يمثل أي حقل من حقول الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية مساحة من الإمكانيات ، يقوم العاملون في هذا الحقل باستثمارها وفق مواقعهم المترتبة وفق بنية تفاضلية . وتكون آلية الاستثمار إما بصراع مصالح لتبادل المواقع ، أو بتغيير قواعد اللعبة داخل الحقل ، أو بتغيير توزيع رأس المال لهذا الحقل .
وقبل أن يتمكن الفرد من العمل على استثمار ساحة الإمكانيات للحقل عليه أن يمتلك جواز سفر مختوماً بختمين :
الأول هو الاعتراف بقواعد اللعبة داخل الحقل بما تتضمّنه من رأسمال رمزي ، وبالمواقع التي يحتلّها اللاعبون فيه بما يشتقّ منها من أدوار متوقعة لكلّ منهم .
والختم الثاني هو المعرفة بتاريخ الحقل ، وسيرورة تطوره ، ومفاهيمه ، وأدواته المعرفية والإجرائية .
وما لم يتمكّن من ختم جواز السفر بختمي الاعتراف والمعرفة فإنه سيظلّ متطفلاً على الحقل منبوذاً منه ، أو في أحسن الأحوال هاوياً لم يرق إلى درجة الاحتراف .
في حقل الثقافة الدينية يمثّل المتطرّفون نموذجاً لهؤلاء المتطفلين فهم يفتقرون إلى الاعتراف وإلى المعرفة ويتجلّى ذلك في إصرارهم على أن الدين نصّ متعال يفهم بحرفيته بدون منهج للتأويل يجعله معاصراً للحاضر مستجيباً لاهتماماته وهمومه .
وفي جعل الهويّة دالة لهذه الرؤية المفارقة للنص بما يستلزمه ذلك بالضرورة من إقصاء للآخر
بالطبع هم في التحليل السوسيو ثقافي نتاج غلبة نسق ثقافي وافد على النسق الثقافي للبيئة والمجتمع اللذين وجدوا أنفسهم فيهما ، الأمر الذي دفعهم إلى التسلّح بالماضي بالصورة التي وصفناها كآلية للدفاع عن النفس .
كما إنهم نتاج انفجار منظومة القيم التي تصبح في سياق تاريخي معين غير قابلة للصرف والتحويل والاستثمار بما يستجيب لظروف العصر ومتغيراته ، الأمر الذي يورّث لديهم شعوراً بالاغتراب يجعل صاحبه أعمى وعدميّاً ومبغضاً للعالم والآخر .
وأحد الحجج التي نحسبها قاطعة على قصور معرفة هؤلاء بالحقل الذي يدّعون أنّه حقلهم ، التبريرات للفعل الذي يسمونه “استشهادياً ” وهي تبريرات لا ترقى إلى مستوى التأصيل الشرعي السليم إذا أردنا التحاور بأدواتهم نفسها .
وما قلناه عن تهافت التأصيل الشرعي لهذا الفعل يجد مستنده في فقدانه للأسس الثلاثة التي تبرّره من منظور شرعي .
فقتل أبرياء جائز حتى لو كانوا من جبهة الاستشهادي إذا وفقط إذا تحققت شروط ثلاثة وضّحها الغزالي في مستصفاه :
أن تكون العملية ضرورية بمعنى وقوعها في الصنف الأول من الأصناف الثلاثة (والصنفان الآخران هما الحاجيات والتحسينيات ) التي آلت إليها القسمة لأفعال البشر في أصول الفقه الإسلامي ، وصفة الضرورة كفيلة بجواز خرق حتى المحرّمات بدون وزر .( ومثالها إباحة شرب الخمر للضرورة عندما يهدد العطش بالموت ، وحيث لا وجود لشراب غيره وهو مسموح بقدر الضرورة فقط ) .
وأن تكون قطعيّة بمعنى أن مصلحة المسلمين مستحيلة التحقّق بدونها .
وأن تكون كليّة أي أنها تحقق مصلحة المجموع .
وليس شاقّاً الاستنتاج أن هذه العمليات التي سنّتها التيارات الجهادية المتطرفة لا تحقق أيّ شرط من هذه الشروط الثلاثة ؛ فلا هي كفيلة بتحقيق مصلحة كلية ( والتجارب تؤكد ذلك ) ، ولا هي قطعيّة ، وليست السبيل الوحيد الممكن انتهاجه للوصول إلى الهدف ، ولا هي من صنف الضروريات.

