يضطرم الوضع السياسي في العالم العربي ويزداد تعقيداً؛ وذلك بعد أن تحولت الصراعات الداخلية بين الأنظمة والشعوب إلى صراعات جيوسياسية وخارجية بامتياز. بعد هذا التحول الحاسم، صار العالم العربي وكأنه يدخل في حقبة استعمارية متجددة من نمط مركب ومعقد. وفي هذه المرة لا نرى محتلاً واحداً متجانساً يسيطر على بلدٍ من البلدان كما كان الحال في القرنين التاسع عشر والعشرين، وإنما نرى سيطرة متعددة الرؤوس لمستعمرين دوليين وإقليميين يتنافسون على الحصص من الأراضي والثروات والغنائم بواسطة حروب بالوكالة وقودها من الميليشيات والجنود المرتزقة في المنطقة يساقون إلى المعارك تارة تحت رايات دينية ومذهبية، وتارة بدوافع الارتزاق والحاجة إلى المال.

 مثل هذا المشهد لا تخطئه العين في معظم البؤر العربية الملتهبة الآن؛ فسوريا يتصارع على ثرواتها وعلى موقعها الاستراتيجي المتميز كبوابة لشرق المتوسط وممرٍ لأنابيب النفط والغاز كل من الروس والأمريكيين والإيرانيين والأتراك والصهاينة. وهذا المشهد ينطبق إلى حدٍ كبير على ليبيا، التي يتصارع على موقعها الجيوسياسي الممتاز أيضاً وعلى خيراتها وثرواتها كل من الأمريكيين والروس والأتراك والطليان والفرنسيين والإنكليز. وكذلك يتصارع على النفوذ في العراق الأمريكيون والإيرانيون، وحتى الأتراك لا يتوانون عن أن يكشفوا بين فترة وأخرى عن أطماعهم بمنطقة الموصل. وعلى أرض اليمن التي تسيطر جغرافياً على ممر باب المندب يدور صراع مركب أيضاً بين السعودية والإمارات من جهة والإيرانيين من جهة ثانية، وهنالك صراع آخر بين جنوبه وشماله، يطفو على سطح الأحداث بين فترة وأخرى بأياد خارجية  أيضاً، وهو يشير بشكل أو بآخر إلى تنافس على النفوذ في اليمن وعلى إعادة الإعمار بين دول المال الخليجي. فيبدو أن مدينة عدن الأسطورية والتاريخية تغري بعض الدول الخليجية الغنية لتكون مدينة عالمية مفتوحة من نمط هونغ كونغ ودبي وسنغافورة.

ويلوح في الأفق الإقليمي دومينو انتقال هذا التوتر الجيوسياسي العارم إلى دولٍ عربية أخرى بحكم الجوار والحدود ومقتضيات الأمن القومي. وهذا ما لاحظناه في الفترة الأخيرة في محاولة تركيا زج تونس في المسألة الليبية عبر جعلها قاعدة خلفية لنقل الأسلحة والمرتزقة إلى ليبيا . وكذلك مصر هي على حافة التورط بشكل أو بآخر في هذه القضية، فهي تقدم الدعم للجنرال خليفة حفتر، وتحاول أن تقيم تفاهماً مع اليونان وقبرص ضد التدخل التركي.

وفي ليبيا تحولت الحرب المستمرة فيها منذ عشر سنوات إلى ساحة حرب ضروس بين الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر المتمركز في الشرق وحكومة الوفاق المتمركزة في الغرب. ولقد عقد من أجل حل هذه القضية الكثير من المؤتمرات الإقليمية والدولية، وتناوب عليها العديد من الوسطاء الأمميين، لكن هذه الحرب كمثيلتيها في سورية واليمن لم تضع أوزارها إلى الآن، وإنما على العكس يضطرم لهيبها وتعقيدها يوماً بعد يوم. وفي الواقع أن من أهم أسباب تشابك وتعقد المسألة الليبية هو تدخل العوامل الخارجية الأوربية والأميركية والإقليمية. وليس غريباً أن يكثر المتدخلون ذوو المصالح المتناقضة في ليبيا، فهي عدا عن امتلاكها للثروات النفطية الهائلة، ذات موقع جغرافي استراتيجي هام، وقريبة جداً من قواعد حلف الأطلسي. لذلك نرى صراعاً ضارياً على ليبيا بين الأميركيين والفرنسيين والطليان والروس والأتراك وحتى قطر. وبطبيعة الحال لا يمكننا في هذا السياق نسيان مصالح دول الجوار مثل مصر وتونس والجزائر والمغرب، لأن اي تغير جيوسياسي في ليبيا يؤثر على مصالحها وأمنها القومي.

ولقد وصل تعقد الوضع في ليبيا إلى مستوى شديد الخطورة بعد التدخل العسكري التركي، إذ وصلت الطائرات والسفن المحملة بالأسلحة والضباط الأتراك المرافقين لآلافٍ من قوات المرتزقة السوريين وغير السوريين إلى مدن الغرب الليبي. 

  أما عن المواقف الجيوسياسية من التغيرات العسكرية الراهنة، فعلى مستوى الإقليم يبدو الموقف التونسي في حال انقسام حاد، والموقف الجزائري يفتقد للوضوح وتسيطر عليه مسحة رمادية. أما الموقف المتحرك نسبياً فهو الموقف المصري الذي دعا إلى اجتماع في القاهرة، انتهى إلى أن الأزمة الليبية لا يمكن حلها عسكرياً، وإلى مبادرة تتسم بالواقعية آخذة بعين الاعتبار التغيرات العسكرية على الأرض وقد لاقت هذه المبادرة تأييداً لدى الكثير من الدول العربية.

وكذلك هو الحال بالنسبة إلى الدول الغربية التي لها مصالح في ليبيا مثل فرنسا وألمانيا وانكلترا وكذلك إيطاليا الميالة عادة لحكومة الوفاق فقد أيدت جميعها هذه المبادرة واتفقت على موقف واحد: ” لا يمكن حل المسألة الليبية عسكريًا ولا تحل إلا عن طريق التفاوض”. والموقف الروسي اتسم بشيء من التراجع ودعا بصوت عالٍ إلى تأييد إعلان القاهرة. أما الولايات المتحدة فتقود المعركة من الخلف كما هي العادة وكما تصرفت في سورية. فهي تصدر مواقف ضبابية ومتضاربة من القضية الليبية، تتراوح ما بين تفهمها للموقف التركي وبين عدم إمكانية الحل العسكري. ويرى الكثير من المحللين السياسيين أن التدخل التركي لم يكن ليتم دون ضوء أخضر أميركي بذلك. وفي الواقع لا يوجد هنالك حل عسكري حاسم في ليبيا لا من قبل الجيش ولا من قبل حكومة الوفاق، ولا بد من الجلوس عاجلاً أم آجلاً على طاولة المفاوضات.