لا تزال ردود الفعل والأسئلة تتواتر بين السوريين حول اللقاء المطوّل الذي أجرته مجموعة الأزمات الدولية مع أبو محمد الجولاني، القائد العام لهيئة تحرير الشام («جبهة النصرة» سابقاً)، ونُشر مؤخراً على موقعها، وبدا فيه الأخير كأنه يقوم بمراجعة نقدية لبعض ممارسات تنظيمه ويوضح موقفه من بعضها الآخر، في الوقت الذي تشتد فيه المعارك حول أرياف إدلب وحلب ويحقق فيها النظام السوري وحلفاؤه تقدماً لافتاً.
ثمة من يعتقد أن غرض الجولاني من الحضور الإعلامي، توقيتاً ومحتوى، هو مخاطبة الخارج لإظهار بعض الاعتدال وحسن النية، ربما كمحاولة لتخفيف أسباب تصنيف «جبهة النصرة»، كمنظمة إرهابية، من قِبل المجتمع الدولي وحكومات غربية لا مصلحة لها بالحرب على إدلب أو بانتصار النظام، متوخياً إضعاف الحصار المفروض عليها، وهتك راية مواجهة الإرهاب التي تستمد منها قوات النظام «الشرعية» لتصعيد عملياتها العسكرية، وربما تلبية لرغبة إردوغان الذي يتطلع اليوم للاستقواء بمرونة الجولاني للدفاع عن تدخله العسكري المباشر في سوريا ولتبرير تهربه من تفكيك «جبهة النصرة»، ما دامت صالحة للاستخدام في تحسين موقع حكومة أنقرة داخل سوريا وعلى الصعيد الإقليمي، وربما كرسالة ممالأة وتطمين لمنظمات الإغاثة الدولية، التي حاربها الجولاني وأنهى وجودها في مناطق سيطرته، أو دفعها لتجميد نشاطها أو تقليصه إلى الحد الأدنى، مبدياً رغبته في التصالح معها وتسهيل عمل أي منظمة أممية ترغب في العودة إلى إدلب، بما في ذلك كفّ يد «هيئة تحرير الشام» عن الاستيلاء والاستئثار بما يقدَّم من معونات للمعوزين.
وفي كل الأحوال فالأمر ليس بعيداً عن فكر الجولاني البراغماتي وأساليبه الالتفافية، فهو الذي كرر لنفس الغاية تغيير جلده، مرة أولى، عندما بالغ في إشهار اشتراطه للانضمام إلى تنظيم «القاعدة» عام 2013 بأن تبقى جبهته محلية ومحكومة بأجندة داخلية، ولا تغدو سوريا مركز انطلاق لأي عملية خارج البلاد ضد أطراف إقليمية ودولية معادية لـ«القاعدة»، ومرة ثانية، بإعلانه المفاجئ عام 2016 فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة» وتشكيل فصيل جديد تحت اسم «جبهة فتح الشام» متوخياً أن يساعده الاسم الجديد على التخلص من وصمة الإرهاب، ومرة ثالثة بتوسل المعارك التي أُجبر على خوضها ضد تنظيم «داعش»، لإظهار تميزه ورفضه لنهج الأخير، ثم ضم جماعات إسلاموية مسلحة تُحسب على الاعتدال إلى جبهته وتحويل اسمها عام 2017، إلى «هيئة تحرير الشام» عساها تلقى تفهماً وقبولاً.
