ترجمة وتحرير نون بوست

هذا هو الجزء الثاني من ترجمة مقال طويل لصحفي التحقيقات الأمريكي سيمور هيرش بعنوان “من جيش إلى جيش”،

أحد أهم الثوابت في الشؤون الأمريكية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي تتمثل بالعلاقة القائمة ما بين الجيشين الأمريكي والروسي؛ فبعد عام 1991 أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لمساعدة روسيا على تأمين مجمع الأسلحة النووية الذي تمتلكه، بما في ذلك العملية المشتركة السرية للغاية التي تم تنفيذها لسحب أسلحة اليورانيوم من مستودعات التخزين غير الآمنة في كازاخستان، واستمرت البرامج المشتركة ما بين البلدين لمراقبة أمن الأسلحة النووية على مدى العقدين المقبلين، ويُذكر بأنه أثناء الحرب الأمريكية على أفغانستان، قدمت روسيا حقوق التحليق لشركات الشحن الجوي والناقلات الأمريكية، كما أتاحت لآلة الحرب الأمريكية الوصول لمخزونات الأسلحة والذخيرة والطعام والشراب اللازمين لها يوميًا، فضلًاً عن قيام الجيش الروسي بتقديم معلومات استخباراتية عن مكان وجود أسامة بن لادن ومساعدة الولايات المتحدة بالتفاوض على الحق في استخدام قاعدة جوية في قرغيزستان.

وبالمثل في الوقت الحاضر، بقيت هيئة الأركان المشتركة تتواصل مع نظرائها الروس طوال الحرب السورية، والعلاقات بين الجيشين تركزت على المستويات العليا؛ ففي أغسطس، وقبل بضعة أسابيع من تقاعده من منصبه كرئيس لهيئة الأركان المشتركة، أدلى ديمبسي خلال زيارة وداعية لمقر قوات الدفاع الإيرلندية في دبلن بكلمة قال فيها لمستمعيه بأنه حاول عندما كان في منصبه البقاء على اتصال مع رئيس هيئة الأركان العامة الروسية، الجنرال فاليري غيراسيموف، “لقد اقترحت عليه فعلًا ألا نختتم مسيرتنا الوظيفية كما بدأناها”، قال ديمبسي.

أما فيما يخص التعامل مع الدولة الإسلامية، فلدى روسيا والولايات المتحدة الكثير لتقدمانه لبعضهما البعض، فالكثيرون ضمن زعامات وصفوف قيادات وجنود تنظيم الدولة الإسلامية خاضوا حربًا لمدة عقد من الزمان ضد روسيا في خضم حربي الشيشان التي بدأت في عام 1994، والتي استثمرت فيها حكومة بوتين بشكل كبير في مجال مكافحة الإرهاب الإسلامي، “روسيا تعرف قيادات داعش”، قال مستشار هيئة الأركان المشتركة، وتابع: “يتمتع الروس بنظرة ثاقبة في التقنيات العملياتية لداعش، ولديهم الكثير من المعلومات الاستخباراتية ليشاركوها معنا، وفي المقابل، نمتلك نحن مدربين ممتازين يتمتعون بسنوات من الخبرة في تدريب المقاتلين الأجانب، وهو الأمر الذي تفتقر إليه التجربة الروسية”، ولكن في سياق هذا الحديث، لم يناقش المستشار الاعتقاد الشائع حول قدرة المخابرات الأمريكية بالحصول على معلومات استهدافية، عن طريق دفع مبالغ ضخمة من النقود في كثير من الأحيان لمصادر داخلية ضمن الميليشيات المتمردة.

وفي ذات سياق العلاقات الروسية – الأمريكية، أخبرني مستشار سابق للشؤون الروسية في البيت الأبيض بأنه قبل أحداث سبتمبر 2001 كان بوتين يقول لنا: “نحن نتشاطر ذات الكوابيس ولكن في أماكن مختلفة”، في إشارة إلى المشاكل التي تعاني منها روسيا من الخلافة في الشيشان وقضايا أمريكا الأولية مع تنظيم القاعدة، ولكن في هذه الآونة، وبعد حادثة تفجير طائرة المتروجيت في سيناء ومجازر باريس وغيرها، من الصعب تجنب استنتاج بأن أمريكا وروسيا تتشاطران ذات الكوابيس وفي ذات الأماكن.

