كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

صبحي حديدي

في مناسبة تنصيب دونالد ترامب، اليوم، وتوليه رسمياً وقانونياً مهامّ الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة؛ يذكّرنا موريس بيرمان بأنّ لأمريكا سوابق في هذا المقام: قلّة محدودة من نطاسيي علوم السياسة اليانكية توقعت أن يُنتخب رجل مثل ريشارد نكسون، الذي انتُخب بالفعل وارتكب الفظائع في الداخل كما في ما وراء المحيط؛ وقلّة أخرى، محدودة بدورها، تنبأت بأن رونالد ريغان، ممثل الدرجة الثانية، لن يتربع في البيت الأبيض فحسب، بل سيطلق حرب النجوم أيضاً! وأمّا انتخاب ترامب، يتابع بيرمان، فإنه «اللهاث الأخير» لهذا البلد: السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية الرومانية أنتجت أباطرة كانوا بمثابة «نكات رديئة»، بمن فيهم الحمقى والصبية؛ وهذا ما وصلت إليه أمريكا مع الشخصية الكرتونية، ترامب، الذي سيترأس القوة الكونية الأعظم، بلا تجربة سياسية، ولا مواصفات إنسانية؛ والذي، في المقابل، يتوّج 400 سنة من «التناطح الخشن» بين حزب وآخر، و»عقيدة» جيو ـ سياسية وأخرى، ورئيس وسَلَفه/ خَلَفه؟
وبيرمان، للتذكير، مؤرّخ ثقافي أمريكي مرموق، صاحب الكتابَين الشهيرين «عصور الظلام في أمريكا: الطور الأخير من الإمبراطورية»، 2006؛ و»أفول الثقافة الأمريكية»، 2000؛ وكلا العملين أثار عواصف سجال ساخنة، لم تهدأ حتى اليوم، لأنها ببساطة ظلت تعيد إنتاج عناصرها على نحو أشدّ سخونة.
وحين صعد جورج بوش الابن، وانتُخب لولاية ثانية؛ اعتبر بيرمان أنّ الحضارة الأمريكية أخذت تحثّ الخطى من طور الأفول (الذي ناقشه في كتابه الأول)، إلى عصر الظلام الفعلي (الذي تكهن به في كتابه الثاني). وما ولعه بالإحالة على مصائر مشابهة واجهتها الإمبراطورية الرومانية، إلا إعادة تشديد على خلاصات المؤرّخ البريطاني البارز شارلز فريمان، في كتابه الرائد «إنغلاق الذهن الغربي». وهكذا، كتب بيرمان: «السيد بوش، يعلم الله، ليس القديس أوغسطين، ولكنّ الأخير كما يشير فريمان هو تجسيد سيرورة أعرض أخذت تتكامل في القرن الرابع، وتمثّلت في إخضاع العقل للإيمان والسلطة. وهذا ما نشهده اليوم في أمريكا، وهي سيرورة لا يمكن أن يعيشها مجتمع ويظلّ حرّاً».
وفي فصل فريد، بعنوان «محور السخط: إيران، العراق، إسرائيل»، دشّنه باقتباس شديد المغزى من السناتور والمؤرّخ الروماني الشهير كورنيليوس تاسيتوس: «يخلقون الأرض اليباب ويطلقون عليها تسمية السلام»؛ ساجل بيرمان بأنّ زلزال 11/9 كان نتيجة حتمية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصاً في فلسطين والعراق وإيران. منابع السخط هذه تشمل الانقلاب الأمريكي المدبّر في إيران (الذي عُرف باسم «عملية أجاكس» وأسقط رئيس الوزراء الشرعي محمد مصدّق سنة 1953)، والتدخّل الأمريكي في شؤون العراق منذ الستينيات وحتى التعاون العسكري والأمني مع نظام صدّام حسين أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية، وبينهما وقبلهما وبالتزامن معهما الانحياز الأمريكي المطلق لدولة إسرائيل.
