مناف الحمد

على الرغم من أن الديمقراطية تحظى بشبه إجماع بين علماء السياسة والفكر الدستوري، بوصفها “أرقى” نظام سياسي عرفه البشر، فإنها تعاني من هنات، تضعف الثقة بها أحيانًا، وتعرّضها لنقد خصومها.

ولعلّ النقد الشائع هو اتهامها بأنها ديمقراطية نخب، وأن السطوة الاقتصادية والسياسية، تتيح استثمارها لصالح أصحاب النفوذ.

ولسنا بصدد الخوض في تفنيد هذا الطرح، ولكنّ ما يعنينا -في هذا المقام- أن النظام السياسي الديمقراطي يعاني هنات وعيوبًا، شأنه شأن أيّ نظام سياسيّ عرفه البشر، ولعلّ أحد أهم جوانب هذا القصور الذي يمكن معاينته في الديمقراطية المعاصرة، هو تلازمها مع الليبرالية النخبوية.

ولا يخفى أن لكل مفهوم سيرورة تاريخية تبدّل عبرها مضمونه، وشحنات أيديولوجية، حملها وفق أوضاع تاريخية مختلفة.

ولهذا فإن وجه الليبرالية المظلم (النخبوي)، الذي جعل تلازمها مع الديمقراطية سببًا في قصورها عن الكمال، قد اكتست به من جرّاء اقترانها بتنوير القرن الثامن عشر، الذي خلص من مقولته الشهيرة ” المعرفة قوة”، إلى أن الجماهير جاهلة، وأن عليها دائمًا مساءلة الخبراء في كلّ صغيرة وكبيرة من شؤون حياتها.

وهو استنتاج يجد جذره في عدم الثقة بالمجتمع الجماهيري، ونواته الأساسية التي هي” الشخص المتوسط”، وهو عدم ثقة، يجد جذره -أيضاً- في النظر إلى الليبرالية كـتجسيد للمنهج العلمي، كما يقول “روسل”، ولهذا؛ فهي تحتاج من أجل تجسيدها إلى نخبة حاكمة.

هذه السمة النخبوية لليبرالية تجلّت في شكلين:

الشكل الأول، نخبوية ثقافية، أسّس لها كانت ومل وتوكفيل، الذين اقترحوا على الجماهير أن تستمع إلى النخب التي تعلّمهم ما الأفضل لهم؛ فقد كانوا مسكونين بالقلق من استبداد الأكثرية، ومن هذا القلق اجترحوا مفهوم “الديمقراطية النحيفة” المتاحة للنخب فحسب، على العكس من الديمقراطية التشاركية التي تتيح للجميع الاشتراك في صنع القرارات، ذات الصلة بحياتهم.

كان من نتائج النخبوية الثقافية ظهور أطروحة “نهاية الأيديولوجيا” التي عبّر عنها الليبراليون الجدد، والتي أعلنت الحرب على الديمقراطية التشاركية، والانتصار النهائي لليبرالية.

وهي الأطروحة التي تعولمت على يد فوكو ياما، الذي كانت أطروحته عن “نهاية التاريخ” إعلانًا عن نصر نهائي لليبرالية السياسية والاقتصادية، وقد كان أحد أدلّته على هذا النصر لليبرالية، هو الانتصار الساحق للولايات المتحدة في حرب الخليج، الذي عنى له أن النظام التعليميّ في الولايات المتحدة نظام فائق، لا يدانيه أي نظام تعليميّ عرفه البشر قديمًا أو حديثًا.

الشكل الثاني، هو النخبوية المعرفية التي لا يصعب العثور على جذورها لدى ماكس فيبر تحديداً، الذي جعل المعرفة والقيم ميدانين منفصلين، تأخذ الأولى موضع الصدارة؛ لأنها الأكثر موضوعية.

أما ظهورها الصريح، فقد تزامن مع ظهور الاحترافية في العلوم السلوكية والاجتماعية، التي ساهمت في غرس الطاعة لسلطة الخبراء، الذين منحتهم الحرب العالمية الأولى قوة أكبر، إلى درجة أن الحكومة الفدرالية لم تعد تموّل، إلا الأبحاث القابلة للتطبيق.

