هل تنجح التفاهمات الدولية في تجنب المأزق الروسي ؟

     لم يعد من العسير، أمام المتتبع للشأن السوري، تفكيك ألغاز التطورات المتلاحقة في هذا الملف، وإدراك أبعادها الدولية والإقليمية وانعكاساتها الداخلية عموماً. لاسيما أن هذه التطورات قد حملت معها العديد من المؤشرات على تحولات جدية محتملة من شأنها تغيير الوضع القائم في الأزمة السورية. كان أبرزها الاشتباك الإعلامي بين أذرع “بوتين” من جهة وشبيحة “الأسد” من جهة أخرى، مع ما رافقه من خروج -صراع الأسد مخلوف -إلى العلن، وما يمكن أن يحمله من تداعيات وسط حاضنة النظام ومؤيديه. ثم إعادة انتشار ميليشيا الحرس الثوري الإيراني بعد إخلاء مواقعها على خلفية الغارات الإسرائيلية المتلاحقة ومثيلاتها من التحالف الدولي. وتواتر الحديث مؤخراً عن جهود أمريكية لتطويق إيران وإغلاق ممرها البرّي نحو شواطئ المتوسط. إلّا أن تصريحات الممثل الأمريكي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري” بالدعوة لمغادرة جميع القوى العسكرية المتدخلة في الشأن السوري باستثناء روسيا، تعبِّر عن وجود تفاهمات جديدة تسعى لمعالجة الأزمة السورية التي قد تشهد مرحلة من التحولات تديرها قوى الاحتلال على الأرض السورية، لعل عنوانها العريض وضع حد للصراع العسكري الذي باتت أفاقه مسدودة، وصار المطلوب تكريس نتائجه بالانتقال نحو مرحلة التفاوض والتوافق تحفظ مصالح الأطراف المنخرطة في الصراع ، وتكون فاعلة في رسم معالم الحل وتحديد شكل الدولة السورية الجديدة، والنظام السياسي الذي يحكم مستقبلها في ظل اتفاق الدول الكبرى على إخراج إيران من المعادلة السورية، مع ما يستوجبه من تغييرات في هرم السلطة واختيار السيناريو الأنسب للحفاظ على الأمن في مرحلة ما بعد الأسد تعزيزاً للرؤية الأمريكية- الإسرائيلية المشتركة.
  وإذا كان بيت القصيد يكمن في فهم احتمالات تغير الوجهة الروسية، فلا بد من التأكيد أن قاعدة المصالح والأهداف تبقى المحرك الرئيس لتوجهات موسكو، وأن ما يطرأ عليها من تبدّلات، يندرج في إطار التأقلم مع المعطيات المستجدّة وتجنب الخيارات الأسوأ خاصةً عندما يكون الخيار بين الحفاظ على المصالح أو الغرق في وحول المعضلة. يشهد على ذلك سعيها لتثمير اتفاق سوتشي في إدلب بعد فشل رهانها على تأهيل الأسد، وحرصها على عدم حصول مواجهة شاملة مع شريكها التركي، تعرضها لخسارات كبرى قد تصل إلى حدود الفشل الاستراتيجي. وربما تعود للانقضاض مجدداً على إدلب انتقاماً لخسائرها في ليبيا على يد الأتراك. إلا أن الزمن الروسي بعد جائحة الكورونا وانخفاض أسعار النفط واستمرار العقوبات الأمريكية والأوروبية سيجبرها على تقليص خياراتها إلى حد بعيد ويجعلها تدرك عدم جدوى مواصلة الخيار العسكري، وقد تؤدي مكابرتها لضياع مكتسباتها وجرّها للغرق في المستنقع السوري كما تنبأ لها “جيفري” كواحد من أهداف إدارته تجاه روسيا. وبات الخيار الوحيد أمامها البحث عن تفاهمات جديدة مع الأطراف الفاعلة لبناء توجه استراتيجي جديد ينطلق من ضرورة إيجاد حل سياسي يضمن تعاون القوى الدولية وتوافقاتها لتتجنب خسارات عسكرية وسياسية كبيرة، لكن هذا الحل مازال يصطدم بتعنّت النظام وإيران اللذين يصران على إفشال المسعى الروسي بهذا الاتجاه. ولابد من تمهيد الأرض وإنضاج الظروف المواتية لتفعيل هذا التوجه بعدما أيقنت أن تحجيم إيران والضغط على نظام الأسد ليس مجرد شأن عسكري يمكن معالجته، لكنه يشكل تهديداً حقيقياً لكل ما بناه الروس، وقد يفضي إلى انفجارات شعبية واسعة في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة تعيد ثورة السوريين إلى بداياتها.
  وفي هذا السياق سارعت موسكو إلى استباق قانون قيصر لحماية مصالحها في سوريا وإدارتها بشكل مباشر عبر تعيين ممثل شخصي للكرملين مهمته الإمساك بالملف السوري بكل تفاصيله، ثم أتبعتها بإجبار الأسد على توقيع بروتوكول يضمن لموسكو إمكانية توسيع نفوذها البري والبحري حول قواعدها العسكرية على الساحل السوري بما يمهد الطريق أمام بوتين ليكون المقرر الأول في الشأن السوري أمام بقية الاطراف الدولية والإقليمية.