رغم ذلك، تواصل إدارة أوباما إدانة روسيا لدعمها نظام الأسد، وفي هذا المجال، عبّر دبلوماسي متقاعد خدم في السفارة الأمريكية في موسكو عن تعاطفه مع معضلة أوباما كقائد لقوات التحالف الغربي ضد العدوان الروسي في أوكرانيا، حيث قال: “أوكرانيا مسألة خطيرة، وأوباما تعامل معها بحزم من خلال العقوبات، ولكن سياستنا وجهًا لوجه مع روسيا يعتريها انعدام التركيز في كثير من الأحيان، فالأمر في سوريا لا يتعلق بتواجدنا فيها، بل بضمان عدم خسارة بشار الأسد، وفي الواقع بوتين لا يرغب برؤية الفوضى في سورية تمتد لتشمل الأردن أو لبنان، كما امتدت للعراق سابقًا، فضلًا عن أنه لا يرغب بسقوط سوريا في براثن داعش بنهاية المطاف، وهي الأمور التي ناقضها أوباما تمامًا من خلال سياساته التي أضرت للغاية بجهودنا لإنهاء القتال؛ ومن ذلك موقف أوباما بالقول بأن على الأسد الرحيل كشرط لازم للتفاوض”.

كما ردد الدبلوماسي المتقاعد وجهة النظر التي عبّر عنها البعض في البنتاغون عندما ألمح إلى العامل الجانبي الذي يقف خلف قرار روسيا بمباشرة ضرباتها الجوية لدعم الجيش السوري في يوم 30 سبتمبر، والذي يتمثل برغبة بوتين بمنع تكرار مصير القذافي مع الأسد، حيث تم تداول أخبار عن أن بوتين أعاد مشاهدة مقطع الفيديو الذي يظهر وحشية مقتل القذافي لثلاث مرات، كما أخبرني مستشار هيئة الأركان المشتركة أيضًا بأن تقييم المخابرات الأمريكية خلص إلى أن بوتين قد راعه مصير القذافي، حيث قال: “بوتين يلقي باللوم على نفسه للتخلي عن القذافي، لكونه أحجم عن لعب أي دور قوي خلف الكواليس في الأمم المتحدة أثناء ضغط التحالف الغربي لاغتنام الموافقة الأممية لممارسة الضربات الجوية في ليبيا التي أسفرت عن تدمير النظام، فبوتين يعتقد بأنه ما لم ينخرط في سوريا، سيعاني بشار من ذات المصير المشوه للقذافي وسيشهد بوتين سقوط نظامه الحليف في سوريا”.

في خطاب ألقاه في 22 نوفمبر، أعلن أوباما بأن الأهداف الرئيسية التي قصفتها الطائرات الروسية استهدفت “المعارضة المعتدلة”، علمًا بأن الإدارة الأمريكية، جنبًا إلى جنب مع معظم وسائل الإعلام الأمريكية، نادرًا ما انحرفت عن هذا النهج من الانتقاد للتدخل الروسي في سوريا، وفي المقابل، يصر الروس على أنهم يستهدفون جميع الجماعات المتمردة التي تهدد استقرار سوريا، بما في ذلك الدولة الإسلامية، حيث أوضح مستشار الكرملين حول شؤون الشرق الأوسط خلال مقابلة له، بأن الجولة الأولى من الضربات الجوية الروسية كانت تهدف لتعزيز أمن المناطق حول القاعدة الجوية الروسية في اللاذقية، المدينة التي تعد معقل الطائفة العلوية في سوريا، والهدف الإستراتيجي خلف ذلك، كما قال، يتمثل بإنشاء ممر خالٍ من الجهاديين من دمشق إلى اللاذقية والقاعدة البحرية الروسية في طرطوس ومن ثم تحويل التركيز تدريجيًا لقصف مناطق الجنوب والشرق، مع تركيز أكبر على مهام قصف الأراضي التي يسيطر عليها داعش، علمًا بأنه ومنذ بداية أكتوبر الماضي، تم الإبلاغ عن ضربات روسية على أهداف ضمن وحول محافظة الرقة، وفي نوفمبر تم رصد المزيد من الضربات الروسية على مواقع بالقرب من مدينة تدمر الأثرية وفي محافظة إدلب، المعقل المتنازع عليه بمرارة على الحدود التركية.

بعد صدور قرار بوتين بمباشرة عمليات القصف، لم تلبث عمليات التوغل الروسية إلى المجال الجوي التركي وقتًا طويلًا قبل أن تشرع بالظهور، حيث عمدت القوات الجوية الروسية إلى نشر أنظمة تشويش إلكترونية عطلت إشارات الرادار التركي، وأوضح مستشار هيئة الأركان المشتركة بأن الرسالة الجلية التي وجهها الروس للأتراك كان تتمثل بالقول: “سنقوم بنشر طائراتنا المقاتلة حيث نريد ومتى نريد وسنعطل إشارات راداراتكم، لا تعبثوا معنا؛ فبوتين كان يرغب بأن يوضح للأتراك نوع العدو الذي يحاربون ضده”.

العدوان الروسي أسفر عن إثارة شكايات تركية ونفي روسي، جنبًا إلى جنب مع تكثيف لدوريات سلاح الجو التركي الأكثر عداونية على الحدود، ولكن بشكل عام، لم تؤدِ هذه المناوشات إلى أي حوادث كبيرة حتى 24 نوفمبر عندما قامت طائرتا F-16 تركيتان، تتصرفان على ما يبدو طبقًا لقواعد اشتباك أكثر صرامة، بإسقاط طائرة سو-24 إم الروسية كانت قد خرقت المجال الجوي التركي لمدة لا تتجاوز الـ17 ثانية، وفي رد فعل مؤيد بوضوح بعد أيام من إسقاط المقاتلة الروسية، أعرب أوباما عن دعمه لأردوغان، وقال في مؤتمر صحفي عقب لقائهما المغلق في 1 ديسمبر بأن إدارته ما تزال “معنية للغاية بأمن تركيا وسيادتها”، كما أوضح بأنه طالما بقيت روسيا متحالفة مع الأسد، فإن “الكثير من الموارد الروسية ستبقى تستهدف جماعات المعارضة التي ندعمها، لذلك لا أعتقد بأننا يجب أن نتوهم بأن روسيا ستبدأ، بطريقة أو بأخرى، بضرب أهداف لداعش فقط، فهذا الأمر لا يحدث الآن، ولم يحدث مسبقًا، ولن يحدث خلال الأسابيع القليلة المقبلة”.

من جهة أخرى، يرفض مستشار الكرملين في الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع هيئة الأركان المشتركة واستخبارات الدفاع، الاعتراف بوجود المعتدلين الذين يدعمهم أوباما، فهو يراهم كجماعات إسلامية متطرفة حاربت جنبًا إلى جنب مع جبهة النصرة وداعش، حيث يقول بوتين في كلمة ألقاها في 22 أكتوبر: “لا داعٍ للعب على الكلمات وتقسيم الإرهابيين إلى معتدلين وغير معتدلين”.

وفي ذات السياق، يرى قادة الجيش الأمريكيين أن “معتدلي أوباما” هم ميليشيات مرهقة ومستنفدة أُجبرت على إجراء تسوية مع جبهة النصرة أو داعش بغية البقاء على قيد الحياة، وفي نهاية عام 2014، كتب الصحفي الألماني يورغين تودنهوفر، الذي سُمح له بقضاء عشرة أيام بجولة في أراضي سيطرة داعش في العراق وسوريا، لصحيفة سي إن إن قائلًا: “قادة التنظيم يسخرون جميعهم من الجيش السوري الحر، إنهم لا يأخذونه على محمل الجد، ويقولون بأن أكبر بائع سلاح يتعاملون معه هو الجيش السوري الحر، فأعضاء الأخير، إذا حصلوا على سلاح جيد، يبيعونه للتنظيم”، وأضاف: “لا يأخذون الجيش السوري الحر على محمل الجد، على عكس رؤيتهم لقوات الأسد التي يرونها خطيرة، كما يرون أيضًا القصف الجوي على أنه خطير بطبيعة الحال، لكنهم لا يخشون شيئًا، والجيش السوري الحر لا يلعب أي دور في ذلك”.

في الداخل الأمريكي، فجّرت حملة بوتين على سوريا سلسلة من المقالات المعادية لروسيا في الصحافة الأمريكية؛ ففي 25 أكتوبر، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز نقلًا عن مسؤولين في إدارة أوباما، أن الغواصات وسفن التجسس الروسية كان تعمل “بقوة” بالقرب من كابلات الإنترنت البحرية، رغم أن المادة اعترفت بعدم وجود دليل حتى الآن عن أي محاولة روسية في الواقع للتدخل في حركة مرور بيانات الإنترنت، وقبل عشرة أيام نشرت صحيفة نيويورك تايمز ملخصًا لعمليات التوغل الروسي في جمهوريات سوفييتية سابقة، ووصفت القصف الروسي في سوريا بأنه “في بعض النواحي، عودة إلى تحركات عسكرية طموحة من الماضي السوفييتي”، ولم يشر التقرير أن إدارة الأسد كانت قد دعت روسيا للتدخل في سوريا، كما تغافل عن ذكر أن الغارات الأمريكية داخل سوريا والجارية منذ سبتمبر الماضي تحصل بدون موافقة الحكومة، وفي ذات الشأن، وفي مقالة افتتاحية بنيويورك تايمز في أكتوبر، كتب مايكل ماكفول، سفير أوباما إلى روسيا بين عامي 2012 و2014، بأن الحملة الجوية الروسية كانت “تستهدف الجميع باستثناء الدولة الإسلامية”، وفي سياق متصل، لم تضعف كارثة الطائرة الروسية، التي أعلنت الدولة الإسلامية مسؤوليتها عنها، جذوة حملة معادة روسيا ضمن الصحافة الأمريكية؛ فحفنة قليلة فقط ضمن الحكومة ووسائل الإعلام الأمريكية تساءلوا حول سبب استهداف داعش للطائرة الروسية، مزهقين أرواح 224 راكبًا مع طاقم الطائرة، طالما أن سلاح الجو في موسكو كان يهاجم فصائل “المعتدلين” في سورية فقط.

في الوقت عينه، لا تزال العقوبات الاقتصادية ضد روسيا سارية المفعول تبعًا لرؤية عدد كبير من الأمريكيين لممارسات بوتين في أوكرانيا كجرائم حرب، وكذلك فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات ضد سوريا وضد الأمريكيين الذين يتعاملون مع الحكومة السورية، وفي تقرير نشرته النيويورك تايمز بشأن العقوبات في أواخر نوفمبر، أحيت الصحيفة التوكيدات القديمة، التي لا أساس لها من الصحة، حول أن إجراءات وزارة الخزانة “تؤكد المناقشات الدائرة بصورة متزايدة ضمن الإدارة الأمريكية حول الأسد في خضم سعي الإدارة للضغط على روسيا للتخلي عن دعمه، حيث تؤكد هذه المناقشات بأن الأسد، وعلى الرغم من تصريحه بأنه في حالة حرب مع الإرهابيين الإسلاميين، يتمتع بعلاقة تعايشية وتكافلية مع الدولة الإسلامية، سمحت لها بالازدهار في الوقت الذي سمحت له فيه بالتشبث بالسلطة”.

في الوقت الراهن، تبقى العناصر الأربعة الأساسية المشكّلة لسياسة أوباما تجاه سوريا على حالها، وهي: الإصرار على أن الأسد يجب أن يرحل، رفض انخراط روسيا مع قوات التحالف المحاربة لداعش، اعتبار تركيا كحليف ثابت في الحرب ضد الإرهاب، والتأكيد على وجود قوات معارضة سورية معتدلة كبيرة تستأهل تلقي الدعم من الولايات المتحدة، وهذه المواقف لم تتغير إبان هجمات باريس في 13 نوفمبر، التي قتلت 130 شخصًا، على الرغم من أن العديد من القادة الأوروبيين، بما في ذلك فرانسوا هولاند، دعوا لزيادة التعاون مع روسيا ووافقوا على ممارسة تنسيق أوثق مع قواتها الجوية، كما طفق حديث أيضًا حول ضرورة إبداء المزيد من المرونة بشأن توقيت خروج الأسد من السلطة.