أما في العلوم الاجتماعية؛ فقد تمثّلت البداية فيها بالتوجه نحو الاحترافية، في تأسيس المجلس العلمي للبحوث الاجتماعية عام 1923، الذي عني -بالدرجة الأولى- بتحويل العلوم السياسية والاجتماعية إلى علوم أكثر موضوعية.

وقد نتج عن هذه الاحترافية في العلوم السلوكية، وغيرها، هيمنة مزاج عام يرى أن التخطيط القومي من قبل نخبة إدارية، متحكم بها من قائد قوي، سوف يكون تطورًا طبيعيًا باتجاه ديمقراطية أكبر.

ونقاش صموئيل هنتغتون هو التجسيد الأبرز لتحالف الليبرالية النخبوية مع الديمقراطية، فهو يقول بصراحة: إن الديمقراطية تؤدي وظائفها بطريقة أفضل، عندما يوجد حدّ أدنى من المشاركة الديمقراطية من قبل المواطنين.

وعندما يحاول أن يرصد مشاكل الديمقراطية في الولايات المتحدة، يستنتج أنها لا تتأتّى من تهديدات خارجية، ولا من تخريب داخلي بشكل أساسي، وإنما تنبع من الديناميات الداخلية للديمقراطية نفسها، في مجتمع ذي مشاركة عالية وثقافة عالية.

فالقيمة التي تكون جيدة، من حيث ماهيتها، لا تكون كذلك -بالضرورة- إذا ضخّمت، فثمّة حدود مرغوبة للنمو الاقتصادي، وحدود مرغوبة للمشاركة السياسية.

وفي إسقاط فكرته -هذه- على الواقع، يدعو هنتنغتون إلى وجود متوازن للديمقراطية، يمكن صنعه عن طريق تهميش بعض الجماعات، فالشواذّ والسحاقيات والسود يمكن أن يدفعوا بالنظام إلى خارج حدود التوازن؛ لأنهم يحمّلون النظام السياسي ما لا طاقة له به، لما يتطلّبه إشراكهم فيه من ضرورة توسيع وظائفه، ومن ثمّ تقويض سلطته.

قلق هنتغتون من ديمقراطية تفسح المجال للمهمّشين، يردّد صدى مخاوف نيتشه، الذي اعتبر أن إحدى الطرق التي تقوّض بها الأنظمة السياسية نفسها، هي خلق توقعات -لجزء من الجماهير- غير قابلة للتلبية.

حاول جون ديوي أن يفكّ التحالف بين الليبرالية النخبوية وبين الديمقراطية، الذي عدّه تحالفًا يضرّ بالديمقراطية، ويحوّلها إلى حكم قلة عن طريق معالجة تبدأ بالقول: إن الطريق إلى حل مشاكل الديمقراطية لا يكون عبر تضييقها، وإنما عبر ديمقراطية موسعة.

أما الخبراء، فهم يضعون خبرتهم بين أيدي من يملك صلاحية تقويم مدى استجابتها للاهتمامات المشتركة.

وقد قدّم بعضهم، كراولز، وميكائيل، والترز، ورورتي، اقتراحات من أجل التوفيق بين الليبرالية والديمقراطية، وفق صيغة لا تجور على الديمقراطية، ولا تعمل على تنحيفها.

ومن هذه الاقتراحات:

ألّا يلعب الخبراء دور الحسم في السياسات، وأن تستقلّ السياسة عن الفلسفة، وأن تتوجّه إلى قضايا الحاضر، وأن يكون الحوار براغماتيًا غير مقيد بافتراضات فلسفية؛ ما يمنح الجميع الفرصة لتطوير أفكار، تعالج متطلّبات واقعهم بدون عوائق، وأن يعاد النظر في المجتمع من جديد، بحيث تعطى التعددية موضع الصدارة فيه، وهو ما يلزمه التأكيد على هويّة الاختلاف، وعدّ كل فكر موقتًا وقابلًا للتحدّي.

عن موقع جيرون