“وعدناكم أن نبقي الأمور سلمية .. ولكن إذا أردتم الرصاص، سوف تنالونه”.
هذه هي الرسالة التي وجهتها الطائفة الدرزية في محافظة السويداء جنوبي سورية، إلى بشار الأسد، بعد ثلاثة أيام من الاحتجاجات الكثيفة. ومنذ ذلك الحين، اشتدت معارضتها لنظام الأسد. ورغم خروج مسيرات مؤيدة للنظام يوم الأربعاء، فقد تم تهديد موظفي الدولة من قبل المخابرات ما لم يشاركوا، نزل المتظاهرون إلى الشوارع ضد الأسد مرة أخرى يومي الأربعاء والخميس، حمل بعضهم أعلام الثورة السورية.
حتى الآونة الأخيرة، نأى الدروز، وهم أقلية طائفية في سورية، بنفسها عن الصراع السوري المرير المندلع منذ تسع سنوات، غير أن الأزمة الاقتصادية العامة دفعتهم إلى التظاهر في الشوارع. وتوجه المتظاهرون إلى الأسد مباشرة بالقول “يلعن روحك، نحن قادمون”، وعبروا عن تضامنهم مع إدلب، المعقل الأخير للتمرد المسلح ضد الأسد.
على روعتها، فإن احتجاجات السويداء مجرد عرض لأزمة أكبر بكثير تعصف بقلب نظام الأسد وآفاقه في البقاء. شكل قرار الأسد بإقالة رئيس وزرائه عماد خميس مؤشراً واضحاً على أن الانهيار الاقتصادي والمظاهرات السلمية الأخيرة تشكل تحدياً حقيقياً لشرعيته.
شاع، لبعض الوقت، إعلان الأسد بوصفه المنتصر في سوريا، (الأسد هو ديكتاتور نجح في الاحتفاظ بسلطته في وجه ثورة من خلال القمع الوحشي والاستفادة من الدعم الذي وفرتها له إيران وروسيا). لكن هذا الإعلان لم يكن دقيقاً أبداً. ربما نجح الأسد في سحق معارضي حكمه الديكتاتوري في 60 في المئة من البلاد، ولكن في عام 2020، فإن كل الأسباب العميقة لانتفاضة 2011 ليست قائمة فحسب، بل وتفاقمت.
التحديات التي تواجه انتعاش النظام ومصداقيته وبقاءه، لا تزال قائمة في كل ركن من أركان البلاد. للمرة الأولى منذ ما يقرب من عقد من الزمان، بدأ ملايين السوريين الذين يدعمون الأسد ظاهرياً أو الذين ظلّوا مستسلمين لحكمه، يتبادلون الهمسات الساخطة. بالنسبة لمعظم السوريين، فإن الحياة في عام 2020، أسوأ بكثير منها في ذروة الصراع المسلح على الصعيد الوطني في 2014 و2015. لقد دمّر الأسد بلاده واقتصادها، بسبب تمسكه بالسلطة.
تشكل هذه اللحظة الجديدة وغير المسبوقة تقريباً فرصة لأميريكا. على الرغم مما يبدو من إهمال إدارة ترامب، والبيت الأبيض بوجه خاص، للشأن السوري، فإن لديها فرصة الآن. فرصة أن تستخدم أميريكا أوراقها المتبقية لاستغلال ضعف الأسد الآن، في جهد دبلوماسي نشط، بالتنسيق مع العديد من حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط وأماكن أخرى، لفرض تغييرات حقيقية، وإلا فإن سورية يمكن أن تصبح مصدر حرائق عالمية.
في الوقت الحالي، مع الأخذ في الاعتبار كل الظروف الحالية، يبدو أن هناك ثلاثة سيناريوهات في الأفق. من ناحية، يمكن للأسد أن يسير بسوريا على طريق كوريا الشمالية، ويعزل البلاد عن الاقتصاد العالمي، ويرسخها كدولة منبوذة عالمياً، ويحاول توحيد الموالين عبر تحفيزهم باتخاذ دور الضحية. خلال السنوات التسع المنصرمة، جهز الأسد، بطرق عدة، قاعدته الموالية، ولا سيما الأقليات الكثيرة في سوريا، رغم أنه من المشكوك فيه اليوم أن يتمكن من بناء عبادة شخصية مستقرة.
