في اربعينيات القرن الماضي جلس ثلّة من القوميين العرب، يتباحثون في مصير حركتهم حديثة النشأة، وكان من ضمن ما تداولوه، دور العسكر في السياسة، وكان رأي أحدهم أنه يجب إقصاء الجيش عن الشأن السياسي؛ لأن تدخلّه سينقلب خرابًا، وضرب لهم مثلًا من بيئته:

يأتي البدوي لابنه بخروف صغير، فيظلّ الطفل يحرّض الخروف أن “اضربني برأسك” حتى يعتاد الخروف على العملية، ولا يدرك الطفل أن قرونًا للخروف بدأت تكبر، فيضربه بقرنيه -ذات مرة- ضربة تقضي عليه، وهذا حال الجيش إذا أُفسحت له فرصة التّدخل في الشأن العام.

أسباب كثيرة دفعت بالجيش إلى صدارة المشهد -على عكس ما أراد الواعون بنتائج ذلك-، وجعلته أداة التغيير، ومقرّر السياسات، وهو ما أجدب الحياة السياسية، وجعلها رهنًا بقرارات العسكريين، وضحالتهم، وحماقاتهم.

في المقابل مهّدت أنظمة عربية بترو دولارية الطريق لتيارات الفكر السلفي، التي عانت نكوصًا فكريًا مقارنة بأسلافها في بدايات حركة النهضة، لكي تصبح الندّ لأنظمة العسكر التي شكّلت خطرًا على أنظمة البترول.

لم يكن يدور في خلد الذين مهّدوا الطريق للحركات السلفية أن من مفرزاتها سيكون وحش ذو أنياب يقضّ مضاجعهم، ومضاجع شعوب العالم كلّه.

هو وحش التطرّف الذي بات اليوم وجه العملة الآخر للعنف والإقصاء، والممثّل الثاني على خشبة المسرح التي لا يعطى أيّ تيار فيها إلا دور ثانويّ.

نخادع أنفسنا إن لم نعترف أن المواجهة التي حصلت في مصر بين شباب الثورة ونظام مبارك، لم تكن لتحسم لو لم يكن للمؤسسة العسكرية دور في حسمها لصالح الثورة، وهو ما حصل بدافع كسر شوكة نخبة رجال الأعمال الذين اصطنعهم نظام مبارك؛ لكي يواجه بهم سلطة العسكر، فوجد الجنرالات في الثورة فرصة للانقضاض عليهم ودفعهم، مع من اصطنعهم، بعيدًا خارج المشهد.

وما مجيء الإخوان -مع الاعتراف بوجودهم الكبير في الشارع المصري لأسباب كثيرة منها، وربما أهمّها رافدهم الاجتماعي الخدميّ الذي لمسه كلّ المصريين-، إلا تجسيدًا لخلوّ خشبة المسرح السياسي من لاعب في قامة هذين اللاعبين: العسكر والإسلام السياسيّ.

ونخادع أنفسنا أيضًا إذا لم نعترف أن انقلاب الجيش المشؤوم في مصر، لم يكن بدون دعم شعبيّ لم يجد في حكم الإخوان ما تمنّاه وثار لأجله.

الأدوار إذن بين اللاعبين تبودلت على حساب الشعب، وهو ما تجاوب معه المجتمع الدولي بدعم الإخوان، إذ لا بديل أكثر قوة، ثم التكيّف مع الانقلاب، عندما وجد زخمًا شعبيًا خلفه.

الأمر اختلف في تركيا؛ لأن الإسلام السياسي هناك استطاع أن يجترح صيغة توفيقية بين الفكر الديني، وبين فصل الدين عن الدولة، ولكنّ محاولة الانقلاب الأخيرة ما كانت لتكون لولا أن كيانًا موازيًا -اعترف به الجميع وعلى رأسهم قادة الحزب الحاكم- موجود ومتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع، وهو كيان ذو صبغة إسلامية أيضًا، استطاع أن يستخدم قوة الجيش ليقود محاولة انقلاب، يوهم نفسه من يقول إنها محاولة ليست ذات شأن.

الأمر الذي يعني أن خطوات كبيرة تفصل بين الديمقراطية والإسلام السياسي، ولولاها لما استطاع الكيان الموازي أن يجد له كلّ هذه المواقع في ثنايا المجتمع والدولة.

ولولا حضور هذا الكيان الموازي لما تحرّك الحزب الحاكم بعد فشل الانقلاب -الذي أفشله الشعب الذي سئم حكم العسكر- أن يندفع بهذه الصورة المرئيّة اليوم إلى حملة تطهير واسعة النطاق، يُخشى أن تكون ردّ فعل انتقاميّ غير مدروس يذهب بديمقراطيته التي حماها الشعب.

إن التجربة التركية تجربة رائدة بلا شك، ويمكن لها أن تغتني بما حدث في الأسبوع الماضي -عندما هبّ الشعب للدفاع عن الديمقراطية، مؤيّدًا بأحزاب المعارضة، وبقوات من الجيش-، ولكن بشرط أن يُستثمر الحدث لتمهيد الطريق أمام مزيد من الديمقراطية، لا لمزيد من تكريس قصورها الذي يؤكّده وجود ملايين الأتراك التابعين للكيان الموازي.

وليعلم قادة الحزب الحاكم في تركيا، أن الشعب الذي حمى الديمقراطية معهم هذه المرة، يمكن أن يحميها منهم إذا حاولوا تقليمها على مقاس يحدّدونه هم في المرة القادمة.

أما من مهّدوا الطريق سابقًا للتيارات السلفية، فهم الأجدر ببذر بذور الديمقراطية؛ لأنه قد آن الأوان لكي يتحسّسوا رؤوسهم، ويدركوا حجم فواتهم، وعظم مساهمتهم في صنع فرانكشتاين التطرف، ولديهم من دروس الماضي والحاضر عبر إذا أرادوا الاعتبار، وإلا فإن الشعوب قد أثبت قدرة على اقتحام المسرح والكفّ عن مجرد لعب دور المتفرّج.

بقلم رئيس التحرير