كتب الصديق العزيز مناف الحمد على صفحته الأسبوع الماضي منشورًا بفيض ألمًا وحرقة؛ جراء سلوك اليسار تجاهه. بدأه بهذه الكلمات:
“كنت عضوًا في هيئة تحرير مجلة علمية محكمة وطلب مني الاشتراك في ملف عن المفكر السوري صادق العظم رحمه الله، فكتبت هذا البحث الذي استغرقت كتابته قرابة الشهرين. وعنوان البحث: – الإلحاد في الفكر العربي المعاصر : صادق العظم أنموذجًا متقدمًا”.
يفهم من المنشور أن المجلة رفضت نشر البحث بحجة تجّني الكاتب على المفكر حيث يقول في ثنايا المنشور ما يلي:
“على كل حال ما جعل موقفهم يبدو متهافتًا أكثر ومؤدلجًا ومتحيزًا وغير علمي هو أن مؤسسة كبيرة ومحترمة كمؤسسة “مؤمنون بلا حدود” وافقت على نشر البحث ولم تتدخل لجنة التحكيم خاصتها في آرائي، وهذا ما تقتضيه أصول التحكيم العلمية.
متى تتخلص أيها اليسار السوري من أصنامك؟ ومتى تخرج من وهم أيديولوجيتك؟”.
على إثر المنشور دخلت الى موقع – مؤمنون بلا حدود- وقرأت البحث المنشور بتاريخ الثامن من أب عام 2017 فكانت هذه المساهمة المتواضعة:
اختلط الهم المعرفي بالسياسي عند الصديق ولذلك سأحاول الفصل بينهما أولًا
حول الجانب المعرفي:
اختلف الفلاسفة والمفكرون منذ القدم حول أصل الكون وتنظيمه المدهش، ومتى ظهرت الحياة بداخله. بعضهم قال: يقف وراء هذا التنظيم البديع للكون منّظِم أو خالق جسّدته الأديان فيما بعد بالله تعالى، هؤلا ء شكّلوا في التاريخ ما عرف بالتيار المثالي، في حيت تبلور تيار ثان عرف بالتيار المادي ينكر وجود المنظم ويبحث عن أسباب هذا التنظيم ضمن قوانين علمية لا دخل للسماء أو الله أو ما وراء الكون بها.
اشّتد الجدل بين التيارين بعد ظهور نظرية الارتقاء والتطور على يد العالم الطبيعي دارون حيث أنكرها بشكل خاص المتدينون؛ لأنها تتعارض مع تفسير الدين ونصوصه في الكتب السماوية المقدسة لنشأة الكون ولحظة ظهور الإنسان على هذا الكوكب.
كان من المفروض على بني البشر التعامل مع النظريتين باحترام، وعرضهما في كتب التاريخ وفي المدارس والجامعات جنبًا إلى جنب؛ احترامًا للعلم والفلسفة والدين معًا. ولكن انقسام المجتمع إلى طبقات وأد لجة الخلاف بما يخدم مصالحهم حال ويحول دون ذلك حتى الآن.
في أمريكا البلد الحضاري المتطور لم تحلّ المشكلة إلا في القرن الماضي.
يقول الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في سيرته الذاتية “حياتي” التي ترجمها إلى العربية مشكورًا “حسام الدين خضور”، وجاء في النسخة الصادرة عن دار الرأي ص 204 ما يلي:
“عارض الأصوليون نظرية التطور معظم القرن العشرين لكونها تتناقض مع حرفية الكتاب المقدس عن خلق البشر، ولم تناقش النصوص العلمية نظرية الارتقاء والتطور حتى ستينات القرن العشرين بعد ان أسقطت المحكمة العليا تلك المحظورات حيث دعت المدارس إلى أن تمنح نظرية النشوء والارتقاء نفس الحق التي تمنحه لنظرية علم الخلق الموجدة في الكتاب المقدس”.