يمكن للوضع في سوريا أيضاً أن يتخذ مساراً أسوأ، حيث يمكن أن تدخل في أزمة منهكة تمزق نسيج البلاد، مخلفة مستويات أعلى من العوز والمجاعة وتفاقم الإجرام و أعمال السلب. في هذا السيناريو، ستتفكك وحدة الموالين بالكامل، وسنكون أمام دولة فاشلة من نوع الصومال تمثل كارثة لحقوق الإنسان وأرضاً خصبة للمتطرفين الخطرين ولعدم الاستقرار في المنطقة.
أو في النهاية، كما قال لي، في الأيام الأخيرة، العديد من الموالين الدائمين للنظام في جلسات خاصة، يمكن لهذه الأزمة الداخلية غير العادية أن تؤدي إلى تغيير في القمة. قد تمثل هذه اللحظة، في نظر هؤلاء الموالين، تهديداً لبقاء الأسد في السلطة يتخطى كل التهديد الذي فرضته المعارضة في ذروة قوتها في السنوات الماضية. وفق هذا السيناريو، قد يبدو أن استمرار الأسد خيار مقيت جداً للسوريين لدرجة أن الغضب وعدم الاستقرار وخيبة الأمل، مع بعض الدفع الروسي، قد ينتهي بإقصاء الأسد لصالح شخصية أخرى راسخة في النظام.
ولكن يوجد سيناريو آخر، يمكن لأميريكا أن تلعب فيه دوراً مهماً مع حلفائها في أوروبا وفي الشرق الأوسط نفسه.
الوضع في سورية يثير قلق روسيا، وهي مع إيران المصدر الأساسي للدعم الخارجي للأسد. في موسكو، نقرأ نقداً (في الإعلام وفي المجالس الخاصة) لم يسبق أن كان بهذه الحدة. التدهور الاقتصادي المتسارع وربما غير القابل للعلاج في سورية، إضافة إلى تفاقم العزلة السياسية عن المجتمع الدولي، قد يحفز، إن لم يكن قد حفّز بالفعل، شعوراً عميقاً بعدم الارتياح في روسيا وإيران، ما يجعلهم عرضة للخطر. ومن المحتمل حينها أن يكونا منفتحين على النظر في شكل من أشكال التسوية الدولية التي تفتح الباب أمام التدرج في عودة الاندماج وتخفيف العقوبات.
ربما عانى النفوذ الأميركي في سوريا، من قرارات الرئيس دونالد ترامب المتقلبة، لكن الولايات المتحدة لا تزال مهمة في المنطقة والعالم، ولديها فرصة في صياغة النتيجة. في الواقع، يوفر الضعف الذي يعانيه الأسد اليوم فرصاً مهمة أكثر من أي وقت سابق.
في الشهور الأخيرة، انهار الاقتصاد السوري، ما أدى إلى التضخم وإغلاق واسع في الأعمال، ونقص المواد الغذائية وزيادة البطالة. أصبح سعر الدولار 2400 إلى 3000 ليرة سورية. 85% من السوريون يعيشون تحت خط الفقر، ولم ينجح النظام في الحصول على ما يكفي من القمح لما تبقى من 2020، ما يعني أن السوريون سيعانون من نقص الخبز مع الأيام. تحذر بعض المنظمات غير الحكومية من المجاعة التي يمكن أن تحل بسورية في وقت لاحق من هذا العام أو في 2021. وما يزيد الطين بلة، تزايد بطيء في حالات الإصابة بفيروس كوفيد 19.
في غضون ذلك، تقرر تركيا تحويل الاقتصاد في شمالي حلب (منطقة تسيطر عليها تركيا عسكريا عبر وكلاء سوريين معارضين لنظام الأسد) للتعامل بالليرة التركية، ما يخرج حوالي 10% من السوريين من دائرة التعامل بالليرة السورية، ويقال أن هناك خطة لفعل الشيء نفسه في إدلب، حيث يقطن حوالي 18% من السوريين. إن خروج ما يقارب 30% من السوريين من التعامل بعملتهم الوطنية قد يكون مسماراً في نعش الاقتصاد السوري. عملياً، لا يملك حليفا الأسد الرئيسيين، روسيا وإيران، ما يفعلانه من الناحية الاقتصادية لإخراج سورية من هذه الأزمة.
