رلى موفّق
بيروت ـ «القدس العربي»: يصفها البعض بـ «الثورة السورية» والبعض الآخر بـ «الأزمة السورية»، ولكن أيّما كان الوصف لما يجري في سوريا، فإن المأساة التي حلّت بكثير من السوريين الذين أضحوا نازحين في دول الجوار قد دخلت عامها السابع. هي مأساة دفع ثمنها أناس قالوا بشكل سلميّ في أوائل أيام الثورة: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وإنْ كانت شرارتها أطفال سمعوا عبر شاشات التلفزيون شباب وشابات يرددون هذا الشعار وشاهدوه مرفوعاً على اليافطات ومكتوباً على الجدران في تونس وليبيا ومصر، فكتبوه بشكل عفوي وبشغف طفولي، لكن جملة «الشعب يريد إسقاط النظام» على جدران تلك المدرسة في درعا فتحت الباب ولم تُغلقه، بعد تعذيب أجهزة الاستخبارات لهؤلاء الصبية الذين رفعوا شعاراً، على الأرجح، لم يفهموا كثيراً معناه ولا قدّروا عواقبه.
كبرت كرة الثلج، فصار الشباب يخرجون أسبوعاً بعد أسبوع إلى الشوارع مرددين هذا الشعار، بحيث أصبح يوم الجمعة يقضّ مضاجع النظام، وما بعد «صلاة الجمعة» ليس بالخبر السعيد. فقبل أيام معدودة من اندلاع الثورة السورية كان الرئيس السوري يعتبر أن سوريا ليست ليبيا أو مصر أو تونس. لم يكن ليتوقع أن شعباً قُمع لعقود يتوق لأن يُعبّر بحرية من دون أن يتلفت يميناً ويساراً، ومن دون أن تُهدر كرامته.
لكل شيء ثمن. فالحرية لا تُعطى. إنها تؤخذ… والثمن قد يكون كبيراً وكبيراً جداً. ثمن دفعه ملايين السوريين، الذين هُجّروا من منازلهم أو تركوها هرباً من جحيم حرب شرسة قادها النظام ضد الثورة التي تعسكرت لاحقاً. نزح أبناء الأرض إلى مناطق أخرى داخل وطنهم أو إلى دول الجوار، تركيا والأردن ولبنان.
في لبنان اليوم، تتضارب الأرقام عن أعداد النازحين على ألسنة المسؤولين الرسميين. ثمة من يقول إنهم دون المليون. وثمة من يعطي رقم المليون ونصف المليون كحد أقصى. على أن هذا الرقم لا يشمل العائلات السورية الميسورة التي انتقلت إلى لبنان للعيش فيه ولم تُسجّل عملياً في قيود مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي تعيش حياتها الطبيعية، بشكل لائق، من المسكن إلى التعليم في المدارس الخاصة إلى قيام البعض منهم بفتح «مصالح» لهم بشكل قانوني في لبنان.
لا يمرّ يوم من دون أن يُؤتى على ذكر النازحين السوريين في لبنان. فهو ملف تقدّم على الكثير من الملفات، وهذا أمر طبيعي مع الضائقة الاقتصادية التي تعيشها البلاد بفعل الحصار الصامت على لبنان نتيجة سقوطه تحت الهيمنة الإيرانية التي انعكست تدهوراً في العلاقات اللبنانية ـ الخليجية، فخسر لبنان الاستثمارات الخليجية وتدفّق السياح العرب إليه، والذين كانوا يشكلون رافعة للاقتصاد الوطني الذي يعتمد بشكل رئيسي على السياحة والخدمات. جاءت الأزمة السورية لتلقي بظلالها على الواقع اللبناني ولا سيما مناطق الأطراف، شمالاً وبقاعاً، والتي تُعتبر أصلاً مناطق منسية من قبل الدولة، ما زاد من حدة الأزمة نظراً لضعف البنى التحتية من طرقات وشبكات مياه وكهرباء، وغياب التنمية الحقيقة في ما خص الخدمات التعليمية والتربوية والاستشفائية بما يتلاءم مع حاجات المنطقة.
تلك المناطق الحدودية كانت الأكثر تضامناً مع الثورة السورية، ويوم حصلت موجات النزوح، فتح الأهالي منازلهم للنازحين واحتضنوهم، ولا سيما أن الحكومة اللبنانية آنذاك لم تحذُ حذو دول الجوار في الأردن وتركيا التي أقامت المخيّمات وأطّرت وجودهم ضمن بقع جغرافية وفق قواعد وقوانين وإجراءات محددة.
لم يكن في ذهن أي من النازحين السوريين أن وجودهم خارج بلادهم وقراهم وأرضهم وبيوتهم سيطول إلى هذا الحدّ. مع بداية الأزمة، كانوا يظنون أنها مسألة أشهر ليس أكثر، فهكذا كانت الحال في تونس ومصر وليبيا. شعار «الشعب يُريد إسقاط النظام» تحقق سريعاً بمعزل عما كانت نتائج «الربيع العربي» عليها، لكن الحكام فيها سقطوا خلال فترة زمنية قصيرة. غير أن الحال في سوريا كان مختلفاً، طالت الأزمة وتعقدت وسوّيت مناطق بالأرض وأفرغت وتهجّر أهلها. فباتت أعين السوريين، من جهة، على مسار الثورة التي دخلت عليها عوامل معقدة غير قادرين على فهم خيوطها، ومن جهة أخرى على واقع حياتهم في الدول المضيفة. صحيح أنهم وسط بيئات حاضنة لا بيئات معادية، ولكن حين تطول الأزمات وتضيق سبل العيش وتتراجع الخدمات، على قلتها أصلاً، ويبدأ التنافس على فرص العمل، سواء بشكل مشروع أو غير مشروع، لا بد من أن تنشأ حال من التوتر ولو كانت لا تزال في حدودها المضبوطة.

