كان ينبغي لحسن نصرالله الظهور والتحدث، لحسن الحظ المناسبات موجودة بحيث لا يكون ظهوره استثنائياً. لكن، هذه المرة، في مناخ من التحليلات والتكهنات عن آفاق الوجود الإيراني في سوريا، وعن مصير بشار الأسد ربطاً بإعادة ترتيب الساحة السورية، ليس هناك من ناطق بالاسم المجازي “محور المقاومة” سواه. هو المتحدث بالنيابة وبالأصالة في الشأن السوري منذ عام 2011، وهو الذي يؤخذ على محمل الجد من قبل موالي الأسد أنفسهم الذين باتوا يتأرجحون بين موالاتهم وعدم الثقة بأن الأخير يملك الكفاءة والقدرة المطلوبتين، فضلاً عن السند الخارجي الموثوق.
كعادته، في خطابه قبل ثلاثة أيام، كرر نصرالله الكلام المعهود عن المؤامرة الكونية على سوريا وعن فشلها، والحديث عن سوريا استهلك معظم إطلالته في السنوية الرابعة لمقتل مصطفى بدر الدين أحد كوادر الحزب، والذي يؤكد على أنه كان يخوض المعركة في سوريا كتفاً إلى كتف مع قاسم سليماني. في التصدي للمؤامرة المزعومة، أول ما يلفت الانتباه بقوة هو اقتصار حديثه على الدور الإيراني والميليشيات المتفرعة عنه، مع إغفال مطلق للدور الروسي. الإشارة الوحيدة إلى هذا الدور أتت في سياق التحدث عن حرب نفسية موجهة ضد “سوريا”، من ضمنها ترويج الأخبار عن صراع نفوذ روسي-إيراني، الأمر الذي ينفيه بالقول أن طهران لا تخوض صراع نفوذ مع أحد، وليس لها أطماع في سوريا، ولا تريد التدخل في الشأن السوري كما تتدخل الدول في الدول، فما يعني إيران في سوريا أن تكون في موقعها المقاوم وهذا لا يدخل في صراع نفوذ مع أحد!
التلازم بين تجاهل الدور الروسي الحاسم في تحقيق “الانتصار” وإنكار صراع النفوذ جدير بالتوقف، فنصرالله ابتعد عمداً عن كل ما يتعلق بالسياسة الروسية في سوريا، وكأن الوجود الروسي لا يلقي بأية تبعات على نظيره الإيراني، ولو من باب التحالف والتنسيق الوثيقين اللذين يستحقان الذكر لدحض فرضية التنافس والصراع. إنه لا يدحض فرضية الصراع بالإشارة إلى تفاهم يستوعب الخلاف أحياناً، بل يدحضها بقوة الوجود والموقف الإيرانيين، وذلك لا يعود فقط إلى العامل الإسرائيلي لأن تنسيق موسكو الدائم مع تل أبيب يعود إلى مستهل تدخلها العسكري في سوريا، وحين لم يكن خروج إيران مطروحاً على هذا النحو. ما ينبغي استنتاجه أن طهران في موقع قوة مقابل الأجندات الروسية، وهي قادرة على إبقاء “سوريا في موقعها المقاوم” من دون صراع نفوذ مع أحد، أو بقراءة أبعد: بصرف النظر عما يراه ذلك الحليف.
يقرر نصرالله بحسمٍ أن إخراج طهران وميليشياتها من سوريا هدف لن يتحقق، ولن تؤدي الغارات الإسرائيلية إليه، وبينما يتوجه شكلاً إلى الإسرائيليين بكلامه فإن جهات أخرى لها الأولوية بسماعه الآن. ما تتضمنه الرسالة أن التغيير في سوريا ممنوع إيرانياً، وكل ما يُحكى عن اقتراب نهاية الأسد لن يُسمح بحدوثه. هي رسالة يمكن إيصالها إلى بشار شخصياً بالقنوات الخاصة بين الجانبين، لولا أن إيصالها مطلوب الآن إلى مواليه الذين وقعوا في حيرة واضطراب حيال الضغوط الروسية الأخيرة عليه.