وفي المقابل، ثمة من يجد أن الظهور الإعلامي للجولاني موجه أساساً نحو الداخل، بدليل اعترافه بارتكاب أخطاء فرضتها ظروف الحرب ولا بد من إصلاحها الآن، ربطاً بانتقاد بعض اندفاعاته العسكرية التي أنهت بالقوة وجود جماعات إسلاموية مسلحة لم تتفق مع جبهة «النصرة»، ثم دعوته الصريحة للحوار مع المعارضة على أساس أن هيئته لا تستطيع حكم إدلب بمفردها، كذا ليبدو من خلال هذه المواقف كأنه يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد: أولاً، رص صفوف تنظيمه بعد وضوح تذمر قواعده من مواقف مهادنة للقيادة ومسلكيات انهزامية غير مفسَّرة، خصوصاً أن جُلّ العناصر المنضوية فيه من السوريين، وغالبيتهم التحقت به لتأمين الدعم المادي والعسكري الذي يمكّنها من الاستمرار في مناهضة النظام. وثانياً، لاستمالة أطراف من المعارضة لا تزال تراهن على الجماعات الإسلاموية ودورها العسكري في التغيير. وثالثاً، لإعادة الهيبة لهيئته التي باتت شعبياً موضع ازدراء وسخرية بعد ادعاءاتها عن قدرة فريدة في مواجهة قوات النظام وتكبيدها خسائر لا تخطر ببال، حيث صارت موضع تخوين ما عُرف بانسحاباتها العسكرية غير المبررة من بعض المناطق لتستولي عليها قوات النظام السوري بسهولة، والأنكى منعها جماعات أخرى من المعارضة المسلحة من الوصول إلى جبهات القتال، ومصادرة أسلحتها.
والحال، فقد قال الجولاني ما يعتقد أنه يفيده، لكن ماذا عن إمعانه في تصفيته خيرة الناشطين والإعلاميين والمعارضين المدنيين وإنهاء وجودهم ودورهم في مناطق سيطرته؟ وماذا عن أساليبه الدموية في الرد على المظاهرات المناهضة له التي تكررت في مدن مورك وسراقب ومعرة النعمان، قبل أن تستولي قوات النظام عليها؟!
وأيضاً ماذا يمكن أن يقول عن دور هيئته القمعي والإرهابي في اضطهاد الناس في المناطق التي سيطرت عليها وإخضاعهم بإنزال مختلف أنواع القصاص بحقهم، أو عن تلك المقابر الجماعية التي تم اكتشافها تباعاً واعترفت «جبهة النصرة» بمسؤوليتها عنها على أساس أنها جثامين لمن أعدمتهم من أعوان للنظام أو من المرتدّين، أو ممن اعترفوا بجرائمهم عن تفجيرات ضد المدنيين أو طالت مقرات المعارضة؟ ثم ماذا يمكن أن يقول عن استهداف هيئته لجماعات أهلية من العلويين والدروز والمسيحيين والشيعة وقتلهم على أساس طائفي إما بالرصاص وإما بقطع الرأس، كان أبرزها اعتراف «النصرة» بقتل العشرات من الشيعة والدروز القرويين في ريف إدلب لإرهاب أبناء الأقليات ودفعهم إلى الهروب والهجرة؟ وأخيراً ماذا يمكن أن يقول عن ممارساته العدوانية بحق أبناء الشعب الكردي، وتحويل جبهته إلى أداة رخيصة وطيّعة بيد إردوغان يستخدمها كيفما يشاء ضدهم؟!
واستدراكاً، إذا كان البعض يعارض مبدئياً تسخير الدين لخدمة السياسة ويرفض كل الجماعات التي تحمل مشروع سلطة دينية وتجاهر بإقامة دولة الخلافة، وإذا كان البعض الآخر يطالب بتمييز واصطفاء قوى سياسية يسربلها رداء ديني، لكنها ترفع شعارات وطنية تهم عموم السوريين، وتتطلع للمشاركة في بناء دولة ديمقراطية ديدنها الحرية والعدالة والمساواة، فإن الغالبية تتفق اليوم على التحذير من مخاطر تمرير هذا الظهور الإعلامي للجولاني وتطالب بفضحه وعدم مهادنة أو مساكنة هذا النوع من الجماعات الإسلاموية التي وقفت ولا تزال ضد حقوق السوريين في الحرية والكرامة، وتعتاش على مناخ حاضن يتميز بتفاقم الصراع المذهبي في المنطقة وبتراجع ملموس للسياسة على حساب تقدم العنف.
أخيراً، وبعد سنوات مريرة من دور مخرب وخطير لعبته جبهة «النصرة» وداعميها في تشويه ثورة السوريين والاستهتار بحيواتهم وممتلكاتهم ومطالبهم وتمكين أعدائهم منهم، لن يختلف اثنان على أنه لم يعد ثمة ما يقال من الجولاني أو «جبهة النصرة» لهذا الشعب المنكوب!
الشرق الأوسط:6/3/2020