مواصلة سياساتهم التي لا تحظى بشعبية مناسبة، وهم يرون أنها في سبيل الصالح العام، ذلك من وجهة نظرهم بالطبع. والأمثلة متعددة، فقد نفى جون كينيدي أنه وافق على سحب الصواريخ النووية الأمريكية من تركيا، مقابل موافقة الاتحاد السوفييتي على سحب الصواريخ من كوبا. وكان كينيدي حقيقة قد قام بهذه المقايضة، لكنه حفظها سراً، لأنه كان يعرف أنها سوف لن تحظى بشعبية لدى الناخبين في الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي. وفي ستينيات القرن الفائت منح اليابانيون الإذن للولايات المتحدة بأن ترسو سفنها حاملة السلاح النووي في الموانئ اليابانية، وقد أخفى اليابانيون الأمر، فلو أُعلن للشعب الياباني فسيثير الجدل والغضب، خاصة في بلد مناهض للأسلحة النووية. هذا النفي التام للاتفاقية ظل قرابة النصف قرن، وتم الإفصاح عنه في 11 آذار/مارس 2010، وقد أقرّت الحكومة اليابانية أن الإدارات السابقة كذبت على الشعب الياباني بشأن وجود أسلحة ذرية على أرضهم.

الكوميديا العربية

وفي ظل فعل الكذب والادعاء الاستراتيجي، تأتي الحالات العربية في شكلها الكوميدي المأسوي. وحالة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح خير مثال. فعندما دمرت صواريخ كروز الأمريكية معسكر تدريب لتنظيم القاعدة في 17 كانون الأول/ديسمبر 2009 أسرع صالح بادعاء تحمل المسؤولية عن الضربات، التي زعم أن حكومته وحدها هي التي خططت ونفذت. وكانت هذه كذبة، فالهجمات في حقيقتها أمر بها الرئيس السابق باراك أوباما، ونفذتها الولايات المتحدة. وما ادعاء صالح إلا لإخفاء حقيقة أن اليمن قد أطلق لواشنطن العنان لقتل الإرهابيين داخل الحدود اليمنية.

الأساطير القومية

«إن القومية هي تعطش إلى السلطة، يعززه خداع للذات. فالقومي قد يقوم بأفعال مُفرطة في عدم الأمانة، لكنه في الوقت نفسه يرى نفسه على حق، إذ يرى نفسه مدافعاً عن أمر أسمى منه». (جورج أورويل). ويبدو أن هذا الفصل ينطبق في الكثير منه على حالة ما يُسمى بالعالم العربي ونظمه السياسية الحاكمة. حتى ولو كانت الأمثلة الغربية هي الأساس. فكل من النخبة المثقفة والمتعلمين يقعون ضحايا لهذه الظاهرة، فينتهون إلى تصديق أكاذيبهم، والتي لا تصبح أكاذيب بعدها، بل تدخل في نطاق العقيدة السياسية، وعليها تُرسم سياسات الدول تجاه مواطنيها وجيرانها من الدول الأخرى، وأنها أحد الأسباب الرئيسية للحرب. ويذكر المؤلف صراحة حالة إسرائيل، كمثال صارخ للقومية «علينا أن نتذكر أن الصهيونية هي واقعياً القومية اليهودية. ولم يكن مُمكناً أن يأتي الصهاينة من جميع أنحاء أوروبا ليكوّنوا دولة يهودية في فلسطين، من دون أن يتعاملوا بعنف وقسوة تجاه هذا الشعب الذي كان يعيش في تلك البقعة من الأرض».

جون جي ميرشيمر: «لماذا يكذب القادة/حقيقة الكذب في السياسة الدولية؟»
ترجمة غانم النجار
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب/سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2016
152 صفحة.

“القدس العربي” الاسبوعي