أسر تعيش عند المستوى
المعيشي الأدنى

ولعل ما أورده منسّق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في لبنان فيليب لازاريني منذ أسابيع، كفيل برسم صورة قاتمة عن الواقع المعاش راهناً للنازحين السوريين والمجتمعات الحاضنة لهم، إذ أشار إلى أن «تقييم عام 2016 لمكامن الضعف للاجئين السوريين أظهر أن الأسر تعيش عند المستوى المعيشي الأدنى بعد أن استنفدت مواردها المحدودة منذ فترة طويلة. كما أظهر التقييم أن 70،5 في المئة من اللاجئين السوريين يعيشون تحت خط الفقر مع 3،8 دولار في اليوم، مع العلم أن نحو 30 في المئة من سكان لبنان يعيشون تحت خط الفقر، و10 في المئة يعيشون في فقر مُدقع».
لا شك أن المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني والدول المانحة تعمل على مساعدة لبنان في الأعباء المترتبة عليه في أكثر من مجال، غير أن البحث الذي يدور راهناً بات يتخطى كيفية الاستجابة لحالات الطوارئ في الأزمات الإنسانية.
فحين يجري الحديث عن مليون ونصف المليون نازح، مضى على وجودهم أكثر من ست سنوات في لبنان، فإن آليات المعالجة لا بد أن تختلف، ولا سيما حين تؤشر الأرقام إلى وجود 482761 طفلا نازحا في عمر الدراسة بين 3 سنوات و18 سنة، وفق منسّقة وحدة تعليم النازحين في وزارة التربية اللبنانية صونيا الخوري. وفي المعلومات أن نحو 210 آلاف طفل من هؤلاء هم على مقاعد الدراسة ضمن النظام التعليمي حسب المناهج السورية المعرّبة بغالبيتها والتي تختلف عن نظام التعليم اللبناني، فيما العدد الباقي ينتطر تنفيذ الخطط التي يتم إعدادها لاستيعابهم ضمن برامج نظام التعليم النظامي أو التعليم المهني أو إخضاعهم لدورات في التدريب المهني من أجل كسب مهارات معيّنة تخوّلهم أن يكونوا أشخاصاً منتجين في المستقبل، حيث أن الهدف المنشود هو استيعاب مئة ألف طفل إضافي للعام الدراسي 2017-2018، وستقوم بريطانيا بالعمل على دعم وزارة التربية اللبنانية تمويلاً ومتابعة.
البحث يتمحور الآن حول الخطط طويلة الأمد والتي تطال التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن، إذا ما تفاقمت، أن تترك تداعيات أمنية على البلاد. ولكن أيضاً من شأن تلك الخطط أن تسهم في تحسين ظروف حياة النازحين السوريين كما اللبنانيين حتى ينعموا بقدر من الأمان الاجتماعي والحياتي. وفي هذا الإطار، تعمد حكومة الرئيس سعد الحريري، منذ تشكيلها، إلى التصدي لهذا الملف بشكل مدروس من خلال وضع خطة متكاملة حول أعباء النزوح لتقديمها إلى الدول المانحة من أجل مساهمة المجتمع الدولي في هذا العبء من خلال العمل على تنفيذ مشاريع في البنى التحتية وفي القطاعات الإنتاجية الرئيسية.

