كامل عباس

مشهدان في مخيلتي ضغطتا عليّ لكتابة هذا المقال .

المشهد الأول


فُتح باب زنزانتي يوم الاثنين الموافق العاشر من كانون الأول عام 2012 في سجن اللاذقية المدني كنت في حالة تأهب؛ لأنني أعرف أن جلسة جديدة من محاكمتي بانتظاري، دقائق أصبحت فيها أمام غرفة الثياب المخصصة للسجناء( لايسمح للسجين بمغادرة السجن الا وهو يلبس لباس السجناء الموّحد في حين يتم التغاضي عن هذا الشرط داخل السجن )، كنا بحدود عشرة، والحراس يصرخوا بنا كي نسرع. لبست بذلة السجن على عجل لكنها كانت فضفاضة جدًا.
تكّرم عليّ أحد الحراس وأعطاني زنارًا طويلًا، تمكنت بفضله من ربط سروال البدلة. قيدونا جميعًا في سلسلة حديدية واحدة، وساقونا كما تساق الحمير. لحسن حظنا كانت قاعة المحاكمات لا تبعد سوى أمتار عن السجن وليست هناك مشكلة سوى في درج سنصعده حتمًا؛ لأن القاعة في الطابق الثاني، وفي الطابق الثاني فرزونا إلى القضاة المتخصصين حسب نوع الجرم لكل واحد منا، ومع أنني أشهد أن القاضي كان لطيفًا معي، وأبدى استياءه من معاملتي كأنني مجرم جنائي خطير. لكن القوانين هي القوانين ولا يستطيع تغييرها. خرجت من مكتب القاضي وانتظرت في البهو حتى انتهى كل زملائي المجرمين من جلساتهم ليعود الحراس، ويسوقونا إلى السجن من جديد، ومن نفس الطريق الذي يسلكه المراجعون وكأنهم يقصّدون أن يخيفوهم بهذا المنظر؛ لكي لايقتربوا من دائرة الخطر. ونحن نهبط على سلّم الدرج شاء القدر أن تَحل عقدة زناري ويسقط سروالي وأنا عاجز عن رفعه؛ لأن يديّ مقيدتان. علت الأصوات من كل الاتجاهات بسبب استعصاء في الحركة. أسرع أحد الحراس وحلّ المشكلة بربط الزنار والسروال على خصري جيدًا فاستأنفت القافلة المسير.
كانت تلك الحادثة زادي لأيام داخل الزنزانة. أنا الذي لم أحمل سكينًا في حياتي، أهان بهذه الطريقة علنًا، وعلى مرأى ومشهد من كل أبناء اللاذقية.
عزّيت نفسي في النهاية بالوصول إلى نتيجة مفادها: أن ثورة الحرية والكرامة ستنتهي بتغيير في سوريا يسدل الستارعلى تلك المحاكم القراقوشية ويجبر دولتنا على التعامل مع سجناء الرأي بطريقة أخرى غير الطريقة السائدة.
انتهت محاكمتي قبل نهاية العام واستقبلت عام 2013في قاووش فيه كل أنواع القمل والوسخ والمجرمين العتاة، ولكنني اعتبرت نفسي محظوظًا؛ لاستطاعتي الحصول على الكتب من مكتبة السجن وقراءتها بحرية وقد كانت غنية جدًا ومنّوعة، وخاصة الكتب التاريخية ومنها قرأت عن سقراط ومحاكمته التي جرت في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان عمر فيلسوفنا بحدود عمري عندما قُدّم إليها.
لقد ضاق خصوم سقراط في أثينا ذرعًا بانتقاداته لهم، واتهموه بأنه لا يحترم الآلهة ويفسد الشباب بآرائه، وحاولوا بشتى الطرق تخويفه وردعه عن السير في هذا الطريق، ولكنه لم يرضخ لتهديداتهم، فما كان منهم إلا أن نظّموا له محكمة لمحاكمته بلغ عدد أعضائها خمسمائة شخص وقد عرضت المحكمة على سقراط رغبتها بتركه مقابل التعهد بالتخلي عن إرشاداته ومواعظه للشباب، ولكنه رفض ذلك رفضًا قاطعًا قائلًا لهم: مادام ضميري يأمرني أن أرشد الناس إلى طريق العقل الصحيح سأستجيب له. بعد ذلك حكمت عليه المحكمة بالإعدام – عبر شراب سام- بفارق ضئيل بين المؤيدين والمعارضين للحكم، ولكنها أمهلت التنفيذ مدة شهر كامل علّ وعسى أن يهرب الشيخ من أثينا وينجو من تطبيق الحكم، ولكنه رفض الهروب وتجرّع كاس السم بعد نهاية الشهر.
