لم تكن زلة لسان تلك العبارة التي أطلقها المستشار عبد الله فتحي، رئيس نادي القضاة، في توصيف المرحلة الأولى من الانتخابات النيابية في مصر: «ضعف الإقبال انعكس على حجم المخالفات، مفيش إقبال، مفيش تجاوزات، ومفيش ناخبين أصلا»!102015_0902_2

لكنها، أيضاً، كانت تصف ذلك الجانب الآخر، والأهمّ ربما، من هذه الانتخابات: أنّ العزوف الواسع عن المشاركة فيها كان يخفي ذلك «الإقبال» الكثيف، الزائف، الذي تمكنت من اجتذابه تلك اللوائح المقرّبة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والتي صنّعها رجالاته في السياسة والاقتصاد والإعلام، تحت إشراف مباشر من الأجهزة الأمنية المختلفة.

 

وإذا جاز احتساب قائمة «في حب مصر»، الفائز الأكبر حتى الساعة، في صفّ السلطة الراهنة؛ فإنّ تدقيقاً بسيطاً في أسماء مرشحي هذه اللائحة، ومطالعة أقلّ تدقيقاً في برامجها المختلفة، وعودة بسيطة إلى ذاكرة الماضي القريب، سوف تفضي إلى النتيجة المنطقية الوحيدة: أنها، إلى جانب الولاء للسيسي، قائمة تمثّل «الفلول» أيضاً، وربما بمقادير متساوية؛ وقائمة حسني مبارك، ورموز «الحزب الوطني» المنحلّ؛ وقائمة رجال الأعمال، من الثعالب إلى الذئاب والتماسيح، الفاسدين منهم أم «التكنوقراط»… ولهذا فإن القائمة هذه لم تكن بحاجة إلى ارتكاب تجاوزات، إلا بمعنى اعتماد تقنيات جديدة، وحديثة، في شراء الأصوات، وممارسة الترغيب والترهيب، خارج مراكز الاقتراع بالطبع.

بيد أنّ هذه المرحلة الأولى كشفت عن ثلاثة تطورات جديرة بالرصد، من حيث الأهمية السياسية والاجتماعية، خاصة إذا اتضح أنها تترسخ كسمات ثابتة سوف تطبع المرحلة الثانية أيضاً، وربما أية انتخابات أخرى مقبلة في مصر. أولى هذه السمات هي عزوف الشرائح الشبابية، التي سارت بحماس خلف انقلاب حزيران (يونيو) 2013، عن المشاركة في استحقاق سياسي هو الثاني الأبرز في عهد السيسي، قائد الانقلاب. وإذا كانت هموم هؤلاء لا تنفصل عن الحال العامة للشارع الشعبي العريض، من حيث انكسار الآمال التي عُلّقت على السيسي؛ فإنّ مشاعر المرارة والإحباط والخيبة التي تميّز سخط الشباب، إنما تتخذ أيضاً وجهة الإحساس بالخيانة، بالنظر إلى الأدوار الحاسمة التي لعبها الشباب في الإطاحة بنظام مبارك، ثمّ المشاركة في الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، وكذلك ما بذلوا من تضحيات.

السمة الثانية هي افتضاح ارتباط الإعلام المصري بأجهزة السلطة مباشرة، أو عبر رجال الأعمال مالكي الفضائيات وحلفاء النظام في نهاية المطاف. وهذا إعلام لم ينحدر إلى مستويات مريعة غير مسبوقة، من انحطاط الخبر وابتذال المعلومة وهبوط التغطية، فحسب؛ بل لجأ أيضاً إلى تخويف المصريين، والتذكير بغرامة الـ500 جنيه للممتنع عن الاقتراع، بل وحثّ السلطة على جباية هذا المبلغ من أجل تدعيم موارد الدولة! صحيح أنّ هذا الإعلام قد تجاوز، في عهد السيسي خاصة، كلّ معايير الالتزام المهني والأخلاقي، إلا أنّ مستوى التحريض ضدّ مقاطعي هذه الانتخابات صار مضرب المثل… الأقبح والأشنع.

السمة الثالثة هي سقوط التيار السلفي، ممثلاً في «حزب النور»؛ ليس في المواجهة مع كتلة السلطة فقط، بل كذلك في المناطق الريفية التي كانت تُعدّ معاقل كبرى للتيار، واعتُبرت على الدوام بمثابة «فزّاعة» تخيف حلفاء «النور» قبل خصومه. سبب أوّل منطقي وراء هذا السقوط هو انكشاف حقيقة التيار من حيث خواء برامجه وتقلّب مواقفه وارتباطه بآلة النظام. والسبب الثاني هو أنّ تحالف السلطة لم يعد بحاجة إلى جهة استقطاب إسلامية تمنحه شهادة حسن سلوك دينية، وتتحالف معه في وجه الإخوان المسلمين؛ فرُمي «النور» كالنواة، وهو المصير الحقّ.

نامت نواطير مصر، إذاً، عن ثعالبها، وذئابها وتماسيحها… إلى حين فقط، كما للمرء أن يأمل.

القدس العربي 25/10/2015