جميل مطر

قرأت ورقة صادرة عن أحد مراكز البحث الأميركية، «أميركان انتربرايز»، تقترح على الرئيس المنتخب دونالد ترامب فور توليه مقاليد الحكم العمل بسرعة على إبطاء صعود روسيا في الساحة الدولية. توحي الورقة وأوراق أخرى من هذا المركز وغيره بأن الهم الكبير الذي يشغل بال نخبة السياسة الخارجية هو الإنجازات التي يحققها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سياسته الخارجية. لا شك لدى هؤلاء، ولدى البعض منا، في أنه بفضل هذه الإنجازات تتدعم شرعية فلاديمير بوتين الداخلية ويقوى نفوذ روسيا في الساحة الدولية فتكسب حلفاء جدداً وتهز ثقة دول شرق أوروبا في حلف الأطلسي. هذه التطورات وتطورات أخرى في غرب أوروبا وفي أميركا تزيد احتمالات عودة النظام الدولي إلى القطبية الثنائية في ثوب جديد وبقواعد جديدة. مرة أخرى، إن صحت هذه التكهنات، يدخل النظام الدولي مرحلة انتقالية. يدخلها هذه المرة وهو لم يخرج بعد من مرحلة انتقال طويلة. كان الظن في عهد الرئيس جورج بوش الأب أنه ينتقل من القطبية الثنائية إلى القطب الواحد، ولم يتحقق هذا الظن. وعندما بدأت الحربان في العراق وأفغانستان تسحبان من أرصدة القوة الأميركية وبدأ نجم الصين يلمع في الساحة الدولية صار الظن أن العالم ينتقل نحو تعدد الأقطاب. ولم يتحقق هذا الظن أيضاً لأسباب غـير قليلة أهمها أن الصين كانت ترفض الاشتراك فـــي مسؤوليات القمة الدولية قبل أن تكتمل هيمنتها علــى إقليمي جنوب شرقي آسيا وشرق آسيا. وفي ظـــل استمرار انحسار المكانة الأميركية وتمســـك الرئيس باراك أوباما بنهج الانكماش ومـــع استمرار صعود المكانة الروسية اعتماداً على سياسة خارجية نشطة وموجة وطنية قوية عاد خيار القطبية الثنائية إلى الواجهة يباركه الرئيس المنتخب ترامب والرئيس المخضرم بوتين.
الخلاصة الواضحة لمسيرة النظام الدولي على امتداد الثلاثين عاماً الأخيرة هي أن العالم عاش خلالها في حال انتقال ولم يشهد حال استقرار، وها هو يدخل مرحلة انتقال جديدة نحو قطبية ثنائية وإن فشل فقطبية أخرى، ولن يستقر قبل أن تستقر الأنظمة الداخلية في الدول الكبرى. جميع هذه الأنظمة أو غالبيتها تمر حالياً بمرحلة انتقال. الولايات المتحدة بوصول ترامب إلى الحكم دخلت مرحلة انتقال من نوع من التطبيق الرأسمالي إلى نوع مختلف جذرياً، وكانت قبل بوتين وخلال عهود بوش وكلينتون وأوباما تجرب الانتقال إلى رأسمالية من نوع ثالث فرضتها ظروف العولمة. هي الآن تتمرد على العولمة. كذلك روسيا في العهد البوتيني دخلت مرحلة انتقال من رأسمالية الفوضى إلى رأسمالية الدولة والانتقال من مرتبة في الصف الثاني إلى مرتبة في الصف الأول. استدعى الانتقال إلى مرتبة في الصف الأول إعادة ترتيب العلاقات مع دول الجوار ووقف عمليات التسرب من جانبها في اتجاه الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي. استدعى أيضاً تدخلاً مكثفاً في الشرق الأوسط. ما زلت عند زعمي أن هذا التدخل الروسي الكثيف والمتنوع في الشرق الأوسط ما كان ليحدث من دون موافقة ضمنية أو رضاء صامت من الولايات المتحدة. ولا شك أن في التصرفات غير المألوفة التي راقبناها بفضول شديد خلال المفاوضات حول سورية ما يؤكد هذا الزعم، بل ويشجعني على الاعتقاد أن الطرفين، أميركا وروسيا، ربما اكتشفا في وقت واحد أهمية بل وضرورة العودة بسرعة إلى نظام القطبين الذي وفر لهما لعقود عدة الأمن والاستقرار وللعالم استقراراً نسبياً وأمناً معقولاً.
لا أحد ينكر أن الشرق الأوسط من أدناه إلى أقصاه يمر في مرحلة انتقالية أو لعله في حال انتقالية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وبدقة أكبر منذ انفراط الإمبراطورية العثمانية. ما زال معظم دولنا، عربية وأعجمية، تجرب. تركيا التي قضت عقوداً كثيرة تجرب الانتقال إلى نظام الدولة المدنية غير الدينية بامتياز وبتطرف أحياناً نراها اليوم تجرب نظاماً أقرب ما يكون إلى دولة الإسلام السياسي، وفي داخلها أو ضمن مكوناتها تنظيمات تجرب حكماً إسلامياً بتشدد بل وبتطرف. الحرب قائمة بلا هوادة بين أنصار التجربتين الانتقاليتين ولا استقرار لتركيا بادياً حتى عند الأفق.
في الوقت نفسه لا نستطيع الزعم أن أقطارنا العربية انتقلت بالفعل إلى حال ثابتة أو مستقرة أو الادعاء أن دولة عربية بعينها اجتازت مراحل الانتقال بنجاح واستقرت نموذجاً تسعى الأقطار الأخرى لتقليده أو التباهي به أمام العالمين. كلنا في مرحلة انتقالية أو أخرى حتى وإن أنكرنا. هناك أقطار عربية ما زالت تجرب بكل الحذر الممكن شيئاً من المشاركة في الحكم لتعود عنه بعد قليل أو لتبدأ تجربة شيء من الحرية أو احترام حق من الحقوق. هناك أقطار ما زالت تجرب الانتقال إلى، أو من، نظام الدولة الدينية. تمكث في الحال الانتقالية وقتاً تنقلب بعده بعنف أحياناً أو بتدخل سياسي خارجي أحياناً أخرى لتدخل في مرحلة انتقالية جديدة تنتهي بها في نظام انتقالي عبثي يجمع بين هذا وذاك ويتجمد لفترة قبل أن يتحرك من جديد. العراق في مرحلة انتقالية ثالثة وعنيفة بعد مرحلتين انتقاليتين لم تكونا أقل عنفاً. سورية في مرحلة انتقالية هي الأشد ضراوة ووحشية في كل تجارب الانتقال العربية. ليبيا كذلك في انتقال عنيف. لا أحد في الشرق أو في الغرب قادراً على أن يتصور الشكل النهائي لأي قطر من هذه الأقطار أو حتى لليمن الثابتة جغرافيته وديموغرافيته عبر العصور. مصر لم تتوقف عن الانتقال في ظل ثبات بات هو نفسه يتعرض أخيراً للتشقق. جربت الانتقال إلى شيء من الاشتراكية ثم من هذه التجربة دخلت مرحلة انتقالية متعددة الصور جربت خلالها أشياء من الرأسمالية. جربت أيضاً الدولة الدينية وعادت عنها بسرعة إلى الحال العادية، حال دولة يتبدل في حكمها عسكريون في ملابس مدنية، هم أنفسهم راحوا يجربون نظام الحزب الواحد والرجل الواحد والأحزاب المتعددة ومقتطفات من الاشتراكية والرأسمالية. جربوا رأسمالية الدولة وجربوا اشتراكية الدولة وجربوا الانفتاح الاقتصادي المفرط والانغلاق الاقتصادي المفرط. هكذا مرت مصر بمراحل انتقالية عدة وتمر الآن بواحدة منها في ظل ما أسميه ثباتاً متوارثاً بدأ يتعرض بدوره لهزات غير بسيطة. تونس تعيش مرحلة انتقال نحو استقرار محفوف بعوامل عدم استقرار وفي الجزائر وضع انتقالي، وفي الغالب سوف يظل انتقالياً مهما طال الأجل.
