١٢ تشرين الأول ٢٠١٣
«أين الثوار العلمانيون؟»، يتساءل أحد «اليساريين» الغربيين الجهابذة، والذي غدت مهمته الرئيسية أن ينافس نظيره الإسلاموفوبي على اليمين في مَن يعدّ أكثر على اليوتيوب اللحى والـ«الله أكبر» التي يصرخ بها المقاتلون والمتظاهرون.

«لمَ لم يحتشد السوريون في ساحات مركزية، فيكون لهم ’ميدان تحرير‘ على الطريقة المصرية؟»، يندب مراقب آخر بفهلوية شديدة (شديدة لدرجة أنه فوّت الاعتصام الضخم ضد النظام في ساحة الساعة وساحات الخالدية في حمص وساحة العاصي في حماه ‒يكفي ثلاثة..‒ والذين تم تفريقهم بشراسة من قبل قوى الأمن والجيش النظامي).

«الوضع في سوريا شديد التعقيد. حرب أهلية طائفية بالوكالة. دعنا نأمل أن يحلّ السلام ولنمتنع عن الميل لأحد الأطراف»، يعلّق أحدهم وقد كان عادةً يُمطرنا بمقولات مالكوم إكس ومارتن لوثر كينغ عن ضرورة التخلي عن الحياد مع وجود صراع أخلاقي هائل.

أصبح مرهقاً تكرار بديهيات الثورة السورية مرة تلو أخرى. كما أن الثوار السوريين، المضطهدين، ليسوا مضطرين لعبء الدفاع عن عدالة قضيتهم، بينما بشار الأسد يواصل الاستمتاع بالحصانة التامة والشرعية الرئاسية التي يُتعامل معه على أساسها. ولا يَدين السوريون بأي شروحات أو تبريرات لأولئك الذين يصرفون النظر عن تضحياتهم ويركّزون على دعم بل وتمجيد الكفاح المسلح والعنف الثوري في كل مكان سوى سوريا.

الجهل بخصوص الثورة السورية صارخ وصاخَ ولا يمكن التغاضي عنه، ومع ذلك، التأكيد على حقائق بسيطة مراراً وتكراراً مسألة لا يمكن تجنّبها، وما تزال ضرورية، على الأقل كي لا يقول أولئك الناس غداً إنهم لم يتعرفوا إلى واقع الثورة. إذا كنت تتجاهل الثورة السورية أو تقلل من شأن أفاعيل الأسد التي يصعب وصف مدى الوحشية والطغيان فيها، فأنت تغض الطرف عمداً. لا تقل غداً لم يحذروني ولم يخبروني.

بسبب ما لا يحصى من الحواجز التي تمزّق المدينة، وبسبب تواجد أمني مرعب لا مثيل له في أي بلد عربي، لم يتمكن السوريون من ملء ساحة مركزية في دمشق. متراس الثورة الشعبي الأساسي كانت المجتمعات المحافظة والكادحة في ضواحي وهوامش المدن، وقد كانت هذه المجتمعات أكثر من دفع الثمن جراء سياسات بشار الأسد وأبيه من قبله. نفس الناس الذين هتفوا «الله أكبر» ‒تلك الجملة التي بطريقة ما تثير رعب العالم المتمدن أكثر من كل صواريخ سكود والطيران الحربي والقنابل العنقودية في ترسانة النظام‒ هم نفسهم الذين غنوا للثورة في المساجد وحولوا مواكب تشييع الشهداء إلى مظاهرات أشبه بالأعراس. حتى تحت الحصار أو القصف أو التجويع الذي يواظب النظام كانوا بمنتهى الروعة يصونون إباءهم ويلقّنون عالماً ميتاً معنى الحياة.

هذا ناهيك عن أن الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بإسقاط النظام نفسهم نزلوا إلى الشوارع محتجّين على المتشددين الإسلاميين، ناهيك عن أنهم أُجبروا على خوض عدة معارك على عدة جبهات وحيدِين في وقت واحد. لو كان مؤيدو النظام ومدّعو الحياد ينتقدون النظام كما مؤيدو الثورة ينتقدون مقاومتهم المسلحة ومعارضتهم السياسية، ربما كان يمكن توفير الكثير من الدماء المراقة.