أما في البلدان المتخلفة مثل بلداننا فقد أخذ الصراع بين الجهتين بعدًا مقيتًا وضارًا بالجميع واستّغله بشكل خاص تنظيم الإخوان المسلمين لتتمحور دعاية هذا التنظيم حول ما يسميه مجتمع الربوبية، والعزف على وتر مشاعر شعبنا العفوية؛ من أجل عزل العلمانيين ومحاصرتهم؛ كونهم دهريون لايؤمنون بيوم الحساب ولا بيوم النشور. في حين كان من الأجدى لمن يعمل بالسياسة أن يشرح لجماهيره أن علينا محاسبة العلمانيين على الأرض من خلال سلوكهم تجاه الوطن وتجاه قضاياه وقضايا فقرائه، ولنترك حسابهم حول إيمانهم لله تعالى. لقد أرادوا النيل من خصومهم العلمانيين، ووقف إلى جانبهم تاريخ من التخلف في المدارس والجامعات والجوامع؛ ليشوهوا صادق العظم وأمثاله الذين يتبنون التفسير المادي في التاريخ.
أنقل للصديق مناف هذه الحادثة:
في عام 1969 كنت طالبًا في جامعة دمشق، سنة ثالثة علوم طبيعية، نظام شهادات، كانت أهم شهادة عندنا ذلك العام هي شهادة ( الوراثة والتطور) درّسنا إياها الدكتور يوسف بركودة. بدأ الدكتور أول محاضراته تحت عنوان ( أصل الحياة ). كنّا في مدرج علم النبات بحدود أربعين طالبًا وطالبة، بدأ الدكتور المحاضرة بشرح تجربة أجريت عام 1964 في أمريكا وروسيا من قبل العالم الأمريكي ستانلي والروسي أوبارين وتوصلا إلى نفس النتائج.
خلط كل منهما غاز النشادر وغاز الميتان مع قليل من المياه، وعرضا المزيج إلى أشعة رونتجن وشرارات كهربائية متقطعة مرات عدة، ثم فحصا المحلول من جديد، فعثرا على ارتباط جديد بين عناصر الكربون والأوكسجين والآزوت في شكل مادة أولية للحموض الأمينية أعطت الغمد البروتيني للفيروسات التي تشكل حلقة الوصل بين الجماد والأحياء.
في تلك اللحظة ارتفعت أصوات غاضبة في المدرج:
الله أكبر، الله اكبر، هذا كفر، هذا إلحاد.
الدكتور شيوعي يهودي وضد الإسلام، ويريد أن يقنعنا بالانتقال الطبيعي من الجامد إلى الحي، ومن ثم يبرهن أن الانسان ليس أول المخلوقات كما يقول القرآن الكريم.
كلمة ملحد هي من اختراع الاسلاميين المتزمتين يا صديقي، وتتمتها في شارعنا العفوي بأن صاحبها فاقد كل القيم، ولا يحلل ولا يحرم، وكنت أتمنى ألا تصف الدكتور العظم بتلك الكلمة.
حول الجانب السياسي
يُعد الدين بشكل عام معبرًا عن الوعي الجنيني الأول للبشرية، وقد تمحورت الأديان ورسلها حول جانب أخلاقي تدعو فيه إلى تطهير النفس البشرية من الشهوات والآثام، وتحضّ على نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، وكان آخرها الدين الإسلامي بشريعته القائمة على البعد الأخلاقي.
الإسلام يعد إنصاف الفقراء من أحب الأعمال وأقربها الى الله تعالى. الإسلام حرّم الربا، الإسلام نصّ في أحد أركانه الخمسة على بند هو الزكاة التي تجعل للفقراء نصيبًا من أموال الأغنياء، وحقًا للسائل والمحروم منهم في جزء منها.
