كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

يقدّر بانوس مومتزيس، منسّق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية حول «الأزمة السورية»، أنّ ما لا يقلّ عن 1،2 مليون نسمة، من أصل 2،5 إلى مليون من سكان محافظة إدلب اليوم، هم من فئة المبعدين عن أماكن إقامتهم الأصلية، أو النازحين داخلياً؛ هذا دون احتساب آلاف المقاتلين المنفيين من مناطق «خفض التصعيد» المختلفة، أو اللاجئين إليها، وعائلاتهم التي تضمّ الآلاف من النساء والأطفال.
من جانب آخر، تشير تقديرات منظمة ReliefWeb إلى أنّ نسبة 68٪ من سكان إدلب الحاليين وفدوا إليها من حماة (22٪ )، وحلب (21٪ )، وحمص (5٪ )، ودير الزور (4٪ )، وريف دمشق (4٪ )، ومناطق أخرى (28٪ )؛ فضلاً عن الـ14٪ من سكان المحافظة الأصليين. في عبارة أخرى، يجوز الافتراض بأنّ إدلب الراهنة، أو على الأقلّ الشرائح المدنية من سكانها وهم الأغلبية الساحقة، باتت أقرب إلى عيّنة عالية التمثيل لقطاع واسع من الاجتماع السوري في الأطوار الأخيرة من عمر الانتفاضة الشعبية، وتحديداً بعد التدخل الروسي وانقلاب الموازين العسكرية لصالح حلفاء النظام واتفاقيات أستانة وسوشي حول مناطق خفض التصعيد.
وهو افتراض يتيح قراءة الحراك الشعبي الذي أخذ ينتظم في كامل مناطق المحافظة، وتتجلى أهمّ عناصره في التظاهرات الشعبية الحاشدة، واستعادة الشعارات السياسية التي طبعت الأشهر الأولى بعد اندلاع الانتفاضة سنة 2011، وعودة التشديد على ضبط العلاقة بين المدنيّ والعسكري في قلب الحراك (كما في لافتة متميزة تذكّر الثاني بأنه اليوم في حماية الأول، وليس العكس!)، والإلحاح على استحداث صِيَغ للإدارة المدنية وتنظيم الحياة اليومية وفق حاجات المواطن. ولعلّ غلبة أعلام الانتفاضة على الأعلام الفصائلية، خاصة السوداء والجهادية منها، هي في طليعة المؤشرات السياسية الفارقة. لكنّ الإرادة الشعبية الداخلية، التي عبّرت وتواصل التعبير عنها التظاهرات، شيء؛ والمعادلة الإقليمية والدولية التي تحكم المشهد الإدلبي، ثمّ السوري استطراداً، شيء آخر أشدّ تعقيداً وتشابكاً من أن تُبقي الحراك على سجيته المنظورة، أو تسمح بتطويره إلى حال متقدمة تعيق ما يُخطط للمحافظة، ثمّ للبلد بأسره.
ولهذا فإنّ من السذاجة، الضارّة أو حتى القاتلة، الافتراض بأنّ الاتفاق، الذي توصل إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، سوف يتجسد على الأرض في إجراءات تكفل إنقاذ إدلب مما كان ينتظرها من شرّ مستطير؛ أو أنّ المنطقة منزوعة السلاح سوف تبقى زمناً طويلاً في حال من السكينة العسكرية، تمكّن قوى الحراك الشعبي من الإمساك بزمام مبادرة ما، من أيّ نوع ذي وزن سياسي وجماهيري؛ أو أنّ «تحرير الشام» سوف تكتفي بالتقهقر مع أسلحتها الثقيلة إلى أمدية لا تطال كنسبا وعين القنطرة وعشرات القرى والبلدات ذات الأغلبية السكانية العلوية في سهل الغاب وجبال اللاذقية…
كذلك، والأهمّ ربما، أنّ الأطراف الإقليمية (تركيا وإيران)، والدولية (روسيا والولايات المتحدة) لن تتخلى عن الحصص التي تمثلها إدلب في ميزان التقاسم الوظيفي للملفّ السوري: لن تتوقف أنقرة عن استثمار الحال في التمدد عبر «درع الفرات» نحو مزيد من الضغط على الكرد، وابتزاز أوروبا عبر التلويح بكابوس موجات اللجوء؛ ولن تنتظر إيران طويلاً، بعد تشرين الثاني (نوفمبر)، حين تدخل العقوبات الأمريكية مرحلتها الثانية، قبل أن تشرع في تسخين الجبهات جنوب وغرب إدلب؛ ولن تتأخر موسكو في اختبار معطيات الأرض ما بعد نزع السلاح وإخلاء الجهاديين، وفي مطالبة تركيا بالانتقال من موقع الوسيط والضامن إلى دور الشرطي التنفيذي على الأرض؛ وأما واشنطن فإنها لم تعتمد ستراتيجية انغماس في الملفّ، أو تكتيك خروج منه، خاصة وأنها تتقاسم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي نظرية الإبقاء على بشار الأسد، عارياً من أيّ درع واقٍ إيراني.
أربعة اشتباكات ضارية تتشعب وتتقاطع، سياسياً وعسكرياً، فلا يخمد لهيبها إلا لكي يشتعل مجدداً؛ في حرب واحدة مفتوحة ضدّ الشعب السوري.