لم يمتلك السوريون كذلك ترف البقاء سِلميين. ولا ترف انتقاء حلفاء لثورتهم؛ وبالتالي من غير المعقول إدانة انتفاضة شعبية بالكامل ببساطة لأن الغرب أو طغاة الخليج العربي زعموا أنهم يدعمونها.

الثوار الجذريون في سوريا لم يختفوا في قبّعة ساحر. معظمهم بين اعتُقل أو قُتل أو أُجبر على مغادرة البلاد، لكن أولئك الذين صمدوا متمسكون بالمبادئ الأصل في الثورة السورية. فائق المير أحد هؤلاء. أو، فائق المير كان أحد هؤلاء؛ فقد انضمّ هو الآخر لقوائم معتقلي الضمير في السجون السورية التي لا تنتهي، وذلك حين قبضت عليه قوى الأمن في منزله في دمشق يوم السابع من تشرين الأول 2013.

ولد فائق في بلدة القدموس في ريف طرطوس، وتخرج من المعهد المتوسط للكهرباء التابع لجامعة حلب. أثناء الدراسة وثم العمل في سد الطبقة في محافظة الرقة، بدأ نشاطه السياسي في بداية السبعينات، وقد انتمى إلى ’الحزب الشيوعي السوري ‒ المكتب السياسي‘، والذي أسسه عام 1972 الشيوعي السوري المعروف رياض الترك. وكان ’المكتب السياسي‘ قد انفصل عن ’الحزب الشيوعي السوري‘ بقيادة خالد بكداش، الستاليني الحليف للنظام البعثي. ’المكتب السياسي‘ كان أحد أوائل الأحزاب اليسارية في سوريا الذي دعا علناً للديمقراطية والتعددية، مما أدى إلى حظره من قبل النظام.

الاعتقال الأول لـ’المير‘ حدث في نيسان 1979، حيث اعتقلته المخابرات العسكرية شهراً بسبب توزيعه مناشير. تلك المدة السريعة في السجن ستكون محض خطوة أولى في رحلة متخمة بالمضايقات والاعتقالات. في آذار 1983 طُرد ’المير‘ من عمله في سد الفرات بطلب من فرع الأمن السياسي، بسبب نشاطه. عام 1987 تم إنذاره بسبب اشتراكه في حزب محظور، وقد أجبره الإنذار على التخفي بينما كانت ابنته فرح في شهرها الثاني من العمر. وفي النهاية تم اعتقال ’المير‘ عام 1989 وحُكم عليه عشر سنوات سجناً فقط بتهمة مناضل شيوعي ديمقراطي. ولم يتمكن من رؤية ابنته حتى 1992 في سجن صيدنايا؛ تلك السنوات الخمس العجاف غيّرنَ من شكله لدرجة أن فرح لم تتمكن من ربط وجهه بصورة الرجل المعلقة صورته في المنزل ‒ بابا!

فائق المير، أو العميم أبو علي كما يناديه أصدقاؤه ورفاقه، كان ذا قلب لا يهزّه اليأس وروح عصية على الانكسار. حتى بعد 10 سنوات في لسجن، لم يضطرب الرجل ولم يتخلّ عن النضال من أجل الحرية والديمقراطية في سوريا. كان مشاركاً نشطاً في «ربيع دمشق»، ذاك الثوران السريع والجدل السياسي والاجتماعي الذي ازدهر بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000 وتبخّر سريعاً وانتهى باعتقال عدد من ناشطيه، ومنهم رياض الترك و’المير‘. الأخير بقي قيادياً في ’المكتب السياسي‘ حيث عقد مؤتمره السادس عام 2005، مغيراً اسمه إلى ’حزب الشعب الديمقراطي السوري‘ ومتبنياً مقاربة اليسار الديمقراطي.

في 2006، تم اعتقال ’المير‘ مجدداً، هذه المرة بسبب زيارة إلى لبنان وحداد على اغتيال الصحفي سمير قصير والسياسي الشيوعي جورج حاوي ‒ وكلاهما معروف بمعارضته للنظام السوري. اتُهم بإضعاف الروح القومية ووهن عزيمة الأمة، وهي أشياء يرمى بها أي ناشط ديمقراطي في سوريا. ليس مفاجئاً أن نظاماً عيّن نفسه تجسيداً لـ«الأمة» وراح يجرد السوريين من أصواتهم وحقهم في تقرير مصيرهم يتهم كل من يجرؤ على تحدي سطوته وسرديته بـ«وهن عزيمة الأمة».

