إحدى آليات التحليل النفسي، في تفسير وفهم الشخصيات الجامدة والبخيلة وغير الإبداعية، هو ردّها إلى ما يسمّى بـ “التثبيت الشرجي”. الفكرة هي أن الطفل بين السنتين الأولى والثانية من عمره لا يفصل بين ذاته وفضلاته، ويظن أنها “ذهبٌ”، وعندما يتعرض لعملية التنظيف التربوية، يقاوم ويتمسك بتلك “الملكية الثمينة”. وإذا كانت العملية التربوية في تلك المسألة قهرية وخشنة؛ فقد يمتد الإمساك/ التمسّك بـ “الموروث البيولوجي” إلى الشخصية كاملة، ويتحول إلى ما يسمى “تثبيتًا شرجيًا”، ينتقل من البيولوجيا إلى السيكولوجيا، ومن السيكولوجيا مستقبلًا، إلى الأيديولوجيا، وإلى وعي العالم.
عاش السوريون تحت نظام آل الأسد، منذ خمسين عامًا حتى اليوم، وهو جزءٌ من تاريخهم، وجزءٌ من وعيهم أو لاوعيهم، سواء أحبّوا ذلك أم كرهوه، و”الوطنية” التي وضعها هذا النظام في بنية الوعي الجمعي السوري ليست أكثر من فضلات، مع أن النظام وكثير من السوريين في جهتي الصراع ما زالوا يرونها “ذهبًا”. وعندما نقول إنها فضلات، لا نقصد التجريح، بل تسمية الأشياء بأسمائها التحليلية، فسورية لم تكن وطنًا بل مزرعة، ولم يكن فيها مواطنون بل سكان ورعية وعشائر ومخابرات، وهؤلاء لا تحكمهم الوطنية، بل الولاء للسلطة والرعب منها ومن تصنيفاتها. ولا نجد حاجة إلى إثبات أن فضلات الوطنية السورية -كما عرفها السوريون خلال العقود الخمسة الماضية- قد غطت الشعب السوري كله؛ مواليه ومعارضيه، فقرًا وجوعًا وخوفًا وقتلًا وتعذيبًا وتهجيرًا واقتلاعًا من الوطن، ثم توّجته باحتلالات متعددة، تشارك السلطة القائمة في احتلالها الوطن والشعب والأرض والموارد، مثلما ستشارك في أزمة الوطنية السورية مستقبلًا، وفي صناعتها أيضًا.
“إعلان الوطنية السورية” هو إعلان جميل، ويبدو مثاليًا، من حيث المبدأ، لكن المشكلة في مثاليته هي أنها مثالية مقلوبة، لم تتجاوز الوطنية المثالية التي تأسست بعد الاستقلال وترسخت بالحديد والنار في زمن البعث. ولتوضيح المقصود بهذا الكلام، لا بد من طرح المقاربة التالية: جميع الدساتير والمبادئ التأسيسية للدول الديمقراطية في العالم هي مبادئ مثالية، وعلى الرغم من أن الواقع في تلك الدول ليس مثاليًا، فإنه يسير باتجاه واحد نحو المثال، وقد تتعثر الديمقراطية في تلك البلاد، أو تتحجر، أو تعاني أزمات خطيرة تهدد مبادئها، لكن يبقى الثابت هو الخط الذي يجمع الواقع والمثال معًا، في اتجاه واحد. المشكلة لدينا هي أن الواقع يسير في اتجاه معاكس تمامًا للمثال التأسيسي والقيم الدستورية، حيث انطلقت أهدافنا مع الأسد الأب -على سبيل المثال- من الوحدة والحرية والاشتراكية، لنصل بالضبط إلى التفتت والتشرذم، وإلى “شو هيّ الحرية اللي بدكن ياها!”، وإلى “بدكن حرية!”، وصولًا إلى “الأسد أو نحرق البلد”، وأخيرًا إلى اشتراكية الخوف والذل والجوع الشاملة. وبالتكرار المأساوي ذاته، انطلقنا مع الأسد الابن، من الشفافية ومحاربة الفساد التي افتتح بها برنامجه الوراثي (بدل الانتخابي)، لنصل إلى الفساد الشامل، الإداري والاقتصادي والسياسي، وإلى رأسمالية “الحبايب والقرايب” التي رفعت جيلًا جديدًا من “الحبايب والقرايب”، وجرّمت الاقتصاد السوري حتى العظم.
