كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

حتى إذا شاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ــ من باب كسر الرتابة وإضفاء التنويع، مثلاً ــ طيّ صفحة «الديمقراطية التبادلية» الدورية التي جمعته مع رئيس وزرائه المزمن دميتري مدفيديف، كما تردد بعض التقارير الصحفية؛ فإنّ قلّة قليلة من مراقبي الشأن الروسي سوف يباغتهم القرار. لا مفاجآت، البتة كما يتوجب التشديد، في دورة بوتين الرابعة والأخيرة؛ أو، بالأحرى، لا طارئ على أحوال قصر الكرملين يمكن أن يدخل تحت توصيف المفاجئ!
ثمة، مع ذلك، طرافة خاصة في قراءة طبائع العلاقات بين الاتحاد الروسي، أو روسيا بوتين الراهنة على وجه التحديد، من جهة؛ ودول الـG7، أي أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وكندا، من جهة ثانية. الأبرز في ذلك الملفّ قد يكون تهافت هذه الدول على توفير أفضل ما يتوفر من عناصر مختلفة، سياسية واقتصادية وتسلّحية، كفيلة بتمكين بوتين من التبجح أمام الشارع الروسي الشعبي بمقارعة الغرب، من موقع الخضم المكافئ؛ الأمر الذي يحرّك لواعج الحنين إلى أزمنة الحرب الباردة، حين كانت روسيا تُسمى الاتحاد السوفييتي، وكان أحد زعمائها (نيكيتا خروتشوف مثلاً) لا يجد أيّ حرج في قرع منبر الأمم المتحدة بحذائه!
هذه سلوكيات طافحة بقِيَم رمزية من طراز يتجاوز اتفاق المواطن الروسي أو اختلافه مع إيديولوجيا الدولة، شيوعياً كان نظامها أم شبه ليبرالي/ شبه رأسمالي، ليستقرّ في الباطن العميق من مشاعر الاعتزاز الوطني والانحياز القومي. هذا ما يكون في بال بوتين حين يزفّ إلى الروس خبر نجاح الصناعة الحربية الروسية في إطلاق صواريخ مجنحة تحمل قواعد نووية، أو تصنيع صواريخ قادرة على تجاوز كل أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي، أو تصميم أسلحة ستراتيجية لا تتبع مساراً بالستياً مما يجعلها قادرة على اختراق جميع أنظمة الدفاع الصاروخي، أو التوصّل إلى سلاح «فرط صوتي». وليس غريباً، ضمن سياقات مماثلة، أن يرى المواطن الروسي في اتهام أجهزة الاستخبارات الروسية بتسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال وابنته، مفخرة لـ«روسيا الأمّ»، قبل أن يكون «ضربة معلّم» تُسجّل لصالح حاكم الكرملين.
وهذه حال تحجب عن المواطن الروسي المعاصر بصيرة التفكير المعمق بأنّ روسيا بوتين الراهنة، وتلك التي حكمها طيلة 18 سنة، ليست الاتحاد السوفييتي الذي ساد خلال عقود الحرب الباردة، ويصعب أن تكون استئنافاً لأعراف تلك الحقبة. كذلك سوف تتعطل مَلَكة المواطن إياه في إدراك عشرات الأسباب التي لم تجعل من الثنائي بوتين/ مدفيديف بديلاً عن خروتشوف/ بريجنيف مثلاً، إزاء أيّ من معطيات التناطح الساخنة اليوم مع أمريكا والغرب عموماً؛ في القرم وأوكرانيا وسوريا، وفي ملفات مثل الصناعة الحربية وسوق النفط العالمية وانتشار الأسلحة النووية وسواها.
في عبارة أخرى، يجوز القول إنّ أمريكا (هذه التي يترأسها دونالد ترامب بصفة خاصة)، والديمقراطيات الغربية الكبرى، هي بمثابة ناخب خارجي غير مباشر، صوّت مراراً لصالح أمثولة بوتين على امتداد تجربة «الديمقراطية التبادلية» الدورية مع مدفيديف من جهة أولى؛ وأنّ هذا الناخب الخارجي سعيد ضمناً بأفعال بوتين التي تتخذ صفة الخصومة مع الغرب، لأنها في المنعرجات الكبرى تخدم مصالح الطرفين على حدّ سواء، من جهة ثانية.
كيف يُنسى ضجيج موسكو وعجيجها، قبيل الموافقة في مجلس الأمن الدولي على التدخل العسكري الأطلسي في ليبيا المعاصرة؟ أو، قبله، الموقف الروسي من غزو العراق سنة 2003؟ ومَن الذي يزعم، حقاً، أنّ أمثلة استخدام موسكو حقّ النقض في مجلس الأمن لتعطيل قرارات أممية ضد نظام بشار الأسد لم تكن، أيضاً، تطابق رغبات الغرب غير المعلَنة؟ وفي نهاية المطاف، هل تسبب هذا التناطح مع الغرب في ثلم قرون بوتين الناطحة، أم ساهم في شحذها أكثر؟