وقد فتح الأسد، تحت ضغط حاجته الملحة للمال، جبهات فوضى جديدة في بيت الحكم الداخلي. أبرز هذه الجبهات كان مع ابن خاله وصديقه القديم وأغنى رجل أعمال في سورية، الملياردير العلوي رامي مخلوف، الذي يُعتقد أن أمواله قد ساهمت في إنقاذ النظام خلال السنوات التسع المنصرمة، أكثر من اي عامل آخر. فقد دعمت المخابرات السورية جهود منسقة للاستيلاء على ممتلكات مخلوف الثمينة، بما في ذلك شبكة الهاتف الجوال الرئيسية (سيريتل)، التي يزعم مخلوف أنها كانت تقدم خدمة مجانية للجيش والمخابرات. وتم وضع مخلوف تحت الإقامة الجبرية. لكن مخلوف لم يسكت، فقد نشر فيديوهات تصف خيانة النظام وإجرامه، وقد ولد هذا النزاع قلقاً في مجتمع الأعمال في سورية. ومن الواضح أن مخلوف لن يكون الهدف الأخير للأسد المتعطش للسلطة، ولاسيما أنه يلهث اليوم طلباً للمال، وسط الانهيار المالي الذي تعيشه سورية.
من المهم أن نشير هنا إلى أن الأزمة الاقتصادية السورية ليست ناجمة فقط عن العقوبات التي تفرضها أميريكا وأوروبا، وهي أساساً عقوبات ضد أفراد ومؤسسات تعتبر شريكة في جرائم حرب، رغم أن العقوبات زادت من مفاعيل التدهور. الحقيقة أن سورية عانت أساساً من الأزمة الاقتصادية في لبنان، إضافة إلى مستويات الفساد العالية وانعدام الكفاءة في النظام وفي كل المؤسسات الحكومية. فرغم المكاسب العسكرية المتلاحقة منذ 2018، ثابر الأسد بعناد على إعطاء الأولوية لحملاته العسكرية المكلفة والوحشية ضد مواطنيه في إدلب، حيث تسبب في تهجير حوالي مليون منهم في 2019.
وما يزيد من عدم الاستقرار، خارج المجال الاقتصادي، فشل الأسد في فرض الاستقرار في المناطق التي استعادها من المعارضة. فإضافة إلى الانتفاضة في السويداء، شهدت درعا (مهد الثورة) عصياناً مسلحاً متزايداً تجسد في مئات الهجمات وقتل مئات الأرواح في السنة الماضية. كما تظهر داعش اليوم في الصحراء الوسطى التي يسيطر عليها النظام. فوق هذا، ضاعفت تركيا من وجودها لحماية ما تبقى من معارضة في الشمال الغربي، وقد شنت حملة جوية غير مسبوقة ضد القوات العسكرية السورية في آذار الماضي. وفي غضون ذلك، تواصل اسرائيل الاستخفاف بالسيادة السورية في ضرب أهداف إيرانية حين تشاء، ومن المؤكد أن تركيا توطد لنفسها وجوداً دائماً في شمال حلب.
لا يوجد حل سحري للمشاكل الكثيرة في سورية، وإذا كان هناك من حل، فإن أميريكا لا تقدمه في سياستها الحالية. سورية مهمة للأمن الوطني الأميريكي ولمصالحها في الشرق الأوسط. إن التأثيرات المخلة بالاستقرار التي نجمت عن الأزمة السورية ومست العالم خلال العقد المنصرم، هي دليل ملموس على أهمية سورية. فموجات الهجرة التي وصلت إلى أوروبا، ساهمت في صعود الشعبوية وسياسات اليمين المتطرف في كل العالم، إلى جانب البريكسيت وضعف الاتحاد الأوروبي. كما أن الصعود الصاعق لداعش والرد العسكري العالمي الواسع، هو من تبعات الحرب الأهلية السورية. ولا نبالغ إذا قلنا إن الفوز الدراماتيكي لترامب في انتخابات 2016، يعود، في جزء منه، إلى الفوضى السورية.