والحال أنّ سيرورة انحلال الإمبراطورية الرومانية، وليس نظرية حلقات التصحيح الذاتي، هي التي تصلح لاستشراف مستقبل أمريكا المعاصرة. إنها قوّة عظمى تسير حثيثاً نحو الهاوية بسبب من عجوزات في التجارة لا يمكن ضبطها، وميزانيات مدينة على نحو خرافي لا سابقة له، وعملة آخذة في الاهتراء دولياً، و»هوية سلبية» تتغذى على الحرب ضدّ الأمم الضعيفة، وثقافة بلهاء تعيش على التلفزة والإعلام الضحل، والتعليم الفاشل أو التبسيطي في المدارس والجامعات، وجنون الاستهلاك، والصحافة الأسيرة، والحقوق المدنية الضائعة، ومجموعات الضغط التي تسيّر الكونغرس، ووزارة العدل التي تعيد كتابة القوانين الدستورية على هواها… ويستخلص بيرمان: «نحن مجتمع قدره محتوم لأنّ الجمهور ذاته لم يعد ناشطاً أو واعياً، وهو لا يكفّ عن إعادة انتخاب الأناس أنفسهم الذين يتولّون نسف الحرّيات»! أليس تنصيب رجل مثل ترامب ذروة جديدة في ما استبصره بيرمان قبل 17 سنة؟ أليس التعاقب العجيب، رغم تناقضاته الظاهرة، بين بارك أوباما وترامب، هو طراز من استئناف «قدر محتوم»؟
ولكن ماذا عن ديمقراطية الإمبراطورية ذاتها، بين ظهرانيها، بحقّ أبنائها، وفي قلب ركائز «الاستثناء الأمريكي» الشهير، دون سواه؟ قبل زمن ليس بالبعيد كان فيليب جيمس، أحد أبرز مخضرمي التخطيط الستراتيجي الأمريكي، قد أطلق صفة «الكابوس» على التسجيلات الهاتفية التي وافق جورج بوش الابن على إجرائها بحقّ عدد من المواطنين، ممّن ارتابت الإدارة في أنهم على صلة بمنظمة «القاعدة». «هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية»، تساءل جيمس، قبل أنّ يحدّد الشاكلة تلك: «دولة على غرار الأخ الأكبر»؛ في إشارة إلى النظام البوليسي السوفييتي كما تخيّله الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة «1984»، حيث «الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب»؟
هذا ـ في صياغة أخرى تأخذ بعين الإعتبار أننا نتحدّث عن الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة دستور 1789، وليس عن نظام استبداد وفساد وجمهورية وراثية دكتاتورية ـ انقلاب من استثنائية الحلم إلى… استثنائية الكابوس؛ أو، كما في تعبير جيمس نفسه: «عالم أورويلي، حيث المذكّرات الإدارية المدافعة عن التعذيب تُسطّر في وزارة العدل ذاتها، ويصبح القضاء مهنة فائضة عن الحاجة في الشأن العام»! وهل، في المقابل، ثمة حاجة للكثير من العناء كي يدرك المرء عواقب هذه الدولة الأورويلية على نطاق عالمي، أنّى اتجه المرء ما وراء المحيط؟
ألا تواصل الولايات المتحدة احتلال، وأداء، دور روما الإمبراطورية في العالم القديم؟ أفلا تنتهك القوانين داخل حدودها وضدّ مواطنيها بقدر ما تفعل ضدّ العالم (إنشاء سجون أمريكية غير شرعية في بعض البلدان الأوروبية، ونقل المعتقلين المختطفين في رحلات جوية سرّية عبر مطارات الديمقراطيات الغربية…)؛ لكي لا نتذكّر تلك الحقوق الكونية التي يرى قياصرة أمريكا أنّ من حقّ روما القرن الحادي والعشرين أن تتجاهلها تماماً (إعفاء الصناعة الأمريكية من التزامات بروتوكول كيوتو حول تخفيف غازات الاحتباس الحراري، على سبيل المثال)؟
وبالأمس فقط، في تقرير نشرته «أسوشيتد برس» تعليقاً على تنصيب ترامب، كتب دان بيري وبرادلي كلابر أنّ سوريا قد تكون أبكر ميادين تراجع أمريكا عن مبدأ إشاعة الديمقراطية ومساندة دولة القانون؛ بالنظر إلى ما أثاره ترامب من إمكانية الشراكة مع روسيا فلاديمير بوتين، والتلويح أيضاً باحتمال الاصطفاف مع نظام بشار الأسد في مسألة الكفاح ضدّ الإرهاب والعدو المشترك الذي تمثّله «داعش». ما يتغافل عنه كاتبا التقرير، مع ذلك، هو أنّ ذلك المبدأ كان زائفاً في الأصل، هكذا بدأ وهكذا يظلّ اليوم أيضاً؛ وأنّ ترامب لا يقوم بما هو أكثر من إعادة تدوير سياسة أوباما في سوريا، صراحة هذه المرّة، وليس مواربة!
وفي الخلاصة، هذا مشهد أمريكي يرثه اليوم الرئيس الخامس والأربعون، لكي يشارك في متابعة إنتاج أعرافه جمعاء، منطلقاً من قلب هذه الديمقراطية ذاتها التي أتاحت انتخابه على نقيض من مقولاتها التأسيسية تحديداً، وجعلت منه أمثولة الذروة بالقياس إلى سوابق مثل نكسون وريغان وبوش الابن.
وإذا جاز القول إنّ شاغل البيت الأبيض الجديد هو ـ بدوره، واستئناساً بروحية تشخيص بيرمان ـ كرتون إمبراطوري، في طبعة أمريكية؛ فذلك لأن ترامب، أوّلاً وثانياً وثالثاً وعاشراً، نتاج أمريكي قلباً وقالباً: خرج من رحم أمريكا، ومن باطنها العميق، ولم يهبط البتة من المريخ!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس