ما هو المصير المحتمل لإدلب؟ وسط غياب أي ملمح لحل سياسي مقترح، دولياً وإقليمياً، وأيضاً في ظل غياب أية رؤية مستقبلية للحل لأجندة المعارضة باصطفافاتها المختلفة، والتي رهنت مستقبلها السياسي بطموحات ومصالح الدول اللاعبة في المشهد السوري، مع الإشارة إلى أن النظام السوري بحامله الوطني المصطنع، استطاع أن يستجمع قواه المدعومة من روسيا وإيران، وأن يضع نصب عينيه رؤية واحدة فقط هي استعادة المناطق التي خسرها سابقاً، ولو كلّفه ذلك إبادة القسم الكبير من أهالي إدلب والمهجرين إليها قسرياً، وتهجير ما تبقى من فائض الموت إلى تركيا أو الشمال المحرر الذي يخضع لفصائل الجيش الحر المدعوم من تركيا.

بإمكاننا ضمن هذا المشهد وبقليل من الروية والحكمة السياسية إسقاط المصائر التي تم تنفيذها في درعا والغوطة وريفي حمص وحماة والرقة ودير الزور على مصير إدلب المقترح، والقائم على تجميع “الجماعات الإرهابية”، ومن ثم الانقضاض عليهم بكافة صنوف الأسلحة دون مراعاة لقواعد الاشتباك وتحييد المدنيين عن النزاعات المسلحة، وتحت حجة الحاضنة أو الدروع البشرية يُترك المدنيون العزل لخيار وحيد إما الموت أو التهجير، إن نجا أحدهم من الموت المحتم.

سأستعير مصطلح “دولة إبادة وليس نظام ديكتاتوري” الذي استخدمه المفكر ياسين الحاج صالح في توصيف النظام السوري، وأتساءل هل النظام هو الوحيد الذي يبني محددات بقائه ضمن هذه المقولة التي انتهجها الأب أولاً ثم الابن تالياً؟ ألم تستخدم أمريكا السيناريو ذاته في الرقة؟ ألم تستخدم روسيا النهج ذاته في حلب؟ ولعل من المفارقة وسم نظام الأسديين بالنظام القمعي كما يقول الحاج صالح، لكن بإمكاننا أن نضيف أن النظام بدأ مشواره السياسي بالقمع والتنكيل والاعتقال، كما في حالات مشابهة للأنظمة الديكتاتورية (صدام وعبد الناصر وشاويسكو وفرانكو وتيتو وغيرهم) حسب الحاج صالح، ثم انتقل في مرحلة لاحقة إلى تنفيذ عمليات الإبادة (مجازر حماة وحلب وجسر الشغور في ثمانينيات القرن العشرين)، ثم تكللت بتنفيذ مجازر الإبادة الجماعية، التي نفذها الابن بحق السوريين بدءاً من انطلاق ثورتهم المنادية بالحرية والكرامة، والتي جاءت في إطار استكمال مشروع الإبادة الذي سيحول البلد إلى مزرعة خاصة، وهي مثلما قال ياسين “فرادة إجرامية” لا يمكن نزعها عن نظام الأسديين، وليست حكراً على الديكتاتوريات التي حكمت أو أرادت الحكم مدى الحياة، لكنهم (ويقصد الديكتاتوريات) “لم يعملوا على بناء سلالات حاكمة، ولم يخصخصوا الدولة، ولم يجعلوا الأبد، وما يقتضيه من حرب مستمرة على المستقبل، هدفاً أعلى لحكمهم”. وهل هناك أي ملمح لحل غير هذا الحل المبني على عنصر الإبادة، الذي تبناه النظام منذ أكثر من خمسين عاماً؟ وهل ما يملكه السوريون من المعارضة بقادر على إيقاف عجلة القتل والتدمير؟ وهل هناك مصير آخر لإدلب غير الموت والتدمير والتهجير؟ في الحقيقة لا بديل للحرب في منطق النظام والقوى المتحالفة معه، ولا بديل للحرب أيضاً في جعبة المعارضة المسلحة، ولا شيء سوى الحرب في منطق أمريكا ورعاة إسرائيل في دعواهم العدوانية المستترة بمحاربة الإرهاب.