في 24 نوفمبر، وصل هولاند إلى واشنطن لمناقشة كيفية تعاون فرنسا والولايات المتحدة بشكل أوثق في مكافحة الدولة الإسلامية، حيث صرّح أوباما، في مؤتمر صحفي مشترك في البيت الأبيض، بأنه اتفق مع هولاند على أن “ضربات روسيا ضد المعارضة المعتدلة تعزز نظام الأسد، الذي لم تسفر وحشيته سوى عن إذكاء تمدد داعش فقط”، ومن جهته، لم يذهب هولاند إلى هذا الحد في نقد روسيا، ولكنه قال بأن العملية الدبلوماسية في فيينا “يجب أن تؤدي إلى رحيل بشار الأسد”، كما أكد على ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية، ولكن بالمجمل، فشل المؤتمر الصحفي في معالجة المأزق الأكثر إلحاحًا الذي تشهده العلاقة ما بين الدولتين المتمثل بأردوغان، حيث دافع أوباما عن حق تركيا في الدفاع عن حدودها؛ بينما شدد هولاند على ضرورة اتخاذ تركيا لإجراءات “عاجلة” ضد الإرهابيين.

وفي هذا السياق، أخبرني مستشار هيئة الأركان المشتركة بأن أحد الأهداف الرئيسية التي حذت بهولاند للاتجاه نحو واشنطن تمثلت بمحاولة إقناع أوباما للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لإصدار بيان مشترك بالحرب ضد الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي رفضه أوباما، علمًا بأن الأوروبيين تعمدوا عدم الذهاب إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي يضم تركيا، لإصدار هذا البيان، لأن “تركيا هي المشكلة”، كما قال مستشار هيئة الأركان المشتركة.

الأسد، بطبيعة الحال، لا يتقبل اتخاذ القرار بشأن مستقبله من قِبل مجموعة من الزعماء الأجانب؛ فعماد مصطفى، سفير سوريا في الصين، والعميد السابق لكلية المعلوماتية في جامعة دمشق، يعتبر مساعدًا مقربًا من الأسد منذ تم تعيينه في عام 2004 في منصب السفير السوري في الولايات المتحدة، وهو المنصب الذي شغله لمدة سبع سنوات، ومن المعروف بأن مصطفى لا يزال يحتفظ بعلاقات وثيقة مع الأسد، ويمكن الوثوق بكلامه ليعكس ما يفكر به الأخير، ومن ذلك، ما أخبرني إياه مصطفى حول أن تسليم الأسد للسلطة يعني الرضوخ والاستسلام للـ”الجماعات الإرهابية المسلحة”، وأن الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية، التي تقترحها القوى الأوروبية، يُنظر إليهم كمرتهنين للقوى الأجنبية التي عينتهم، حيث يمكن لهذه القوى أن تذكر الرئيس الجديد بشكل مستمر بأنها “قادرة على استبداله بسهولة كما فعلوا من قبل مع سلفه؛ فالأسد مدين لقومه، ولا يمكنه ترك السلطة لمجرد أن الأعداء التاريخيين لسوريا يطلبون رحيله”.

تناول مصطفى أيضًا موضوع حليف الأسد الصيني، وهي التي خصصت أكثر من 30 مليار دولار لحملة إعادة الإعمار بعد الحرب في سوريا، وأوضح مصطفى بأنها، الصين، تشعر أيضًا بالقلق حول الدولة الإسلامية، وتتعامل مع الأزمة السورية بالتعويل على ثلاث نقاط أساسية: القانون الدولي والشرعية الدولية، الموقع الإستراتيجي العالمي، وأنشطة اليوغور الجهادية، وهم مسلمو مقاطعة شينجيانغ في أقصى غرب الصين التي تحاذي بموقعها الحدودي ثماني دول، منغوليا وروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأفغانستان وباكستان والهند؛ فمن وجهة نظر الصين، تعد شينجيانغ بمثابة مدخل للإرهاب في جميع أنحاء العالم وداخل الصين بشكل خاص، وأضحى من المعروف بأن العديد من المقاتلين اليوغور الذين يحاربون اليوم في سوريا هم من أعضاء حركة شرق تركستان الإسلامية، المنظمة الانفصالية العنيفة غالبًا والتي تسعى لإقامة دولة إسلامية لليوغور في شينجيانغ، وحول هذا الموضوع يقول مصطفى: “تسببت حقيقة أن المقاتلين اليوغور انتقلوا من الصين إلى سوريا عبر تركيا بمساعدة المخابرات التركية، بقدر هائل من التوتر بين الاستخبارات الصينية والتركية”، وتابع: “الصين تشعر بالقلق من أن الدور التركي في دعم المقاتلين اليوغور في سوريا قد يساعدها في المستقبل على تأسيس ذراع تركية في شينجيانغ لتعزيز أجندتها هناك، ونحن في سوريا نقدم بالفعل معلومات لجهاز المخابرات الصيني حول هؤلاء الإرهابيين والطرق التي عبروا منها للوصول إلى سوريا”.