كان ردّ ’المير‘ على التهم الموجة إليه في المحاكمة، كما ذكر الكاتب اللبناني زياد ماجد، أن قال «هدفي الحفاظ على الاستقلال الوطني وتحرير الجولان وإنهاء الاستبداد وإقامة الدولة الديموقراطية… إننا مستمرون في معركة الديموقراطية».

فائق المير جسّد القيم الحقيقية لليسار، ليس فقط لدفاعه عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بل أيضاً لأنه طالما عمل على الأرض بلا تعب وبلا خجل من أشياء قليلة الجاذبية. لقد كان تمرّده المدهش والتزامه المستحيل هما ما جعلاه يدفع الثمن من أجود سنوات حياته، وينفصل عن عائلته، محروماً من حقه في حياة أو ما يشبه حياة طبيعية.

بعد كل ذلك، منطقي جداً أن يكون فائق المير بين الطليعة التي انضمت إلى الثورة السورية من أجل الحرية والكرامة التي انطلقت في آذار 2011. يوم انطلقت الثورة، كان فائق المير قد أجبر على التخفي (مرة أخرى) بعدما داهمت قوى الأمن السوري منزله في طرطوس عام 2010 وحكمت عليه محكمة في دمشق غيابياً بخمس عشرة سنة. لكن ذلك لم يمنع ’المير‘ من المشاركة الفاعلة في الثورة، فقد شارك في مظاهرات ضد النظام في دمشق وريفها خلال المراحل الأولى من الانتفاضة.

بالإضافة إلى ذلك، عمل عن قرب مع الشهيد عمر عزيز، وكان بين قليلين آمنوا ودعموا بحماس فكرته ورؤيته بخصوص تأسيس مجالس محلية. ’المير‘ كان مع الشهيد عزيز حين أبصر النور المجلس المحلي في برزة في العاصمة دمشق. «شو هالشعب الرائع! شو هالثورة!»، يستذكر ’المير‘ صرخات عزيز وهو يشهد المشاركة الشعبية المذهلة في المجلس المحلي في برزة، والسعادة التي طغت عليه مع تحقيق الشكل الأول من الحكم الذاتي في سوريا الثائرة.

’المير‘ سيستمر بعد ذلك في تنظيم المساعدات وأعمال الإغاثة في الغوطة الشرقية، التي لا ينتهي حولها الحصار أو عليها القصف.

قدرة أبو علي على البقاء مفعماً بالأمل والإيجابية حتى خلال أشد اللحظات كآبةً مذهلة وملهمة. أحد أصدقائه المقربين، وهو ناشط شاب، يقول: «رغم أنه في التاسعة والخمسين، كنا نشعر أن بو علي أصغر منا جميعاً. كان يعاملنا بحنوّ الأب وروح الصديق، ولم يتصرف معنا بفوقية يوماً، ونادراً ما ذكر تجربته في السجون».

أبو علي، المعتقل السياسي السابق الذي لم يحدث أن استخدم تجربته في السجن عذراً له للتراخي أو للحصول على امتياز في المعاملة؛ الأب المحبّ والزوج الذي قضى وقتاً أطول ما بين السجن والخفاء مما بين أبنائه وزوجته الصامدة، سمر؛ الناشط الجذري المجتهد والذي، رغم انتمائه إلى أقلية دينية، لم يحبس نفسه في طائفة، وفضّل الإيمان بثورة الشعب وبأنه لا يحق لأحد ولا لطائفة طلب أو توقّع ضمانات مقابل الانضمام للثورة؛ الإنسان المتّقد الذين لم يتوقف عن المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وإلقاء الضوء على قضيتهم… أبو علي نفسه اليوم معتقل.

قبل أيام قليلة جداً من اعتقاله، كتب فائق المير على صفحته على فيسبوك دعوة لإطلاق سراح صديقه خليل معتوق في ذكرى اعتقاله السنوية الأولى. معتوق محامٍ وحقوقي معروف، وهو الذي دافع عن ’المير‘ في محكمة 2007. وللمفارقة المفجعة هما معاً في السجن الآن، وهما، كالملايين من السوريين، مستهدفان ومعاقبان بسبب كفاحهما من أجل غد أفضل لسوريا، غد بلا استبداد، غد بلا اعتقال سياسي، غد بلا أسد وأسديين.