في الحديث عن موالي الأسد، ربما صار محبَّذاً المضي أبعد. هي صفة عمومية تجمع بين معارضي التغيير، لتتفرق بعدها كتلتهم الصلبة إلى قسمين رئيسيين؛ الأول ولاؤه الفعلي لطهران وحزب الله متضمناً الانضواء بكل مندرجات المشروع الإيراني بما فيه التبشير الشيعي. الثاني أصبح ولاؤه لموسكو بحكم بدء سيطرتها على بعض المفاصل العسكرية والمخابراتية، وفوق ذلك لتفضيل الوجود الروسي الذي لا ينطوي على تبشير ديني أو مذهبي. في التنافس بين الجانبين، لا تفوز طهران بولاء الأقليات الدينية والمذهبية وفق فهم متسرع، لأن الأقليات لديها حساسية عالية تجاه مشاريع التبشير المذهبي التي تهددها أكثر مما تهدد الأكثرية السنية.
لقد قيل الكثير خلال سنوات عن النواة الصلبة الداعمة للأسد بالمقارنة مع تصدع جبهة خصومه، ولأول مرة بالتزامن مع الضغوط الروسية الأخيرة بدأ الانتباه والتركيز على تصدع جبهة الموالاة. وإذا كنا لا نعرف الهدف النهائي للضغوط الروسية الأخيرة فهي بلا شك أظهرت معسكر الموالاة أقل تماسكاً من الصورة السابقة المتداولة، فبرز بينهم من يتحمس للرد على الإهانات الروسية ومن يستنكر الرد على الحليف. بدورها أتت قضية رامي مخلوف لتضيء على تصدع الحلقة العائلية الضيقة لسلطة الأسد، ولتكشف خاصة عن أن الأخير لم يعد ذلك الطاغية الذي يُطاع داخلياً بلا اعتراض أو تذمر، إن لم يكن للقضية صلة مباشرة بالصراع بين موالي موسكو وموالي طهران.
فحوى حديث نصرالله عن تفاوت في التقييم بين الحلفاء، مع قرار إيراني حاسم بالوقوف إلى جانب “القيادة السورية” أثره الأكبر اليوم هو على موالي طهران، وعلى موالي موسكو الذين لم يعد قسم منهم متمسكاً ببقاء بشار، إذا كان في رحيله الخلاص من الحرب والحصار الدولي. هو يعزز من ثقة الفئة الأولى بمرجعيتها بقدر ما يلوّح للفئة الثانية بعجز موسكو عن اتخاذ قرار التنحية المخالف لمشيئة طهران، وقد لا يكون من المصادفة تركيزه على عدم وجود قوات إيرانية في سوريا، بخلاف الوجود المعروف للميليشيات الشيعية، بما يحتمله هذا التفريق من قدرة الأخيرة على العمل خارج منطق الجيوش والدول عند اللزوم، وهو أيضاً ما هدد به عضو “مجلس الشعب” الذي كان أول من تولى الرد على الإهانات الروسية لبشار الأسد.
في الأسابيع الأخيرة حدثت مستجدات عديدة تستدعي ظهور بشار لمخاطبة مواليه، بما فيها استغلال مناسبة كورونا كي لا يُفهم ظهوره رداً مباشراً على ما يُشاع حول شخصه، إلا أنه “ربما بنصيحة ما” أحسن التصرف فلم يتحدث كعادته بما لم يعد يطمئن مواليه ويكون مثار سخرية باقي السوريين. لا بأس على هذا الصعيد أن نتغاضى عما قاله نصرالله عن خوف إسرائيل من سوريا إذا استعادت عافيتها، وتأكيده أن إسرائيل قلقة، خائفة، مرعوبة من سوريا المستقبل. خطاب نصرالله المكرس لسوريا، بعد غياب لبشار، قد لا يكون مصادفةً، ومجيء الخطاب متزامناً مع تراجع الضغوط الروسية يحمّله مصداقية تتجاوز ما حدث إلى ما كان يأمل كثر بحدوثه قريباً.