بقائمة طويلة من جرائم الحرب، تشمل أكثر من 350 هجوماً بالأسلحة الكيماوية، حطم الأسد المعايير الدولية، كما لم يفعل أحد آخر في التاريخ الحديث. وقد عادت روسيا، بتحد، إلى الشرق الأوسط، وسحبت إلى صفها ثاني أكبر جيش في حلف الناتو (تركيا)، مضعفة الفاعلية والمصداقية الأميريكية في كل المنطقة. كما استثمرت إيران في المشاكل السورية لتحقيق الهدف الذي تحلم به وهو إنشاء قوس من الفاعلية يمتد من طهران إلى بيروت وفلسطين، معيدة تشكيل ديناميات القوى في المنطقة. وأخيراً، فإن صمت العالم عن جرائم الحرب التي ارتكبها الأسد، إضافة إلى 700 ألف قتيل وحوالي 12 مليون مهجر، غذى حقبة من الانعزالية العالمية يزدهر فيها الديكتاتوريون.
لأميريكا دائماً مصلحة في المساعدة على حل الأزمات السورية، ولكن من النادر أن تتاح لنا فرصة مناسبة كالفرصة المتاحة الآن. فلنا وجود عسكري، وإن كان محدوداً، في شرق سورية، حيث نساعد في السيطرة على حوالي 25% من مساحة البلد تحوي معظم موارد سورية من النفط، وهذا الوجود يعطينا مكاناً هاماً على الطاولة، فضلاً عن أوراق النفوذ الأخرى المستمدة من نفوذنا الديبلوماسي ومن الضغوط التي تشكلها العقوبات الاميريكية والأوروبية. يمكن أن يتكشف السبيل الوحيد المتاح لسوريا من أجل الخروج من هذه الأزمة التي تفاقمت مؤخراً، عندما تفتح أبواب الديبلوماسية الدولية وإعادة الاندماج الاقتصادي، غير أننا لا نزال مصرين اليوم على إغلاق هذه الأبواب.
سوف يصبح فتح هذه الأبواب أكثر صعوبة عندما يدخل، في غضون أيام، أصعب نظام عقوبات واجهته سورية (قانون قيصر)، حيز التنفيذ، ما سيمنع الجميع، صديق أو عدو، من أي تعامل اقتصادي مع نظام الأسد. هذه خطوة مهمة وفي التوقيت المناسب، ولكنها تفتقد على نحو غريب، لمسار ديبلوماسي جدي للعمل، مسار يمكن أميريكا الاستفادة من اللحظة الأضعف التي يمر بها نظام الأسد خلال تسع سنوات.
في الأسابيع الأخيرة، دخلت وزارة الخارجية الأميريكية في مشاورات سرية مع موسكو حول جدوى اطلاق مسار ديبلوماسي سوري جديد، وهذا هو الوقت المناسب لتفعيل ذلك. صحيح أن روسيا فعلت الكثير في سورية بثمن بخس، عاملة على إخضاع المعارضة بوحشية، وعلى خداع المجتمع الدولي في لعبة بوكر عالية المخاطر، إلا أن الكرملين لا يستطيع أن يتحمل البقاء بالأوراق المتوفرة في سورية اليوم. الإنذار الذي ينبغي أن تقدمه واشنطن لموسكو بسيط: من السهل أن نحافظ على العزلة الاقتصادية لنظام الأسد، وهذا أمر مكلف وخطير بالنسبة لكم، ولكن من السهل فك العزلة مقابل تنازلات سياسية مهمة من دمشق. مثلاً، عملية سياسية حقيقية تقود إلى التشارك في السلطة، ووقف إطلاق نار شامل، والإفراج عن آلاف السجناء السياسيين، وإصلاح دستوري، وقبول اللامركزية وإجراء انتخابات تحت مراقبة دولية تشمل المهجرين.
صحيح أن هناك قنوات خلفية مع موسكو، وحوار مع أوروبا، لكن هذا غير كاف. من مصلحة واشنطن أن تدفع الكرة الديبلوماسية الآن. إذا فشلنا في العمل الحازم والمنسق مع حلفائنا في هذه الفرصة السانحة، فسوف نندم.
رابط المقال :
https://www.politico.com/…/06/11/assad-syria-collapse-313276