ذات هذه المخاوف التي أوضحها مصطفى رددها محلل للشؤون الخارجية في واشنطن، الذي تابع عن كثب خط مرور الجهاديين عبر تركيا إلى سوريا، المحلل، الذي تحظى آراؤه باحترام عام من قِبل كبار المسؤولين الحكوميين، أخبرني بأن “أردوغان أحضر اليوغور إلى سوريا بواسطة وسائل نقل خاصة، كما حرّضت حكومته اليوغور ليثوروا لقضيتهم في الصين، الإرهابيون المسلمون اليوغور والبورميون الذين يفرون إلى تايلند بطريقة أو بأخرى، يحصلون على جوازات سفر تركية ومن ثم يتم نقلهم جوًا إلى تركيا للعبور إلى سوريا”، وأضاف موضحًا أن هناك خط إمداد آخر يتم ضخ اليوغور عبره من الصين إلى كازاخستان ليصلوا إلى تركيا وينضموا إلى مناطق سيطرة داعش في نهاية المطاف بسوريا، وأردف المحلل قائلًا: “الاستخبارات الأمريكية لا تمتلك معلومات جيدة حول هذه الأنشطة، لأن المطلعين على هذه الأمور غير راضين عن السياسات الأمريكية، ولا يوجد تواصل ما بينهم وبين الأمريكيين، ومن غير الواضح إن كان المسؤولون عن السياسة السورية في وزارة الخارجية أو البيت الأبيض يحوزون تلك المعلومات”، وفي ذات السياق، قدّر أنطوني ديفيس، من صحيفة جينز ديفنس الأسبوعية، في أكتوبر المنصرم، بأن ما لا يقل عن خمسة آلاف من اليوغور، المحضرين ليكونوا مقاتلين، وصلوا إلى تركيا منذ عام 2013، وربما انتقل منهم 2000 شخص إلى سوريا، بينما أكد مصطفى بأن معلوماته تقول بأن حوالي 860 من مقاتلي اليوغور يقاتلون حاليًا في سوريا.

القلق الصيني المتنامي حول مشكلة اليوغور الذين وصلوا إلى سوريا والدولة الإسلامية، شغل كريستينا لين، وهي باحثة عملت قبل عقد من الزمن في وزارة الدفاع بتخصص القضايا الصينية في فترة ولاية دونالد رامسفيلد، “لقد نشأت في تايوان وحضرت إلى وزارة الدفاع الأمريكية كناقدة للصين” أخبرتني لين، وتابعت: “بالنسبة لي، كنت معتادة على شيطنة الأيديولوجيات الصينية، فهي ليست مثالية، لكن على مر السنين، وبعد أن شهدت انفتاح الصين وتطورها، باشرت بتغيير وجهة نظري، لقد أضحيت أرى الصين كشريك محتمل لمواجهة التحديات العالمية المختلفة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، فهناك العديد من الأماكن، وسوريا إحداها، يجب على الولايات المتحدة والصين ضمنها أن تتعاونا معًا في مجال الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب”.