إذاً هي الحرب ولا شيء سواها، المنطق السائد لنظام الأسد في توطيد أركان حكمه، وبناء دولة مبنية على منطق الإبادة، الذي يؤسس لقطيعة أبدية مع المجتمع، لكن هذه المرة بموافقة دولية، وبالدرجة الأولى موافقة أمريكية إسرائيلية، تنفذها بشكل مباشر الدولة الأسدية بمباركة ومساعدة علنية روسية وإيرانية، وأدوات وأموال أعراب الخليج أعداء الحرية والديموقراطية، وأعتقد أن مصير إدلب لن يكون مختلفاً عن مصائر أخواتها درعا أو الغوطة أو الرقة أو دير الزور، وربما ستكون النتائج أكثر كارثية بحكم وجود أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من سكانها ومن المهجرين إليها قسرياً.

وفي افتراق لافت ما بين الدولة الوطنية والدولة منزوعة الوطنية، يصف ياسين الحاج صالح نظام الأسديين بالقول: “الأبد والسلالة والدولة الخاصّة فوارق حاسمة عن الدكتاتورية. الدولة هنا لا تُستَخدَم لتنظيم المجتمع سياسياً، ليست دولة وطنية تقوم على القمع، بل هي دولة منزوعة الوطنية، تقوم على الاستعباد السياسي، أو على علاقة أسياد وأتباع، وترفض المشاركة في السلطة، وتسحق بعنف فائضَ الاعتراضات المحتملة على الأبد والسلالة. القَرَابة الاشتقاقية بين الأبد والإبادة تُسوِّغ تَصوَّر أنَّ الأبد لا يتحقق دون إبادة، أي دون قتل وتعذيب وإذلال على نطاق واسع للسكان، وهو ما يصادق عليه بالفعل نهج الحكم الأسدي في سنوات الأب والابن.. في حالة الأب جرى قتل عشرات الألوف واعتقال وتعذيب عشرات الألوف، وغُيِّبَ الألوف طوال عقدين في سجن تدمر من أجل أن تدوم تبعية من لم يسجنوا لزمن طويل”. وربما هنا مربط الفرس، حيث تؤكد كل المعطيات والنتائج المتوقعة لواقع الحال المؤلم والكارثي لما سيجري في إدلب، مع وجود فائض كبير جداً من الموت والاعتقال والتغييب والتنكيل، في صورة تؤكد مرامي النظام في استكمال مشروع الإبادة، وترسيخ أبدية الحكم في سلالات لن تنقرض بسهولة، لأنها نشأت وترعرعت بأحضان أمريكا وإسرائيل، وسط تهميش متعمد ومقصود لجرائم الحرب ضد الإنسانية ومحاكم لاهاي وغيرها، وتدمير ما تبقى من مقولات متعلقة بقواعد الاشتباك وتحييد المدنيين العزل عن النزاعات المسلحة، وتقييد مبادئ وأساسيات حقوق الإنسان، وتحويلها إلى مجرد حبر على ورق لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولن يكون هناك في المدى المنظور أي تأثير عربي أو إقليمي إلا بما يخدم مصالح إسرائيل وأمريكا أولاً، ثم ما يحقق القليل لفائض اللاعبين الآخرين في المشهد السوري، وختاماً سأستعير ما يلخصه المفكر ياسين الحاج حول الموقف الدولي والأزمة اللاأخلاقية التي يعيشها العالم في مقاربته للواقع السوري بالقول: “المشكلة أن الفكر السياسي في العالم، والنظام الدولي، والعالم، واليسار (أي شاغلي موقع العالم البديل، والمنتفعين حتى اليوم من ريوع هذا الموقع في غياب منافسين ثوريين)، في أزمة، ولا أحد يريد أن يرى أن فضاء الاستثناء السوري، أو دولة الإبادة في سورية، عنوان أساسي لهذه الأزمة، إن لم تكن جوهرها”.

المصدر: بروكار بريس