تلك العملية التي جعلت الواقع والمثال يسيران في اتجاهين متعاكسين، تظهر أصولها في تأسيس الدولة ذاتها من فوق، من القوى الكولونيالية التي رسمت دولنا، بالورقة والقلم، من دون النظر إلى الواقع السكاني، أو الانطلاق من حياة البشر وحاجاتهم ومطالبهم. وعوضًا عن قبول الواقع وإعادة الانطلاق منه لصناعة الوطنية السورية ضمن حدوده، لم يفعل نظام البعث سوى إنكار الواقع الذي رسمته خريطة سايكس-بيكو، من جهة، بناءً على مثال قومي متعال ومستحيل، ثم إحلال نفسه -من جهة ثانية- كقوة كولونيالية جديدة تفرض الوطنية من الأعلى إلى الأسفل، بما يخدم بقاءها ومصالحها، بالطريقة ذاتها التي كانت بها سايكس-بيكو تخدم مصالح المستعمرين وحاجاتهم “الوطنية”.
الوطنية المطروحة في “إعلان الوطنية السورية” تقع -في جزء واسع من طروحاتها- في المطبّ ذاته، حيث إن صناعة الوطنية السورية التي قد تنجي الشعب السوري من التفتت أو الضياع أو العودة للدكتاتورية، لا بد من أن تنطلق -باعتقادنا- من الواقع السوري القائم، وأن يُبنى المثال الوطني انطلاقًا منه وعلى أساسه، لا العكس. أي لا يمكن أن نصنع مثالًا للوطنية ينطلق من فضلات الوطنية السابقة، المتعالية، الشعاراتية الفارغة، التي فُرضت من الأعلى؛ مرة من الاستعمار، ومرة من نظام الأسد، من دون أن نسقط في إحدى النتيجتين: إما التأسيس النظري لدكتاتورية الدولة المركزية ذاتها، وإن كانت مزيّنة “باللامركزية الإدارية” معدومة القيمة التي يطرحها الإعلان، وإما عدم التأثير على الإطلاق في مجريات الواقع المتشظي القائم، ومضيّ المثال الوطني الجديد بعكس اتجاه الريح الواقعية الموجَّهة بقوى داخلية واحتلالات خارجية تتقاسم النفوذ السياسي بما يشبه “اللامركزية السياسية”، بين الشمال الشرقي الكردي/ الأميركي، والشمال الغربي/ التركي، والجنوب الروسي/ الإسرائيلي، والبقية معروفة للجميع. وما يعزز الفرضية الثانية، أي بقاء الإعلان بلا قيمة عملية، هو عدم خروج الإعلان من قوى سياسية موجودة أو مؤثرة؛ لا على الأرض ولا في السماء، ولا في الداخل ولا الخارج، حيث إننا ما زلنا نفتقد مثل تلك القوى والأحزاب والحركات السياسية التي تمثل الناس، بالمعنى الطائفي أو المناطقي أو الإداري أو الإثني أو السياسي البحت المترفّع عن كل ما سبق. على العكس، ما زال الرعب يبدو طاغيًا من نموذج المحاصصة الطائفية غير القابلة للتطبيق في سورية، نتيجة نسبة أكثريتها إلى أقلياتها على الأقل، ومن التقسيم الذي لن يحصل ولن يأخذ مباركة دولية، مهما تقسّمت سورية فعليًا من الداخل.