قفز إلى ذهني مباشرة المقارنة بين محاكمة سقراط ومحاكمتي بعد ألفين وخمسمائة عام من عمر البشرية، والتشابه المذهل بيني وبين سقراط في محاولة الاستماع إلى صوت الضمير الداخلي في كلينا الذي يحضنا على فعل الخير لأجل الناس. لقد كلفّني ذلك الاستماع تسعة عشر عامًا بين مطاردة واعتقال على خلفية انتمائي لرابطة العمل الشيوعيّ، وقد واتتني المعرفة والشجاعة لأن أنتقل من خانة الماركسية إلى خانة اللبرالية بعد خروجي من السجن. وكنت أظن أن ذلك سيخفف الضغط علي؛ فالماركسية تقول بالعنف الثوري أما اللبرالية فهي تنبذ العنف بكل أشكاله وتقول بالاصلاح، لم يفدني ذلك شيئًا بل تحوّلت إلى محكمة بعد اعتقالي الأخير؛ لأن ضميري الداخلي ألزمني بالانحياز إلى الثوار المطالبين بالحرية في سوريا عبر مظاهراتهم
مرة اخرى علّلت نفسي بأن ذلك ناتج عن نظام مفلس وفي نهايات حكمه.
بعد أسبوع بالضبط قرأت في أحد الكتب المقطع التالي:
ألَف رئيس الوزراء البريطاني عام 1829 قوة بوليسية في لندن قوامها ستة آلاف شرطي مسلح بأسلحة خفيفة من أجل حفظ الأمن في العاصمة. قامت قيامة الشعب في لندن وساروا بتظاهرة تجمّعت أمام البرلمان وهم يهتفون: اللورد بييل يجمع رجال البوليس من أفراد العصابات ويسلحهم، الشعب يدعو إلى المقاومة – الحرية أو الموت –
لعب الفار بعبي هذه المرة؛ فالموضوع على مايبدو لايتعلق بنظامنا فقط، بل بالنظام العالمي القائم بأكمله، وكأننا نسير إلى الخلف وليس إلى الأمام كما تعودنا التفكير. فالدول العميقة القائمة في كل البلدان تعتمد على الشرطة والبوليس والجيش والمخابرات أكثر بآلاف المرات مما كان الحال عليه أيام عام 1928. استعرضت تاريخي داخل الحلقات الماركسية، وكيف كانت حلقتنا في اللاذقية خليطًا من الماركسيين مثل قوس قزح – من الولاء لتروتسكي والأممية الرابعة إلى الولاء للاتحاد السوفياتيّ، لكنه يعترض على الحزب الشيوعي السوري وذيليته له، وهو يطمح أن يكون بديلًا له داخل الحركة الشيوعية العالمية – احتدم الجدال مرة حول الحتمية التاريخية وترسيمتها الماركسية الشهيرة ممثلة بالانتقال من نظام إلى آخر , وإن كان مفهومًا لدى الحلقات الاعتراض على نسختها الستالينية الخماسية – مشاع، رق، إقطاع، رأسمالية، اشتراكية – لكن لم يكن مفهومًا لأحد الاعتراض على فلسفة الماركسية القائلة بالتحول التاريخي استنادًا إلى مبدأ الحتمية التاريخية. جاء دوري في الحديث. اعترضت على تلك الحتمية؛ بسبب وجود أسلحة نووية إذا انفلتت من عقالها قد تدّمر كل حضارتنا وتعيدنا من جديد إلى عصور الهمجية. رد عليّ المتحمسون لمبدأ الحتمية التاريخية، حتى ولو حص ذلك ستعود البشرية وتصعد سلمًا نصل فيه إلى الطابق الرابع، طابق الشيوعية -حسب وصف أحدهم للتقدم الاجتماعي-
خرجت من السجن في 6/3/2013 ، وانقطعت سلسة أفكاري مع زحمة الحياة وانشغالي بتدبير أمور أسرتي، لكن المشهد التالي في عام 2019 أعادني إلى الموضوع من جديد.