وأردفت لين موضحة: “قبل بضعة أسابيع، أجرت الصين والهند، أعداء الحرب الباردة اللتان تمقتان بعضهما البعض أكثر من الصين والولايات المتحدة، سلسلة من التدريبات المشتركة لمكافحة الإرهاب، واليوم الصين وروسيا تسعيان للتتعاون بشأن قضايا الإرهاب مع الولايات المتحدة”، فالصين، كما توضح لين، تنظر إلى المتشددين اليوغور الذين شقوا طريقهم إلى سوريا بعين التوجس، فهؤلاء يتم تدريبهم من قِبل الدولة الإسلامية على تقنيات البقاء على قيد الحياة بهدف مساعدتهم في رحلتهم السرية للعودة إلى وطنهم في الصين لممارسة هجمات إرهابية في المستقبل هناك، وفي ورقة بحثية كتبتها لين في سبتمبر أوضحت قائلة: “إذا فشل الأسد، ستتحول أنظار المقاتلين الجهاديين من الشيشان في روسيا وشينجيانغ بالصين وكشمير بالهند نحو الجبهة الداخلية لمواصلة نشاطهم الجهادي، وسيجري ذلك بدعم من القاعدة السورية للدولة الإسلامية المحصنة بشكل جيد في قلب الشرق الأوسط”.

استطاع الجنرال ديمبسي وزملاؤه في هيئة الأركان المشتركة المحافظة على مناصبهم من خلال تحييد الأصوات المعارضة وإخراجها من القنوات البيروقراطية، أما الجنرال مايكل فلين فلم يعمد إلى ذلك، “فلين قاسى من غضب البيت الأبيض لأنه أصر على قول الحقيقة حول سوريا” قال باتريك لانج، عقيد متقاعد في الجيش الأمريكي خدم لمدة عقد من الزمان بمنصب رئيس الاستخبارات المدنية في الشرق الأوسط التابعة لاستخبارات الدفاع، وتابع: “لقد كان يعتقد بأن قول الحقيقة هو الأمر الأفضل، ولهذا طردوه من منصبه، لأنه لم يلزم الصمت”.

من وجهة نظر فلين، فإن مشاكله، كما أخبرني، تتجاوز مجرد قوله للحقيقة حول الوضع السوري، حيث قال: “كنت أهز أركان وكالة استخبارات الدفاع، لم يكن ما أفعله مجرد أمر عابر، لقد كان إصلاحًا جذريًا، وشعرت بأن القيادة المدنية لا تريد أن تنصت للحقيقة، لقد عانيت من ذلك، ولكنني راضٍ بما أصبحت عليه”، وفي مقابلة أجريت معه مؤخرًا في صحيفة دير شبيغل، كان فلين صريحًا للغاية حول انضمام روسيا إلى الحرب السورية، حيث قال: “علينا أن نعمل بصورة بناءة مع روسيا، سواء أحببنا ذلك أم لا، فروسيا حزمت قرارها وتصرفت عسكريًا، الروس أصبحوا في سوريا، وهذا الأمر يغير بشكل كبير من الديناميكية التي تحكم الوضع السوري، لذلك لا يمكننا أن نقتصر على القول بأن روسيا مخطئة، وعليها أن تيمم شطرها نحو الديار، لأن هذا لن يحدث، فلنكن واقعيين”.

حفنة فقط من نواب الكونجرس الأمريكي يشاطرون فلين هذا الرأي، وأحد هذه الاستثناءات هي تولسي غابارد، النائب الديمقراطي من هاواي وعضو لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب، والتي قالت في مقابلة مع السي إن إن: “الولايات المتحدة ووكالة الاستخبارات المركزية يجب أن تتوقفا عن هذه الحرب غير المشروعة وغير المنتجة الساعية للإطاحة بحكومة الأسد السورية، ويجب عليهما الاستمرار بالتركيز على القتال ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة”.

وبعد ذلك سألها المحاور: “ألستِ معنية بأن نظام الأسد الوحشي قتل ما لا يقل عن 200.000 وربما 300.000 شخصًا من شعبه؟”، أجابت غابارد: “هذه الأشياء التي تقال عن الأسد الآن هي ذاتها التي كانت تقال عن القذافي، وذاتها التي كانت تقال حول صدام حسين من قِبل أولئك الذين كانوا يدافعون عن قيام الولايات المتحدة بإسقاط تلك الأنظمة، ولكن إن سقط النظام في سوريا، فسينتهي بنا الوضع لنشهد معاناة أكبر، واضطهادًا أخطر للأقليات الدينية والمسيحيين في سوريا، وسوف يضحي عدونا أقوى للغاية”، وحينها رد المحاور مستفسرًا: “إذن ما تقولينه هو أن الحملة العسكرية الجوية الروسية والتورط الإيراني الأرضي يقدمان خدمة فعلية للولايات المتحدة؟”، أجابت:”إنهم يعملون لغاية هزيمة عدونا المشترك”.