إن عدم محاكاة المثال للواقع والانطلاق منه هو بداية سير المثال بعكس اتجاه الواقع، والانفصال عنه، وما يُلمح به الواقع الحالي، بعد تسع سنوات من الثورة والحرب، هو مسألتان لا بدّ -باعتقادنا- من رؤيتهما جيدًا؛ المسألة الأولى علوّ صوت الناس العاديين، ورغبة المجتمعات المحلية -في مجمل مناطق سورية- في إدارة أنفسهم ذاتيًا، وهو ما أنتجته ميكانيزمات الحرية والاستقلال النسبي من جهة، والخوف من الآخر من جهة أخرى؛ أما المسألة الثانية التي تجري أيضًا في الواقع الحالي، فهي أن الروس الذين ثبتوا أقدامهم “شرعيًا” في سورية يسيرون باتجاه يجمع بين ما فعلوه بالشيشان، وما فعله حافظ الأسد في لبنان، حيث إن عمليات “المصالحات الوطنية” والتسويات التي تقودها روسيا، وتعيين مسؤول روسي بمنزلة المندوب السامي في سورية، يمضيان معًا نحو إعادة تأهيل مجرمي الحرب والعصابات النظامية وغير النظامية، وتمكينهم من قيادة المرحلة الانتقالية تحت إشرافهم. وما الاجتماعات الأخيرة مع المكونات السورية المتنوعة، من الجنوب إلى الشمال، إلا تعبيرٌ عن هذا الاتجاه الذي يوحي بأنهم إذا اضطروا إلى التخلي عن الأسد شخصيًا؛ فستكون البنية العسكرية والسياسية، المناطقية والطائفية، بما تحتويه من عصابات أُعيد تأهيلها أو تمّ تأسيسها، جاهزةً لقيادة سورية ما بعد الأسد. وإذا نجح هذا الأمر -ويبدو أن نجاحه واقع- فإنه سيلقي بكل ما يسمى “عدالة انتقالية” و”مواطنة متساوية” أدراج الرياح، وسيجعل المثال الوطني الذي صاغه إعلان الوطنية، في جهة، والواقع أو المستقبل السوري، في جهة معاكسة من جديد.
أخيرًا، قد تكون رغبةُ الذين كتبوا الإعلان في عدم الدخول بأي من الأسئلة الصعبة والإشكالات العالقة، في المسألة السورية، مفهومةً، لكن الواقع هو أن فقرة واحدة من التابوهات التي عاشت عليها الوطنية المثالية السابقة، مثل دين رئيس الجمهورية أو اسم الجمهورية، قد تلغي الأساس النظري كله الذي قام عليه الإعلان، فكيف يمكن الحديث عن “مواطنة متساوية”، إذا كان دين رئيس الجمهورية هو الإسلام! وإذا كان صحيحًا أن ممكنات الواقع الحالي لا يمكن أن تفرز رئيسًا مسيحيًا، فإن إغلاق تلك الإمكانية في المبادئ التأسيسية يقوّض مبدأ المواطنة المتساوية من أساسه. وقد تنطبق المسألة ذاتها على اسم “الجمهورية العربية السورية” التي تحيل إلى ثقافة الأكثرية، من دون اعتبار للمكونات الإثنية الأخرى، كردية كانت أو آشورية أو سريانية أو غيرها من المكونات، التي نتباهى عادة بوجودها، على أساس الغنى والتنوع و”الفسيفساء” المميزة لسورية، ثم نطمس وجودها في الأصل التأسيسي للدولة العربية. وهذا في المحصلة يحيل إلى تناقض قد ينتج عن الإعلان الذي جاء تحت صياغة أنه لا داعي للتطمينات “السخيفة” بين المكونات، وليس لأحد أن يطمئن أحدًا، ولكن اطمئنوا، فالدولة ستبقى عربية ورئيسها مسلم.
تحتاج صناعة وطنية جديدة إلى تجاوز التثبيت الشرجي الذي أورثته الدكتاتورية، ومواجهة التابوهات السياسية، بكل جرأة، مع
الاعتراف بهشاشة التكوين الوطني السوري، وبناء الجمهورية الثالثة انطلاقًا من تلك الهشاشة ذاتها.