المتطفلون الأكثر لفتاً للنظر في ظروفنا هذه هم المتطفّلون على الحقل السياسي ، هؤلاء الذين تزخر بهم الحالة السورية فلا هم قادرون على الاعتراف بقواعد اللعبة السياسية المولّدة للمارسات ، ولا هم متزوّدون بالحدّ الأدنى من المعرفة بالسياسة كعلم وممارسة .
المؤلم في الحالة السورية أنّ الجسم السياسي المعارض غالبيته من هؤلاء المتطفّلين الذين تسلّلوا إلى الحقل عبر طريق غير نظامي لأنهم لا يملكون جواز سفر مختوماً بختمي الاعتراف والمعرفة ، والأنكى أنهم لإحساسهم الدفين بالنقص صاروا يتصرّفون على أنّهم القادة .
وأحد الأدلة التي نسوقها على قصور المعرفة بالحقل السياسي ما سمعناه من أحد السياسيين الذي يقرر أن ” كل ديمقراطي في العالم يرفض الضربة الغربية للنظام السوري ” .
عبارته هذه الموضوعة بين قوسين هي من صنف القضايا الكلية الموجبة كما يقرّر علم المنطق وهي قضايا تبدأ بكلمة ” كلّ ” ومثالها ” كلّ حيوان يموت ” ، وقد سمّيت كذلك لأنها تستغرق كل أفراد الموضوع ، وهو في مثالنا جنس الحيوان بحكم المحمول وهو الموت ، وتوجب وقوع الموت ” المحمول ” على كلّ أفراد الموضوع الذي هو جنس الحيوان .
ويستخدم هذا النوع من القضايا في حقل القضايا الوجودية كالمثال السابق ، أو الظواهر الطبيعية مثل “كل ماء يغلي في درجة حرارة معينة “.
ولكن استثمارها في القضايا الوجودية أكبر منه في الظواهر الطبيعية في التراث الإسلامي لغلبة الفكر الأشعري على هذا التراث و الذي يؤمن بإمكانية خرق قاعدة السببية التي تحكم الظواهر الطبيعية إذا شاءت قدرة الله .
المدهش هو استخدامها في ميادين اخرى لا يمكن لثوابتها أن تكون على سويّة ثوابت القضايا الوجودية أو الظواهر الطبيعية التي أشرنا إلى محذور حتى في استخدامها فيها . فهذا السياسي القيادي يقرر قضية كليّة موجبة في شأن سياسي سائل ومتغير ولا يقبل فرض ثوابت لا يطالها التغيير بحكم طبيعته التي ليست من صنف القضايا الوجودية ولا الظواهر الطبيعية فيقول : “كل ديمقراطي في العالم يرفض الضربة الغربية “
استخدام قضية كلية موجبة في مناقشة وضع سياسي وفي حالة خاصة جداً كالحالة السورية مليئة بالمتغيرات ، ومفتوحة على شتّى الاحتمالات ، وذات قابليّة كبيرة للاختلاف في وجهات النظر يثير الدهشة .
فيبدو أن الرجل يجهل أدوات النقاش السياسي ، فيستعير له أدوات لا تصلح له ولا قبل له أصلاً باستقبالها .
نكوص المتطرفين دفاع للذات المهزومة ثقافياً عن نفسها ، والمتسلّلون إلى الحقل السياسي نتاج عهود الاستبداد وانعدام الحياة السياسية لكنّ الفرق بينهما أن المتطرفين مستعدّون لتقديم أرواحهم في حالات كثيرة تلبية لما يعتبرونه نداء ” الله ” ، أما هؤلاء فإنّ المكاسب الشخصية غايتهم ومطمحهم – طبعاً مع استثناءات لأفراد مخلصين ذوي تاريخ نضالي – .
لوجود هذين النموذجين الدور الأكبر في تعويق مسيرة الثورة ، وفي رسوب المعارضة في اختبار إقناع العالم بنفسها وبصلاحيتها وبكفاءتها .
وفي سلم الأولويات نرى أن إقصاء المتطفلين على الحقل السياسي لا يقلّ إن لم يكن أكثر أهمية من نبذ المتطرفين فقد أُجهدنا من عبثهم بمصائرنا ومصائر أبنائنا وحاضر ومستقبل وطننا .