خطة متكاملة طويلة الأمد

والحكومة، إنطلاقاً من الأهمية التي توليها لهذا الملف، استحدثت حقيبة لشؤون النازحين وأوكلتها للنائب معين المرعبي، ابن محافظة عكار على الحدود الشمالية مع سوريا، من السياسيين المتعاطفين مع الثورة السورية، والتي كانت منطقته من أوائل من استضاف النازحين السوريين. يذهب وزير الدولة لشؤون النازحين إلى التأكيد أن الحكومة تعمل على خطة متكاملة طويلة الأمد، وليس الاعتماد على حلول قصيرة المدى هي مسكنات آنية ستعود بعدها المشاكل إلى التفاقم. فلبنان تكبد خسائر تتجاوز الـ15 مليار دولار أمريكي. ووصل مستوى الدين الوطني إلى 75 مليار دولار، مع تباطؤ في النمو وصل إلى واحد في المئة وبطالة لامست 36٪ في صفوف الشباب. ما كان يتم سابقاً هو وضع لبنان خطة الاستجابة للأزمة السورية في ما يتعلق بالاحتياجات الأساسية والضرورية للتعاطي مع الشق الإنساني وسبل تعزيز القدرة على مواجهة الأزمات، لكن الاحتياجات تتعدى هذه الخطة بكثير. فلبنان سيكون بحاجة خلال السنوات الثلاث المقبلة إلى ما لا يقل عن 8 إلى 10 مليارات دولار من الإستثمارات الجديدة ليعوض فقط التدهور الذي وقع خلال الـ 6 سنوات الأخيرة.
لا ينكر الوزير المرعبي أن المناطق الحاضنة للنازحين سواء في عكار أو في البقاع، على سبيل المثال عرسال التي تستضيف مئة ألف نازح باتت مأزومة. هذا لا يعني من وجهة نظره، خروجا عن المألوف في الطبيعة البشرية. فأبناء القرى يشعرون أن النازحين باتوا يفوقوهم عدداً وبدأوا ينافسونهم على لقمة العيش في أعمالهم وفي مجالات لم يكن السوريون سابقاً يعملون فيها. فمنذ عشرات السنين، يقصد السوريون لبنان للعمل في قطاعات محددة، في الأعمال الزراعية الموسمية وفي البناء وفي أعمال بسيطة مثل النظافة وما شابه. وقد كان لليد العاملة السورية دور أساسي في حركة العمران في لبنان نظراً إلى النقص في اليد العاملة اللبنانية في هذا المجال.
من هنا، كان توجه الحكومة في خطتها، تماشياً مع الحاجات والمتطلبات للنهوض مجدداً بلبنان واقتصاده، إلى التقدم بمشاريع أساسية في مجال البنى التحتية، التي باتت مسألة ملحة لمواكبة الزيادة السكانية الطارئة، التي ارتفعت بمقدار ثلث سكان لبنان البالغ عددهم أربعة ملايين، إضافة إلى مشاريع تتناول استثمارات في مجالات إنتاجية عدة ستنعكس إيجاباً على الاقتصاد اللبناني واستقراره الأمني ويشكل قاعدة انطلاق لعملية إعادة الإعمار في المنطقة ولاسيما في سوريا مستقبلا. وهذه المشاريع من شأنها، إذا جرى تبنيها دولياً وبوشر بتنفيذها، أن تؤمن فرص عمل للبنانيين والسوريين معاً كونها تدخل في إطار البناء والحاجة إلى اليد العاملة في هذا المجال، ما يجعل النازح السوري قادراً على الإنتاج بشكل طبيعي وقانوني من دون أن يترك ذلك أي حساسيات اجتماعية، ويستطيع تاليا تحسين ظروف حياته المعيشية بما يوفر له قدراً ممكناً من الحياة الطبيعية في انتظار أن تحل الأزمة في سوريا ويصبح بإمكانه العودة.
هو نزوح إلى لبنان في غالبيته من حمص عاصمة الثورة ومن القلمون القاعدة الخلفية لدمشق، طال مختلف شرائح المجتمع السوري، لكنه أصاب الفقراء في الصميم. تحولت غرف متواضعة وخيم نصبت مع تدفق المزيد منهم بيوتاً لهم بدل بيوتهم التي بات الكثير منها ركاماً.

قصص أقرب إلى نسج الخيال

بعضهم قد يفكر في العودة، لكن تلك العودة لا تزال أمامها عقبات كثيرة، لكن أهمها أن يتولد هذا الشعور بالأمان في حال العودة. الشعور أنهم قادرون على قول ما يجول في خاطرهم، أو يشاهدوا محطات فضائية لا تستدعي منهم في اليوم التالي الذهاب إلى فرع الأمن للتحقيق، والذي قد يدخلونه وقد لا يخرجون منه.
صحيح أنهم نازحون خارج وطنهم، ويعانون اقتصادياً ويتعرضون أحياناً لمضايقات أمنية، ويسمعون كلاماً عنصرياً من بعض فئات المجتمع اللبناني يطفو إلى السطح مرات بفعل الإرث الثقيل للوجود السوري في لبنان على مدى ثلاثين عاما وممارساته القمعية التي لا تزال في الذاكرة، ومرات أخرى بفعل مخاوف بعض الفئات من التوطين واختلال في الأحجام الطائفية في البلاد، وأحياناً بفعل الاتهام المسبق لكل مكون سني أنه قد يكون «داعشياً»، أو حساسيات ضيقة، لكنهم يشعرون بقدر من حرية يفتقدها الكثير ممن هم في الداخل السوري أرادوا أن يبقوا في منازلهم وأرزاقهم، وألاّ يتركوا وطنهم، لكنهم يرون الكثير ويسمعون الكثير ويتعاملون كمن لم ير ولم يسمع. هي صورة رسمها رب أسرة سورية الذي لم يرد أن يغادر وعائلته دمشق التي يعشق ويحب… لكنه حين زار بيروت وكان بين أحباء له… بكى من شدة القهر النفسي الذي يعيشه ومن فظاعة ما يرى ويسمع من قصص هي أقرب إلى نسج الخيال لكنها ليست كذلك في سوريا.