المشهد الثاني


تعرضت قرية كفر نبودة في ريف حماه صيف هذا العام الحار لغارات جوية ألقت فيها الطائرات الروسية والسورية براميل متفجرة وقنابل فراغية وعنقودية عديدة مما دعا أهاليها لترك بيوتهم حاملين على ظهورهم ما خفّ وغلا ثمنه إلى حقول زيتون مجاورة لا تصل إليها شظايا البراميل والقنابل ( وهم محظوظون كون الطقس الحار يسهل عليهم أمور معيشتهم تحت العراء أكثر بكثير من الطقس البارد الذي أجبر قرى عديدة في ريف دمشق لترك بيوتهم والالتجاء للبساتين عندما قصفت تلك القرى قبل سنين في الشتاء).
لايوجد تحت الأشجار سوى كبار السن من الرجال والنساء، وهم يحتضنون أطفالهم لتهدئة روعهم من شدة القصف. أما الشباب فهم جميعًا خلف المتاريس يخوضون معركة غير متكافئة. حسمت المعركة في النهاية لصالح الروس والنظام. المضحك المبكي في الموضوع هو دخول المئات من العناصر المسلحة الروسية والإيرانية والسورية؛ من أجل تعفيش ما تركه الأهالي داخل بيوتهم ولم يستطيعوا حمله على ظهورهم. التعفيش من سمات الحرب السورية، وجديدها في كفر نبودة تعفيش جديد يشمل موسم البطاطا الذي زرعه الأهالي في قريتهم، والآن هو موسم القطاف، ولذلك احتاط المسلحون، فأدخلوا إلى القرية فرقًا وآليات مخصصة لجني المحصول ويتوقع أن تحرق تلك المليشيات ما لم تستطع تعفيشه من البطاطا كما جرى في قرية الحويز المجاورة.
التعفيش سمة العصر حيث انعدمت الأخلاق والقيم في سبيل الحصول على المال، بالله عليكم أليس في ذلك نوع من العودة إلى الهمجية.
رئيس أكبر دولة في العالم لايعنيه سوى المال وشفطه بأي طريقة كانت، وكل رأسماله جاء من صالات القمار والدعارة، وله حفلات يمارس فيها الجنس بشكل جماعيّ، ولا يعنيه لا الإنسان ولا حقوقه في شيء، والمعفشون في سوريا وغير سوريا يقتدون به.
عن أي تقدم اجتماعي نتحدث إذا كانت فئة لا تتجاوز 4% تتحكم بثورات الشعوب وتريد تركيعها بالقوة، وصورة كفر نبودة خير شاهد على ذلك؟.
عن أي ثقافة وحضارة للبشرية ستضغط على تلك الدول العميقة إذا كانت جيوشها ومخابراتها وأجهزتها تسيطر على العالم الحاليّ ليقودها رؤساء دول ثقافتهم ضحلة جدا ومنحازة للطبقي على حساب الإنساني؟.
يحق لي أن اسأل ما مصيرنا إذا كانت تلك الأسلحة بين يدي أمثال كيم جون ايل وترامب، حيث يقول الأول: “زر الأسلحة النووية موجود على طاولتي”، ليرد عليه ترامب: أنا زري أكبر من زرك مثل الأطفال الصغار الذين يتفاخرون بضخامة عضوهم التناسلي؟ وهل بوتين وناتنياهو وخامينائي أفضل من ترامب وكيم جونك ايل؟.
كم كنت ساذجًا وبسيطًا عندما ظننت أن نظامنا سيسقط لا محالة؛ لأن روح العصر تجاوزته، فإذا بي أفاجأ بأن ليس النظام وحده يريد إظهاري بتلك الصورة في المحكمة كوني مجرمًا خطيرًا ، بل العالم كله سانده ويسانده في تعميم تلك الصورة لتكون فزّاعة لكل من يفكر في التغيير لصالح الشعوب، وما يجري في السودان دليل آخر على ذلك حيث كل الدول الحالية مع حكم العسكر وليسوا مع انتفاضة ذلك الشعب.