بعد تقدم تجربة البشرية وحضارتها وتطور العلم بدأ وعيها بالنضوج، وقد تجسد الوعي الجديد في قارة اوروبا بشكل خاص، حيث عرفت قرنًا كاملًا يسمى قرن الأنوا، وفيه دعا كل فلاسفتهم إلى مشروع مركزي للتنوير قائم على الاستبدال بالأخلاق المحلية القائمة على قيم الدين أخلاقًا نقدية عقلانية معرفية كأساس لحضارة كونية بشرية جديدة تعتمد على العقل البشري المنفصل عن المبادئ الأخلاقية التقليدية للأديان، ولكن أوروبا خانت قرن أنوارها منذ اللحظة التي سال فيها لعابها على ثروات مستعمراتها، فانحازت فيها وفي البلد الأم إلى الأغنياء على حساب الفقراء، وتركت الحرية للأغنياء؛ لكي يراكموا ثرواتهم بكل الطرق، وخاصة غير المشروعة مثل تجارة الدعارة والحشيش والقمار واليانصيب والربا.
ولما كانت تلك التجارة أقصر الطرق لجمع المال، فقد ازدهرت في المجتمع، وهكذا وصلنا في تلك البلدان إلى مجتمعات ذات بعد أحادي استهلاكي تبنى قيمه على القاعدة التالية: ( حلال على الشاطر )، وجاء بعد العلمانيين في أوروبا دور العلمانيين الاشتراكيين في البلدان الاشتراكية وعلى رأسهم روسيا، وموقفهم الصريح من الدين كأفيون للشعوب ووكر للرجعيين، وقد انتهت مرحلتهم كما هو معروف بالتلاقي مع الغرب الرأسمالي في تعميم القيم الاستهلاكية، وتقاسمهم السوق مع الأوروبيين على قاعدة: “حلال على الشاطر”.
الحضارة الاستهلاكية الجديدة ببعدها العلماني أعادت إلى الدين وقيمه الأخلاقية ألقها الأول، وبشكل خاص في البلدان ذات الحضارة الإسلامية التي لم تستطع أن تتّنكر يومًا للبعد الأخلاقي المتجسد في الشريعة الإسلامية، والمتعاطف مع الفقراء والمحرومين.
نعم يا صديقي أشاركك بشكل كامل هواجسك السياسية في الدراسة عمّن أسميتهم الملحدين، وعدم تقديرهم الصحيح لدور الدين في المجتمع، وأعترض مثلك على سلوك اسماعيل أدهم وعبد الله القصيمي، واستهتارهم بما يسببه سلوكهم من ردة فعل من قبل أبناء شعبنا العفوي المؤمن. ولكنني أفرق بينهما وبين الدكتور العظم كما فرّقت في الدراسة، وأجد عذرًا له في تركيزه على نقد الدين؛ لأنه كان يتبنى نظرية تقوم أيديولوجيتها على هذا الأساس( الدين أفيون الشعوب )، وقد ظهرت بوادر منه أواخر حياته تشير إلى قيامه بمراجعة فكرية عامة تجاه الدين ودوره في المجتمع ( هذا مااستشفّيته منه في حديث لي معه في بيت رياض سيف علم 2007، وجاء موقفه من الثورة السورية المتقدم على كل اليسار السوري ليؤكد هذا المنحى، ولكن القدر لم يمهله كما تعرف.
باختصار ياصديقي أشّبه دراستك بالعروس الجميلة في ليلة زفافها، ولكن العنوان شكّل بقعة قذارة ضربت وجه العروس، وهي في طريقها إلى حفلة الزفاف. أنا شخصيًا أقدر الجانب السياسي الذي تنطلق منه، وأتعاطف معك ضد سلوكهم تجاهك، ولقد لقيت منهم نفس السلوك، وربما أبشع، وهم الآن يلقون نتيجة سلوكهم لتظهر مؤسسة مثل مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” تحترم الرأي الآخر أكثر منهم.
وها أنذا أنهي مداخلتي كما بدأتها، ومن تجربتي الشخصية.