أطلعتني غابارد لاحقًا بأن العديد من زملائها في الكونغرس، من الديمقراطيين والجمهوريين، شكروها سرًا للتعبير عن رأيهم، وقالت موضحة: “هناك الكثير من عامة الناس، وحتى ضمن الكونجرس، يحتاجون لشرح الأوضاع لهم بشكل واضح، ولكن هذه المهمة تبدو إشكالية للغاية في ظل الخداع والتضليل الذي يحكم القضية، مما يصعب معه للغاية أن يتم نطق الحقيقة”.

بشكل عام، فإن تحدي ونقد السياسي الداخلي المطلع على الأسرار الحزبية لسياسة حزبه الخارجية بشكل صريح ومباشر، هو أمر استثنائي للغاية، لأن ذلك قد يحكم على مسيرته السياسية بالأفول والنهاية، فغالبًا ما يتم نقل اعتراضات السياسيين الحزبيين العاملين من خلال علاقة الثقة المبنية بينهم وبين أحد الصحفيين، وفي جميع تلك الحالات تقريبًا لا تحمل الاعتراضات توقيعات السياسيين، ولكن بجميع الأحوال، هذا الأمر يعني بأنه لا يمكننا إنكار وجود المعارضة، وفي هذا السياق، لم يستطع مستشار قيادة العمليات الخاصة المشتركة إخفاء ازدرائه حينما سألته عن رأيه في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا، حيث قال: “حل سوريا يقبع أمام أنوفنا، فهناك تهديد أساسي يتمثل بداعش، ويتوجب علينا جميعًا، الولايات المتحدة وروسيا والصين، أن نعمل بشكل مشترك، بشار سيبقى في منصبه، وبعد استقرار البلاد ستجري انتخابات، ليس هناك خيار آخر”.

مسار التعاون العسكري مع جيش الأسد تلاشى من السياسة الأمريكية مع تقاعد ديمبسي في سبتمبر، وأدلى بديله في منصب رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال جوزيف دانفورد، بشهادته أمام لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ في يوليو، قبل توليه منصبه بشهرين، قائلًا: “إذا كنتم ترغبون بالحديث عن الدولة التي يمكن أن تشكل تهديدًا وجوديا للولايات المتحدة، فيهمني أن أشير إلى روسيا، لأن سلوكها لا يمكن أن يوصف بتعبير أقل من أنه مثير للقلق”، وفي أكتوبر، وباعتباره رئيس هيئة الأركان المشتركة، أدان دانفورد جهود روسيا في قصف سوريا، وصرّح أمام ذات اللجنة قائلًا: “إن روسيا لا تحارب داعش، وعلى أمريكا العمل مع الشركاء الأتراك لتأمين الحدود الشمالية لسوريا، كما يجب علينا القيام بكل ما في وسعنا لتمكين قوى المعارضة السورية المفحوصة – أي «المعتدلة» – لمحاربة المتطرفين”.

اليوم، أضحى لدى أوباما بنتاغون أكثر انصياعًا وإذعانًا، كما أنه لن يواجه تحديات غير مباشرة من القيادة العسكرية لسياسته التي تنتهج مسار نقد الأسد ودعم أردوغان، علمًا بأن ديمبسي ورفاقه لا يزالون يشعرون بالحيرة جرّاء استمرار أوباما بالدفاع عن أردوغان، رغم القضايا والدلائل الاستخباراتية الأمريكية القوية ضد الأخير، فضلًا عن تبدي بعض الأدلة على قبول أوباما سرًا بهذه القضايا، حيث أشرت في منشور لي في 17 أبريل 2014 بأن أوباما وخلال لقاء متوتر مع رئيس المخابرات التركية نبهه قائلًا: “نحن نعرف ما تفعلونه مع المتطرفين في سوريا”؛ إذن، ما نعرفه الآن هو أن هيئة الأركان المشتركة ووكالة استخبارات الدفاع كانت تحذر قيادة واشنطن باستمرار من التهديد الجهادي في سوريا، ومن دعم تركيا لذلك التهديد، غير أن هذه الرسائل لم تلقَ آذانًا صاغية، ويبقى السؤال: لمَ لا؟

المصدر: لندن ريفيو أوف بوكس