في ظل أحوال انتقالية دولية وإقليمية كهذه تزداد صعوبة وتعقيداً حال الخليج العربي. لم يعد دوام الحال هناك بديلاً قابلاً للصدقية أو احتمالاً قوياً في حسابات الدول الكبرى ودول الجوار. أصبح ضرورياً تغيير أنماط تحقيق النمو وأساليب إدارة المجتمعات. بل أصبح ضرورياً وحيوياً تنظيم الصفوف وإعادة النظر في استراتيجيات التحالف مع الخارج والدفاع عن الإقليم ككل وعن أقطاره قطراً قطراً. معظم دول الخليج، على عكس غالبية دول الشرق الأوسط، في حاجة ماسة للخروج من حال الثبات «النموذجي أو الأسطوري» إلى حال انتقالية نحو ثبات جديد متحرك وآمن وأيضاً متناسب مع بيئة دولية شديدة التقلب.
تمشياً مع هذه التصورات لا أستطيع أن أطالب الجامعة العربية بأن تكون أكفأ مما هي عليه أو أفضل. كل ما أتمناه على القائمين عليها في هذه الظروف التي نعايشها أن يبذلوا الجهد مضاعفاً للحفاظ على وجودها وإن في مكانة الأيقونة أو الرمز أو النفحة الطيبة. أخشى ما أخشاه أن تحاول دول أعضاء أو دول جوار أو عظمى أن تستغل الظروف الانتقالية التي تمر فيها المنطقة والعالم لتفرض على الجامعة قبل الأوان صيغة مختلفة عن الصيغة المعترف بها حالياً. قد يكون القيام بأداء الحد الأدنى من المهمات والوظائف غير السياسية أو الأمنية هو القرار السليم في اللحظة الراهنة. هو القرار الذي يمكن أن يسهم في استمرارية الجامعة حتى نهاية هذه الظروف المعقدة. غير خافٍ أن الجامعة ذاتها تمر في مرحلة انتقالية، ليس فقط منذ أن تغيرت إدارتها، ولكن أيضاً لأن كل الثوابت والمتغيرات المحيطة بها سبقتها إلى الحال الانتقالية. ببساطة شديدة أعتقد أن الاحتمال كبير أن لا تعود المنطقة إلى سابق عهدها وأن لا تعود كل الدول أو تعود وقد تغيرت شكلاً ونظاماً وربما عقيدة.
نستطيع أن نتعظ بالتجربة المهمة التي يمارسها الاتحاد الأوروبي. نعرف أن منطقة اليورو مهددة بالانفراط تحت وقع أكثر من أزمة نقدية في المنطقة. نعرف أن المملكة المتحدة قررت الخروج من الاتحاد موجهة بقرارها هذا ضربة موجعة للوحدة الأوروبية. نعرف أيضاً أن روسيا كدولة جوار عظمى عادت تمثل تهديداً لمسيرة الوحدة ومستقبل الأمن والسلام في القارة، يحدث هذا في غياب ملموس لأميركا، الدولة القائد في النظام الغربي. هنا أنصح التكامليين العرب الساعين إلى الحفاظ على الجامعة كحد أدنى لطموحاتهم أن يراقبوا بالدقة الممكنة السلوك السياسي لقادة ألمانيا، الدولة الأوروبية الأقدر على حماية وجود واستمرار الاتحاد الأوروبي، وبشكل من الأشكال الحفاظ على النظام الإقليمي الأوروبي إلى حين يتوقف عنده عصر المراحل الانتقالية ويبدأ عصر استقرار دولي جديد.

* كاتب مصري

“الحياة”