تخرجت عام 1970 ودخلت سلك التدريس، وعينت مدرسًا في ثانويات اللاذقية. ما لفت انتباهي هو منهاج الصف الثالث الثانوي للعلوم، والذي درّسته حتى عام 1975 – قبل أن أنتقل الى دار المعلمين- تحت اسم “علم الأحياء”، لاشك أن الدكتور واصدقاءه كانوا وراء ذلك الكتاب الذي يشرح برصانة علمية انتقال الحياة من البسيط إلى المعقد بمساعدة التكيف والتطور، والذي يدعمه علم الأحقاب الجيولوجية وعلم المستحاثات.
عمل الإسلاميون بجد لكي يستبدلوا بذلك المنهاج منهاجًا آخر يجعل الوحدات فيه تتجاور بين علم النبات وعلم الحيوان والتشريح والتصنيف النباتي، وحذفوا كليًا ما يتعلق بتفسير العلم لأصل الحياة، وساعدهم على ذلك الحركة التصحيحية التي كانت تريد أن تكسب رضاهم في المجتمع.
بالطبع كان وما يزال ذلك التعارض في سورية حتى كتابة هذه السطور بين مادة التربية الدينية وبين مادة العلوم الطبيعية في مدارسنا، وهو يشوش ذهن طلابنا. لقد حضرت شخصيًا أكثر من
معركة كلامية نشأت في قاعة المدرسين بين أساتذة العلوم وأساتذة الديانة وكانت تصل أحيانا الى التشابك بالأيدي.
والآن ونحن على أعتاب مرحلة جديدة – شئنا أم أبينا – لا بد من حّل لهذه المعضلة التي تتجلى ليس في التدريس فقط بل في كل نواحي المجتمع حيث مازال العلمانيون والإسلاميون كما كانوا، وهو ما شّوه وجه ثورتنا أمام العالم.
مازال كثير من العلمانيين السوريين يصرون على إنكار دور الدين في المجتمع، وهم لا يتجاوزون خمسة بالمائة، فالدين -في رأيهم- هو سبب تخلفنا، ويجب أن نقصيه عن التدخل في السياسة.
أما الإسلاميون فهو كما قال عنهم الصديق العزيز علي العبد الله الذي يصف نفسه بأنه مسلم متدين: يريدون من الإنسان أن يخدم الدين في حين جاء الدين لخدمة الإنسان.
الحل الوحيد لمشاكلنا هو مراجعة الجهتين ماضيهما، واستخلاص العبر والدروس من ذلك الصراع، بحيث يقر العلمانيون بدور الدين – وتحديدًا الإسلامي في نهضتنا؛ كونه يحضّ معتنقه على التدخل في الشأن العام – يلزم لذلك فصل الدولة عن الدين وليس فصل الدين عن الدولة، وترك الدين يتحرك في المجتمع بشكل مستقل هو وقيمه التي تدعو إلى السلام والمحبة ونصرة الإنسان المظلوم. في حين يتطلب ذلك من الإسلاميين الكفّ عن زعبرتهم حول مجتمع الربوبية وتصوير كل ملحد على أنه لايحلل ولايحرم على عكس سلوك نبيهم الذي كان له الفضل الأول في إنتاج وثيقة المدينة التي هي عقد اجتماعي بين الجميع يحاسب فيها الإنسان على عمله في الدنيا ويترك الحساب عن عدم إيمانه إلى يوم الآخرة.
نهضتنا تحتاج إلى طريق جديد يتنافس فيه العلمانيون والإسلاميون تنافسًا شريفًا لخدمة الإنسان الذي هو الغاية لدى الجانبين بدلًا من الصراع بينهما.
متى ما اتفقنا على ذلك يحل تشوش أذهان طلابنا، وتصمم مناهج تعرض النظريتين بحياد واحترام عن أصل الحياة جنبًا إلى جنب في مناهج مدارسنا وجامعاتنا.

رابط البحث :

https://goo.gl/1PrCs7